إن وصول مجتمعات العالم الثالث أو النامية إلى إنضاج شروط تحقيق التنظيم النهائي للعيش المشترك في إطار نظام سياسي ديمقراطي ليس بالأمر الهين. إن سيادة السلطة واندماجها القوي والعقلاني في أوساط الجماهير فوق أي تراب وطني بحدود معلومة تتطلب نوع من التناغم القوي بين طبيعة ووثيرة إنتاج القواعد القانونية ومستوى تكريسها وترسيخها على مستوى الممارسة الميدانية في حياة الأفراد والجماعات. إنه التناغم الذي يضفي على السلطة السيادية داخليا وخارجيا طابع الديمومة على تنظيم الحياة العمومية بمؤسسات ناجعة في أدائها وتدبيرها، تناغم يضمن السرعة والحكمة والتبصر في معالجة كل القضايا المطروحة على المستويين الزمني والجغرافي، ويرفع إلى أعلى المستويات قوة وقع سياسات التحديث في الإدارة والاقتصاد والثقافة والسياسة في سياق مسار معلوم المراحل، ويمكن بالتالي من إنضاج شروط تجاوز مفهوم الرعية وتعويضها بمقومات المواطنة. إنه الأفق الذي يمكن المواطنين من المشاركة القوية والواعية في اختيار ممثليهم على أساس الكفاءة والفعالية والمسؤولية والشفافية ومحاسبة مؤسساتهم وتتبع أدائها. إنها المرحلة المجسدة للوطنية، كانتماء ومشاركة في السلطة، وكرابط وحيد بين سيادة الدولة والشعب، وكقاعدة سياسية صلبة لتثبيت التنظيم المؤسساتي الدائم المنتج باستمرار لوسائل السيادة الوطنية في إطار الاحترام التام للنظام العمومي داخل حدود الدولة، نظام يجعل صدى ومنطق الفعل الديمقراطي للدولة مدويا على المستوى الدولي إلى درجة تبوؤها تفاعلاتها الداخلية والخارجية المكانة العالمية التي تستحقها. إن الوصول إلى هذا المستوى من النضج المؤسساتي والمجتمعي يجعل احتكار السلطة من طرف القوة العمومية مرادفا للقدرة الهائلة على الاستجابة للحاجيات الأساسية للسكان والحفاظ على تضامن المجتمع بشكل دائم.
وباستحضار ما سبق، لا يمكن لأي مغربي أن ينكر أن بلادنا قطعت عدة أشواط في بناء الدولة. لقد عاش الشعب المغربي ونظامه الملكي الدستوري صراعا عنيفا دام طويلا تميز بتصادم الأجندات السياسية في محطات تاريخية معلومة. لقد تحول المغرب، بسبب الاحتكاكات والمواجهات الداخلية والخارجية إلى فضاء للتفاعل السياسي الإيديولوجي، تفاعل توج في آخر المطاف بانفتاح سياسي تخللته عدة فترات سياسية تميزت بالارتباك والارتجال المعرقل للاستمرارية في تحقيق مقومات الانتقال الديمقراطي. لقد شاركت المعارضة التاريخية في تدبير الشأن العام بتعيين حكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي (الكاتب الأول لأقوى حزب معارض)، وعاشت الدولة والمجتمع محاولات جادة لتطبيق المنهجية الديمقراطية من خلال ربط الاستحقاقات الانتخابية المختلفة بالبرامج السياسية للأحزاب وتقديم الحصائل في وسط وآخر الفترات الانتدابية. لقد حاول المقاوم اليوسفي تكريس الثقة بين المؤسسات بشكل كان يطمح من خلاله أن يلعب أدوار الرجل الثاني في هرم السلطة في البلاد بمنطق جديد يرسخ الاطمئنان وقوة الوساطة في العمل السياسي. بعد ذلك، عاشت البلاد مرحلة انتدابية بحكومة سياسية يرأسها تكنوقراط (السيد جطو)، مرحلة أهم ما ميزها هو إدخال عبارة جديدة في القاموس السياسي المغربي وهي “الخروج عن المنهجية الديمقراطية”، ليليها بعد ذلك تعيين حكومة برئاسة عباس الفاسي (الأمين العام لثاني أقوى حزب معارض بالبلاد). وفي إطار التفاعل الاضطراري مع التطورات الإقليمية والدولية، كانت الفرصة سانحة لمشاركة الإسلاميين في الحكم ابتداء من سنة 2011 (أقوى حزب معارض لتجربة حكومات الانتقال الديمقراطي التوافقي).
بالطبع، في إطار هذا المسار التاريخي الهام الزاخر بالأحداث لا يمكن لأي متتبع غيور على المستقبل السياسي لبلاده أن لا يطرح السؤال التالي: أين وصل مغرب اليوم في ورش بناء دولته الديمقراطية الحديثة؟
نطرح هذا السؤال في سياق سياسي جديد ابتدأ منذ بداية التسعينات وتميز بحدث دولي تاريخي بالغ الأهمية وهو إعلان النظام العالمي الجديد. إنه سياق بأبعاد اقتصادية محضة رفع شعار الحرية الاقتصادية والسياسية مشددا على جعل تقوية الروابط بين مفهومي الدولة والديمقراطية شعارا بارزا لمرحلة ما بعد هدم جدار برلين. إنها الروابط التي لم تكن موجودة قبل هذا التاريخ بحيث كان القمع التعسفي الاضطهادي موجودا ومقبولا دوليا إلى حد ما (في زمن الحرب الباردة). لقد عرف القانون الدولي، بالرغم من النواقص التي تميز تطور الأحداث المرتبطة به، عدة تراكمات حددت نسبيا بشكل رسمي طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لقد تشكلت المجموعات الاقتصادية (الاتحاد الأوروبي كنموذج) وأصبح شرط الالتزام باعتماد الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الكونية شرطا أساسيا لطلبات الانضمام إليها.
ونظرا لكون المغرب كان بلدا مستعمرا من طرف فرنسا، التي تعتبر اليوم شريكا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لبلادنا، أرى أنه من الأهم في هذا المقال التركيز على مسار بناء الدولة الفرنسية العصرية كمرجع لاستنباط الدروس، لأترك للقارئ حق تقييم الورش المفتوح منذ الاستقلال في بلادنا لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة. إن التركيز على فرنسا كنموذج أساسه أولا استحضار المعطيات التي ذكرتها أعلاه، وثانيا كون التفاعلات والصراعات التي عرفها مجتمعها منذ القرن الثالث عشر الميلادي تجسد اليوم نموذجا تاريخيا ناجحا لقيادة مسار التنمية الداعم لمسلسل الانتقال الديمقراطي من خلال توفير شروط جعل القوة المؤسساتية آلية لتجاوز الفكر التقليدي الإقطاعي والكنائسي الذي تحكم في مصير الدولة والشعب على السواء لعدة قرون.
الكل يعلم أن مقومات الدولة العصرية بفرنسا هي تتويج لحكم أربعين ملك. إنهم الملوك الذين كرسوا كل الجهد من أجل تحرير فرنسا من السيادة الإقطاعية والكنائسية. لقد برزت أول مؤشرات ظهور دستور الدولة في عهد الملك لويس. لقد مرت الدولة في القرن الثالث عشر بمرحلة وسطية أساسية سميت بالملكية الفيودالية. إنها المرحلة التي سهلت نجاح الدولة في تجاوز النظام الإقطاعي والمرور إلى النظام السيادي من خلال مأسسة علاقات السلطة الملكية مع التابعين لها، بحيث تم على المستوى التدبير المالي استبدال نظام المساعدة الفيودالية بقرار مؤسساتي لجمع الضرائب، وفرض العدالة الملكية مكان السيادة الإقطاعية والكنائسية. وتم تأسيس مؤسسة عمومية لاستقبال ودراسة شكايات المواطنين، وعرضها على الملك، والعمل على تعويض المتضررين، وخلق إدارة ملكية قوية مكلفة بتقييم تدبير ممثلي الملك ترابيا ومركزيا لتفادي الشطط في استعمال السلطة. لقد لخصت عبارة جان لوك “الدولة تتقدم مقنعة” منطق مسار بناء الدولة العصرية في عهد لويس. لقد كانت إنجازات هذا الأخير بمثابة دعامة مؤسساتية قوية مكنت الملك فيليب لوبيل من تحقيق انتصار القانون الملكي على القانون الروماني والتقاليد والعادات البالية. لقد تحول الملك إلى إمبراطور ملكيته بتملكه السلطة التشريعية التي حررته من أي التزام بأي قاعدة تقليدية سابقة. لقد توج هذا المسار بارتقاء القانون العام لعاهل البلاد إلى درجة تحول من خلالها إلى سلطة قادرة على محو كل التقاليد التي لا تتماشى ومسار تحديث الدولة بجرة من خط الريشة. لقد توالت عمليات خلق وتقوية مؤسسات الدولة: لقد تفرع البرلمان على محكمة الملك، وتقوت مؤسسات المراقبة وغرف الحسابات وإدارات تدبير العقار العمومي وحركية الممتلكات، وارتقى القضاء إلى مستوى تحقيق الإنصاف في تطبيق العدالة تحت مراقبة الملك.
لقد تطورت التشريعات إلى أن تم تقنين التمييز بين شخص الملك والعرش بحيث توج ذلك بترسيخ المبدأ (في القرن 16) الآتي :”الملك، والعرش، والعدالة لا يموتون” (مات شخص الملك عاش الملك). كما أن بتقنين مبدأ “الوقف” أصبحت ممتلكات العرش خارجة عن ممتلكات الملك. لقد أكد المؤرخون أن الملك لويس14 لم يتفوه يوما بعبارة “الدولة هي أنا” بحيث تحول العرش بحكم قوة القانون إلى نظرية عامة. لقد تربع عاهل البلاد بقوة التراكمات والمكتسبات على أعلى قمة في هرم السلطة ودوره يتجلى أساسا في حماية العدالة، أما الدولة، فأصبحت تتوفر على إطار دستوري وعلى قوانين تنظم انتقال العرش بالوراثة، واستمرار العرش والدولة وتطبيق نظام “الوقف” على ممتلكات وعقارات مجال العرش. لقد تراكمت مستلزمات التحديث إلى أن تم تثبيت الدور السياسي الخالص للملك مدعوما بإدارة عمومية قوية.
إجمالا، لقد تطورت وضعية الدولة الفرنسية على المسويين الدستوري والقانوني إلى أن أصبحت خاضعة لنفس القواعد القانونية التي يخضع لها الخواص، وإلى أن تحول الفضاء العام إلى فضاء للحريات والديمقراطية والمبادرات البناءة. لقد توالت الإنجازات إلى أن أصبح رواد الكنسية فاعلين أكثر في المجال الاجتماعي، ليصبح العمل السياسي الفضاء الشاسع لتنافس البرامج والأفكار الإيديولوجية ولتقييم المنجزات والحصائل.
إن تجربة فرنسا في تحرير المجتمع الفرنسي من الطلاسم والأساطير الخرافية مر من عدة منعطفات، وأعتقد، وأنا أطرح هذا الموضوع الشائك، موضوع تحقيق التجاوز المجتمعي للتقليدانية ثقافيا وفكريا، أن ما تعيشه اليوم بلادنا، بإيجابياته وسلبياته، يتطلب لا محالة إنضاج مقومات وشروط جديدة لتعاقد سياسي مجتمعي جديد واضح المعالم وبالتزامات لا يمكن لأي طرف التملص منها، تعاقد يلتحم من خلاله الشعب المغربي من خلال منظماته السياسية بالعرش العلوي بالقوة اللازمة من أجل التقدم بالسرعة المطلوبة في مجال تحديث الدولة الديمقراطية بالشكل الذي لا يترك أي هامش لانبعاث النزعات الرجعية بنفس جديد.
الثلاثاء : 09 أبريل 2019.