-1 – يتميّز الخط العربي بقدرته على الانسياب التشكيلي في مساحات انزياحية تمتد من شرنقات الحيّز الورقي إلى رحابة الامتدادات البعيدة في ذهنية المتلقي ، في تكوينٍ جماليِّ يمارس تموجاته المترنحة ، آناً ، في وضوح تسطيري يدغدغ عاطفة القارئ السطحي ، و آناً ، في تجلّياتٍ زئبقية تحقق نوعا من التوتّر الجميل في أنساق التلقي … من هنا عبقرية هذا الخط – دون ادّعاء تفرّده الشوفيني بهذه الخاصّية – لكنه يذهب بها بعيدا في اجتهادات نوعيّة تجعل المتلقي في وضعية المُحاوِر لإمكانيات اكتشاف الأنماط الخطيّة التي تسبح فيها كفُّ الفنان و روحُهُ معاً … و مثال ذلك قدرة بعض الحروف على الخروج من دائرتها التقليدية الموسومة بالهندسة الأكليدية إلى قابلية الانرسام العبقري الهيولاني الدائري الحلزوني المفتوح دائما ، و القادر ، إبهاراً ، على احتضان مجموعة من الحروف في تجانس غريب غرابة جمالية ذات حمولة استيطيقية دلالية ، لا غرابة فرجة فولكلورية …

-2 – إن ما يحدث من تراكم في الإنتاجات التشكيلية في مجال الخط العربي الإسلامي ، لا يعدو أن يكون احترافا يمارسه حرفيون متمكنون من آليات الخط العربي و ضوابطه و قياساته و ورقه و أقلامه و أنواعه و أضربه و هلمّ جّراً مما يدخل في علم الخط العربي و قواعده ، و الذي يحسب له ألف حساب في التراكم الإبداعي الحضاري الكوني … لكننا في هذا السياق نود الإشارة إلى إمكان النقد الباني لا في تهجم نرجسي و لا في تحامل مرضي ، و إنما في توجّه مسؤول و غيور على حِمى هذا الفن الجميل … من هنا أقول إن الاحترافية وحدها لا تكفي لنبني ثراءً و تراثا تشكيليا متميزا لا على مستوى النوع فحسب و إنما حتى على مستوى الخطاب … ما أقصده هنا هو ضرورة البحث عن تشكلات الفن الخطي العربي داخل الخطاب ، حتى يتم إخراجه من شرنقة المعنى . و الفرق بين هذا و ذاك فرق شاسع لا مشاحة فيه و لا جدال … الأول ، و أقصد ” المعنى ” تبدو فيه اللوحة الخطية جزيرة معزولة عن الجسد الكوني الباني لنسغ الإنسان العربي في خصوصية مستقلة بهوية تشييدية لا بهوية جاهزة ، كما تبدو فيه اللوحة عروسا مستكينةً إلى قدر الفرجة ، حيث المتفرج أو المشاهد يمارس نوعا من الذكورية الهجينة على كل الخلق الجميل الذي تحتضنه اللوحة ، في غياب نظر فني ناضج … و في هذا السياق تتحول اللوحة الخطية إلى بؤرة منزلقة مليئة بثقافة الاستدرار للحظات العجائبية و الغرائبية سواء تعلق الأمر بمشاهد عربي من صميم اللحمة العربية ، أو تعلق الأمر بمشاهد أجنبي يمارس على فن الخط نوعا من السادية الفنية و هو يعزل تراثا كبيرا بهذا الحجم داخل شرنقة الغرائبي المدهش في نسق الدغدغة لعاطفة عابرة لا في نسق المحاورة الثقافية … و في الثاني و أقصد ” الخطاب ” تبدو اللوحة الخطية كائنا فنيا يمارس نوعا من التميّز و الحضور المستقل و الهوياتي و المندمج في المساءلات الكونية لا من باب الاندهاش و التقليدانية و الإعجاب الدوني و الاستلاب الرخيص ، و إنما من باب المثاقفة المؤسسة على فكرة التدافع … و التدافع هنا يسقط من حسابه كل أشكال الصراع الحضاري ، القائم على فكرة الصدام كما ذهب الى ذلك ” صمويل هنتنجتون ” و تلميذه ” فرانسيس فوكوياما ” ، على اعتبار أن الصدام يلغي الآخر فيما التدافع يبقي عليه حتى تستقر الحضارة على الأصلح دون القضاء على الآخر …إن الخط العربي مسؤول جدا عن حضوره كقوة مدافعة عن التراث و الهوية العربيين و الاسلاميين في رؤية تتبنى فلسفة التغيير لا شعارات الفن البرناسي المتعالي على هموم الإنسان العربي الإسلامي …هكذا تتبدى على السطح قوة الواجب قبل قوة الحق … واجب الذود عن الهوية العربية الإسلامية خارج الإمتاع ، و خارج الاندهاش و خارج السلبية المستحضرة للآخر في مرايا التميز الصوري … لا بد من الانطلاق من رؤية استراتيجية في بناء الفن و بدون رؤية تتسع بقع الضبابية و تضيع الطريق … إن فن الخط العربي الذي اكتسح الذائقة العالمية الآن هو نفسه الخط العربي الذي يخلط بين الفنان الاحترافي القابض على آليات الرسم ، و بين الفنان الممتلك لقوة الخطاب ، و هذه القوة لن تتأتي إلا بامتلاك رؤية واضحة للذات و للوجود و للآخر و للعلاقات المفروضة حضاريا بين هذه الأقانيم الثلاثة في محاورة نديّة لا في استجابات انفعالية …

-3 – ليسَ خطّاطاً أو فنّاناً في مجال الخط العربي من يبدع عملا فنيّاً ثم يدعونا إلى استهلاكه في سلبيةٍ استمتاعية رخيصة ، أو في استمناءٍ جمالي محدود ، تنتهي صلاحيتهما بانتهاء مسلسل الفرجة . إن الفنّان الفعلي هو من يرسِلُ إبداعه طائرا بأجنحة من ذكاء ، تدْعونا دون قصدٍ إلى قراءة بؤر الفنّ في هذا التحليق ، و تستبيح كل بكارات المخيال عندنا كي نرسم معه اللوحة في اكتمالها و في تجلّيها الجمالي الجمعي ، و تفتح أمامنا كل إمكانيات التأويل لعمله الفني .

العمل الفني ، و خاصةَ البصريّ منه ، هو عمل ماكر ، يخدعنا في سطحيته الأمكر … لهذا لابد أن يكون الرهان فيه هو تجسير التواصل معه عبر إمكانيات التأويل لمغاليقه و لمساربه و لاستغلاقه و لانفتاحه أيضا ، في اتجاه المساهمة في بناء رؤية تفاعلية تتسم بالدينامية عوض الستاتيكية المنخلقة في جنينية الألوان و الأصباغ التي اقترحتها ذائقة هذا المبدع .

الفن ، و من منظور حركي لا بد أن يخرج بالمُنجز الفنّي من شرنقاته الخصوصية الضيقة القابعة في ذهنية المبدع ، إلى حيوات ، تستدرج ثقافة المحاورة التي تُشغّل ذهنية المتلقي أيضا ، و تدعوه في لباقةٍ سيميائية إلى ممارسة التأويل لا كحق مشروع ، فحسب ، و لكن و أيضاً ، كواجب أنطولوجي يتحدد أساسا في الإيمان بالنقص الذي يطال كل عمل فني ، الذي لا يكتمل إلا بمعية المتلقي الذكي .

ما مسوّغُ هذا التحبير ؟ إن التأويل يأخذ مصداقيته من العمل الفني ذاته ، لأن اللوحات الفنية الآتية من سديم الخط العربي أو من سديم الرسم و التشكيل ، هي مجموعة من الرموز بخلاف النصوص المقروءة و التي تحبل بالرموز لكن بدرجة أقل ، لأن اللغة تحمل معجمها الشارح و المسهّل لعمليات التلقي ، و التي لا تستعصي إلا في عالم المتون المفعمة بالانزياح … أما لوحات الخط العربي فهي كتلة من الرموز ، و التي لا تقف عند حدود الأحرف العربية المتراصة و المؤدية للمعنى … هي أكبر من ذلك ، إنها عوالم فنية مبطّنة بكثير من الرؤى … من هنا ضرورة التأويل ، باعتباره إضاءات قويّة لكل ماهو فنّي آتٍ من لاوعي المبدع و وعيه بدرجة ثانية .

التأويل ، ليس تقليعةً يمارس فيها المحلل قدرته على التعسف على العمل الفني في تسيّبٍ لا ضابط له … التأويل منهج لقراءة الأعمال الفنية العامرة بالدلالات و الأبعاد . من هنا وجب تقدير سلطة التأويل في حدود القراءة المنتجة و المضيفة و الداعمة للفن قبل أن تكون قاضيةً عليه قابضةً على تلبّسه في أقفاص الاتهام …

-4 –  يقول بعض المحسوبين على مجال النقد الفني ” إن التقارب بين رسم الحروف يقود الى تحريف بعض الكلم كالذي يحصل بين الراء والدال والحاء والميم ” … إنّ مثل هذه الخرجات  بعيدة كل البعد عن موضوعية الطرح و علميته لأسباب ، منها ، أولاً: انّ خطاب التشكيل العربي يقتضي متذوقا عربيا ملمّاً برسم الحروف العربية و بالتالي فنسق التلقي يتطلب متلقيا عارفا قادرا على التمييز بين حرف الراء و الدال و بين حرف الميم و الحاء على اعتبار أن من يعرف الأصل يسهل عليه معرفة تقلبات هذا الأصل و تموجاته و تحولاته الجمالية الانسيابية في سياقات متعددة لا تحول دون استيعاب المتذوق لنواة الحرف مهما تغيرت ملامحه ، ذاك أن معرفة الفرع هي من جنس معرفة الأصل … ثانيا : إذا كان المتلقي عاديا من البسطاء الذين لا رصيد لهم في التلقي الجمالي فإن الأمر لا يعدو أن يكون عتبة عابرة ، فقد يكفي أن يتم توجيه هذا المتلقي بإشارة بسيطة بإحالته إلى موضوع التشكيل ليستكمله ، هو ، بانسيابية فطرية لا يعوقها عائق ، مادام هذا المتلقي العادي محملاً بمشتركه الثقافي و تمثلاته الذهنية للمنطوق ، فيسهل عليه تحويله إلى مقروء طوع البنان … ثالثا : إن رسم الراء يختلف عن رسم الدال في كل الأنماط الخطية و ربما يود هؤلاء التلميح إلى الرسم الديواني الذي يمثل لديهم حساسية مغلوطة … فالراء في الديواني لا علاقة لها بالدال الديواني مهما تقاربا لأن المسألة ترتبط بتكوين الحرف لا بتفرعاته …

-5 –  خارج رهان الجمال ، ماذا يمكن للفنان المتهم بالخط العربي أن يبحث عنه من رهانات ؟ إن سؤالي هذا يمكن أن نقرأه في صيغةٍ أخرى أكثر جرأة : هل يكتفي الخط العربي بالتعبير عن ذاته داخل ثنائية الإمتاع و المؤانسة ؟ فحسب ؟ و هل لنا الحق في مساءلة المتهمين به و المالئين ساحاته بإبداعاتهم الغزيرة ، لنقول لهم : كيف يمكن لكل أشكال الإبداع المتعلقة بهذا الفن أن تساهم في التغيير ؟ و سؤالي هذا سؤال آثمٌ لأنني أرفض أن ينبري لي أحد من السّدنَة الحاملين لفكرة الوصاية و يقول لي : إن فن الخط العربي يكفيه وجوده ” البرناسي ” المتعالي عن هموم الإنسان العربي و الإسلامي بشكل عام … و يكفيه أنه سليل ثقافة دينية حمتْ التراث و نافحتْ عنه … لا ننكر هذا البتّة ، و نثَمّنه أيما تثمين ، و لكن لا أحد له الحق في أن ينكر علينا حق المساءلة و حق البحث عن إمكانٍ آخر أكثر توغلا في نسغ الإنسان و هو يمارس هذا الفن سواء من قبيل الإنتاج أو من قبيل الاستهلاك أو من قبيل إعادة الإنتاج … إن هذا التراكم الحاصل في سيولة الإبداع في مجال الخط العربي تراكم جميل و جليل و قوي الحضور ، لكنه في نظريات التغيير إذا لم يتحول فيه الكمّ إلى كيف ، فإن السؤال سيكبر فينا و يتعملق جدا . و نحن في هذا السياق لا نملك القدرة على صناعة البدائل بقدر ما نملك فقط بعض القدرة على المساءلة في أفق بناء الإنسان العربي الإسلامي

-6 –  نظرا للرداءة التي بلغَ سيلُها زُباها في رسم أبنائنا للخط العربي في كراريسهم اليومية ، أصبح من الواجب التفكير في إبداع حلول لهذه الأزمة التي يبدو للبعض أنها جانبية لا تؤثر على الناشئة و على هوياتهم و امتدادات هذه الهويات … فيما الأمر إشكالي و عميق … من هنا ، يصبح التفكير في الحلول الموسمية أو الترقيعية أو المعالجات المعزولة عن السياق الجمعي الحضاري العربي الإسلامي … تفكيراً مجرّداً من صيغِهِ المسؤولة و الغيورة ، و يتحول إلى مجرد صرخة باهتة في وادٍ أبهت … إن المسألة لا تتعلق بناشئة لا تتحكم في رسم الحرف العربي ، بقدر ما تتعلق بصيرورة وجودية تنغرس يوميا في ثقافة الاستلاب الحضاري … والأمر موكول لصناع القرارات الثقافية الوازنة ، بضرورة التفكير الجاد في إطلاق مشروع عربي اسلامي كبير تحت عنوان ” خطّ عربي جميلٌ للجميع ” على غرار مشروع ” قراءة للجميع ” … مشروع تتجند له كل الطاقات المؤسسية و كذا المدنية كي ينحج باقتدار .

الأربعاء : 10 أبريل 2019.

 

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…