قادتني محاولة فهم أسباب وبواعث الإرهاب الإسلاموي الذي ضرب مدينة الدار البيضاء في 16 مايو 2003 إلى ملاحظة أن الأغلبية الساحقة من هؤلاء الإرهابيين جهلة ما يزالون في ريعان شبابهم، كما أنهم ينتمون إلى أوساط اجتماعية فقيرة، فكان مما استخلصتُ أنه غالبا ما لا يتجاوز أبناء الأسر الفقيرة والمحدودة الدخل المستويات الدنيا من التعليم، كما أنهم لم يتعلموا شيئا تقريبا في المدارس، ولا يزاولون أي مهنة فعلية، حيث غالبا ما يحول مستواهم الدراسي المتدني بينهم وبين الاندماج في سوق الشغل…
إنها إذن البطالة! والأيدي العاطلة نجسة، كما يقول المصريون. وفي ظل هذه الأوضاع، يصبح الشاب فريسة سهلة لجماعات الإسلام السياسي الإرهابية التي تتكفل بتلبية “حاجاته المادية والروحية”. فهي تمنحه وظيفة بدرجة “إرهابي”، بل يفتحون في وجهه سلم الترقي في الوظيفة ليصير “أمير قرية”، ثم “أمير مركز”…، وبذلك تغريه هذه الوظيفة بما تكسبه من التوفر على دخل قار، وامتلاك سلاح، وسلطة، وهيبة روحية نافذة، ومن ثم ينتابه شعور بأنه يمتلك صحيح الدين وأنه جدير بتمثيل الله على الأرض… فإذا حقق رغبات الجماعة وفتك بـالآخر “الكافر”، فاز بالمال وتركزت سطوته، وإن قٌتِلٓ من قِبٓلِ من كان يرغب في قتلهم، أو انتحر فاز “بالشهادة”.، حسب ما يَتوهَّم.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الجماعات الإرهابية تتشكل فقط من “موظفين مأجورين”، مما يفرض التساؤل عن مصادر هذا التمويل غير المشروع.!! هناك أيضا عوامل تتفاعل مع الواقع الاجتماعي والواقع التعليمي فتنتج لنا شابا مؤهلا للانخراط في وظيفة “الإرهابي”.
لقد افتقد هذا الشاب عبر مراحل التعليم إمكانية الفهم السليم للدين، بل تعرضت العملية التعليمية طوال عقود لغزو منظم من قبل الوهابية. ونتيجة رضا البعض، وغياب الرغبة في المقاومة لدى البعض الآخر…، تمكن هؤلاء من إفساد المنظومة التربوية، فيتم الهجوم على الصغار، منذ ولوجهم المدرسة، برموز الإسلام السياسي من خلال الكتب المدرسية الرسمية… وبتقدمهم في الدراسة، يتمكن هؤلاء الغزاة الدهاة من غرس الكثير من هذه الرموز الخطيرة في عقلهم ووجدانهم. للأسف لم يفلح نظامنا التعليمي، عبر مدة طويلة، إلا في ترسيخ قواعد التقليد والنقل الجامدة دون إعمال العقل، فكرس في عقول التلاميذ تقبل كل ما يقال دون دليل أو حجة…
أظن أن حملات التكفير والأعمال الإرهابية لا تزدهر إلا مع الجهل وشيوع الفكر التكفيري في عقول الشباب. وهي تنتعش بوجود أجهزة ثقافية ضعيفة القدرات والإمكانيات، تُحاصَرُ أعمالها بذريعة الكفر والإلحاد والانحراف الأخلاقي. كما أن أجهزة الإعلام تدفن رؤوسها في كثبان الرمال كالنعام، خائفة من ولوج مناطق شائكة. ثم إنّ أغلب المثقفين انشغلوا بالصراعات الصغيرة ونسوا أنهم مُحاصرون بتيارات التخلف والتطرف. كما أن مؤسسات حيوية للدولة تكتفي بردود الفعل لا غير، حيث تقوم فقط بالإطفاء المؤقت للحرائق، عند وقوع الكارثة، دون أن يتم القضاء جذريا عن أسبابها ومسبباتها .
لقد ساهم نظام تعليمنا، عبر مدة طويلة، في تحويل شبابنا إلى قنابل موقوتة، إذ تم تشويه تعليمنا الديني في مختلف أسلاكه على السواء، حيث لا يجد تلاميذه وطلابه نسقا عقلانيا مفتوحا يربطهم بتراث حضارتهم الإسلامية العقلاني. وبذلك، صار أغلب هؤلاء أسيري ثقافة نقل وتقليد مناهضة للعقل، ولا تشجع على الاجتهاد والبحث والنقد والاختلاف. والنتيجة شيوع الجهل الذي يقود إلى التعصب الأعمى الذي ينمو بسرعة ويفضي إلى العنف الذي ينتظر مجرد إشارة. ففي غياب الوعي يغدو كل شيء ممكنا.
لقد تحول هؤلاء الشباب إلى أوعية يصب فيها المتطرفون ما يريدون، وإلى أبواق تنقل ما يقال لها بأصوات مرتفعة وتنفذ ما يطلب منها من قِبٓل شيوخها وأمرائها. فغدوا مستعدين لتقبل أفكار التكفير والقتل. إنهم تعودوا إتباع ما يقال لهم وتنفيذه، خصوصا عندما يشعرهم “بالدفاع” عن الدين والهجوم على “الكفار” و”الملحدين”.
إضافة إلى ذلك، فقد حول بعض المدرسين الإسلامويين قاعات الدرس إلى فضاء للتأطير الحزبي الإسلاموي التكفيري، وحولوا ثانويات بعض المدن إلى ملحقات لمقرات أحزابهم وجماعتهم التكفيرية. فوق ذلك، فهم يمنحون علامات جيدة للتلاميذ الذين يقبلون السير على نهجهم، وينتقمون ممن لا يستجيب لدعوتهم. ورغم أن جماعات الفصل الدراسي مختلطة، فهم يعملون على فصل الذكور عن الإناث داخلها… في السياق نفسه، يقول بعض المدرسين لتلاميذهم إن تصوير المخلوقات محرم شرعا في الإسلام. وتكمن خطورة هذا الكلام في أنه يضع التلميذ في تناقض مرير، إذ توجد في المدرسة صور في مكتب المدير وقاعات الدرس، كما تزين جدران بيته صور جده وجدته ووالديه وإخوانه وأخواته، ويوجد في الكتب المدرسية والصحف من الصور ما لا يعد ولا يحصى… فهل يمكن لوم هذا التلميذ الذي سيصبح ضحية هؤلاء “المدرسين” وسيكفر المدير والأسرة والمجتمع؟ !…
يلاحظ المتتبع لما يجري داخل بعض الفصول الدراسية في حصص التربية الإسلامية أن الحركات الإصلاحية قد تم إقصاؤها كلها، وأضحى كل من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، وأمثالهم، نكرات. ونادرا ما يتم الحديث عن الروحانيات. أما الكلام في الفقه والسياسة ففيه إطناب وإسهاب. كما يكتشف المرء أن الأحكام الفقهية الأكثر رجعية التي تسلب المرأة حقوقها، تدرس على حساب الاجتهادات التي تمنحها هذه الحقوق، حيث يدرس التلاميذ أنه يمكن للزوج أن يطلق زوجته متى شاء، ويمكنه أن يضربها رغم وجود قانون يعاقب على ذلك! كما نجد أن الخلافة هي النظام الشرعي الوحيد، وأن الذي لا يطيع الخليفة هو بمثابة الكافر، وأن الديمقراطية مما يجب تجنبه وتكفيره لأنها مذهب غريب عن حضارتنا ومخالف للإسلام. بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، حيث يدرّس بعض المدرسين لتلاميذهم أن الجهاد واجب مقدس وأن أسرى الحرب مآلهم العبودية، ومن لا يصلي فهو مرتدٌّ دمُه مُباحٌ…
يبرر بعض مدرسي التربية الإسلامية العقوبات الجسدية التي جاء بها الفقه بدءا من الجلد بالسوط حتى الرجم. كما أنهم يدرّسون قواعد باعتبارها من صميم الدين الإسلامي، لكنها ليست كذلك، بل إنها مجرد تقاليد قديمة أصبحت الآن منافية للعقل ولحقوق الإنسان. فلو اقتصر الأمر على تدريسها في بعدها التاريخي من زاوية الفكر النقدي قصد تفسير الأسباب التي جعلت المشرع الحديث يتركها لكان في ذلك فائدة، حيث تتيح للتلميذ أسباب الاندماج في وسطه الاجتماعي وتهيئه لقبول قيم الحداثة دونما انسلاخ عن ثقافته الأصلية، غير أن الأمر لا يسر هنا في هذا الاتجاه، بل إن بعض المدرسين يؤكدون بوضوح أن الحرية لا يسمح بها إلا متى لم تتعرض لتأويل معين للشريعة، وأن الفكر النقدي لابد أن يلتزم بحدود هذا التأويل للفقه ويمتنع عن نقده.
لقد أصبح شبابنا يفتقد القدوة والمثال، لأن القيم السلبية أصبحت سائدة، وهي تجذب البعض إلى دائرة الرفض الشامل لكل ما هو قائم، ومن ثم يسهل شحنه فكريا ونفسيا ليمارس القطيعة مع المجتمع ويكفره.
كما أن نظامنا التعليمي لا يعلم التلميذ شيئا ذا بال، إذ يكاد التعليم أن يكون مجرد نوع من خداع النفس والغير في آن. وتبذير لمال الدولة ووقتها، وإهدار لسنوات من عمر التلميذ. كما أنه يهيئه للضياع الذي يقذف به في أحضان جماعات الإسلام السياسي التكفيري.
يقود التأمل في تدريس العلوم بمدرستنا إلى تعرية الفكر الذي تنهض عليه طرائق تدريسها. أوَّلا، هناك ميل كبير إلى تدريس القوانين دون مساءلتها. وبذلك تعتقد هذه المؤسسة أنها تقوم بتدريس الفكر العلمي والحس النقدي، لكنها غالبا ما تنتج عكس ذلك، حيث لا يكتسب من يكتفي بتعلم مضمون المبرهنات الرياضية
” THEOREMES MATHEMATIQUES ” وقوانين الطبيعة وتطبيقها سوى تقنية بلا روح، كما يميل إلى الخضوع بدل أن يتعلم التفكير. ومن ثمة، تقوم مدرستنا بتدريس العلم باعتباره معتقدا، إذ نادرا ما تقدم للتلاميذ برهنة على الحقائق العلمية، ما لم يكن ذلك منعدما، فيُطلب منهم تطبيقها آليا لا غير. ونتيجة ذلك، لا يدرك المتعلم معاني العلوم التي يدرسها لأنها تتحول إلى معرفة محنطة. وتلعب الكتب المدرسية الموازية التي تباع في الأسواق لتدريب التلاميذ على حل تمارين امتحانات الباكالوريا دورا سلبيا، حيث تجعلهم يحفظون حل المسائل بشكل ميكانيكي، مما ما يحول دون اكتسابهم للفكر العلمي. بناء على ذلك، ينطبق على مدرستنا قول الفيلسوف “كورنيليوس كاستورياديس “Cornlius Castoriadis : لا يتم تدريس البرهنة على المبرهنات في الرياضيات، بل تٌقٓدّٓم من حيث كونها معطاة (…) ويجب أن يعتقد فيها التلاميذ لإنجاز تمارينهم. وهذا ما يصيبنا بالجنون، حيث تكمن الفائدة من الرياضيات، وخصوصا في التعليم الثانوي، في إدراك ما تعنيه البرهنة.
إن المقارنة العلمية الفعلية هي تلك التي تنهض على المعارف المتينة وفكر البحث المستمر، أي الشك المبدع. إن هذا هو الفكر العلمي السليم، كما أنه الفكر النقدي الحقيقي. ولا يمكن اكتساب هذا الفكر فقط بتعلم الرياضيات وتعليم الفيزياء بشكل صوري وآلي، حيث أصبح تلاميذ الثانوي وطلبة التعليم العالي مشغولين فقط بحل المعادلات الرياضية، ولا يهتمون باستيعاب العناصر الفيزيائية، التي تشكل موضوعها. إنهم يسقطون في نسيان الواقع الذي يتم السعي لبسطه. فكثيرا ما يصير التجريد ضد الطبيعة، حيث إن الفيزياء، كما يشير إلى ذلك اسمها، هي بالضبط علم الواقع.
إن مساعدة التلاميذ على منح المدرسة معنى هو في نهاية المطاف منح التعلم معنى، وهذا ما يبرر وجود هذه المؤسسة أصلا. وبالنسبة إلى التلميذ، يقضي منح التعلم معنى باستيعاب المعارف المٌدٓرٌٓسة، أي معرفة المفاهيم وأصولها والتطورات التي عرفتها وإدراك الروابط التي تجمع بينها سواء داخل نفس الحقل المعرفي أو بين مختلف حقول المعرفة. فلا يتم بناء المعنى من خلال تجميع المعارف وتكديسها، وإنما نتيجة بناء العلاقات بينها.
ينبغي أن يفعل التلميذ أكثر مما يسمع ويتقبل، وأن ينهض بالعمل الاستيعابي. فلا تضاف المعرفة إلى الذهن كشيء أجنبي عنه، بل يتمثلها الذهن بقواه الحية الخاصة به. وعلى كل إنسان أن يجني معرفته بجهد عقله. فالذهن يتطور بنموه وتنظيمه، لا بما يُضاف إليه من الخارج. والتربية السليمة لا تعتبر الذهن جوهرا لا حياة فيه، بل روحا حية. يجب أن يفكر التلميذ بذهنه الخاص كما يغني المغني في الجوقة بصوته الشخصي. فالتعلم هو الاكتشاف التدريجي لمعنى المادة الدراسية، والتمكن من فهم أسئلتها حول العالم التي تطرحها على ذاتها، ومعرفة المناهج المستعملة في إنتاج المعرفة في إطارها والنظريات الكبرى التي تم تطويرها في مجالها. تساعد هذه المقاربة على التقدم التدريجي في بناء المعرفة ومنحها معنى، لكنها عمل لا نهائي لا يمكن استنفاده.
يجب ألا يكتفي إصلاح التعليم بإعادة النظر في برامج المواد الأدبية والعلوم الإنسانية والاجتماعية. بل ينبغي أن يشمل إعادة النظر في برامج المواد الأدبية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتغيير تدريسيات “العلوم الحقة” بشكل يمكن التلاميذ من فهم حقيقي لطبيعة الظواهر الفيزيائية والكيماوية والبيولوجية.
كما يجب أن يكتشف الأطفال العلوم في سن مبكرة، حيث تصير عندهم شعرية الأعداد لغة ثانية. وإذا كان التعلم ينهض على حرية التفكير والمساءلة، فإنه ينبغي أن تدرس هذه العلوم في شموليتها، دون الاعتراض على القضايا العلمية المزعجة والأكثر حساسية. بل يلزم تدريس كل النظريات العلمية المهمَّشة وتفسيرها، حيث لا يعقل منع تدريس نظرية “أصل الأنواع” وما وصلت إليه الهندسة الوراثية…
يكره الأصوليون كثيرا هذه الطريقة في فهم العلوم وتدريسها، مع أنهم لا يترددون في قبول التجريدات الرياضية وتطبيقاتها التقنية والآلية. إنهم يقبلون الدواء الذي يعالج المرض، والطائرة التي تنقلهم من بلد إلى آخر. والحاسوب الذي يساعد على القيام بسرعة بالعمليات الحسابية بالغة التعقيد، لكنهم يرفضون العلميات العلمية التي مكنت من الوصول إلى هذه الاختراعات. فهم يفضلون يقين الرياضيات ويرفضون الشك المبدع الذي يشكل قاعدة لتطور العلوم، والفكر الذي يدرك التمايز بين الأشياء، والذي يشكل قاعدة العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وكمثال على ذلك، توجد في الإسلام قاعدة عمرها خمسة عشر قرنا تقضي بقطع اليد للسارق، وتشكل يقينا كما هو الشأن بالنسبة للمبرهنة القائلة إن مجموع زوايا المثلث تساوي 180 درجة، وذلك دون الرجوع إلى الهندسة التي تحيل عليها هذه المبرهنة. لكن عندما نقول الآن بإمكانية مراجعة تلك القاعدة لارتباط تطبيقها بظروف تاريخية مختلفة عن ظروفنا الحالية، فإن هذا يزعجهم ويدخل الشك في نفوسهم، مع أن الشك في مبرهنة THEOREMES زوايا المثلث قد أدى إلى ظهور نظريتين كبيرتين هما: هندسة “ريمان”Riemann القائلة إن مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 درجة، والتي تنبني عليها نظرية النسبية العامة relativité générale، وهندسة “لوباتشوفسكي” Lobatchevski القائلة إن مجموع زوايا المثلث أقل من 180 درجة. يثير اعتماد هذه المقاربة الأصوليين لأنها تناقض بنياتهم العقلية المتصلبة والمنغلقة.
ولأجل ذلك، لا تغري الأفكار الأصولية إلا الشباب الحاصل على تكوين لاهوتي أو طلاب العلوم الذين تعلموا حل المعادلات بطريقة تقليدية آلية في كليات العلوم ومدارس المهندسين، ولذلك يتغلغل الفكر السلفي في هذه المؤسسات أكثر مما يتغلغل في كليات الحقوق والآداب والعلوم الإنسانية، لأن أغلب طلاب المؤسسات العلمية والتقنية لم يكتسبوا ثقافة عامة، لأن ما تعلموه مجرد معارف تقنية تؤهلهم لاستعمال الآلة دون تجاوز ذلك إلى إكسابهم فكرا متفتحا أو تفكيرا علميا سليما بالمفهوم الصحيح للعلم.
يبدي الاتجاه الإسلاموي التكفيري عداء سافرا تجاه كل ما هو عقلاني، ويعلن مقاومته في المدارس والمعاهد لكل مادة دراسية تحمل فكرا عقلانيا. كما أن “بداية” التفكير لديه هي بمثابة “بداية الكفر”.. بناء على ذلك، فهو يغتال العقل، ويرجع بالإنسان إلى الوراء ويشيع الجهل والخرافة…
لتطوير ثقافة وطنية نهضوية تنطلق من الواقع وتنهل من التراث الوطني والإنساني يلزم إقرار تعليم عقلاني، وإعطاء برامجه مضمونا حداثيا، وتطوير المراكز والمعاهد العلمية، وإشاعة حرية الإبداع الفكري والفني والأدبي ليكون في خدمة قضايا المجتمع. فلن تنهض بلادنا بحكايات “أهوال القبور” وسيدنا علي ورأس الغول”… ، كما يجب تدريس كل أعلام الفكر العقلاني العربي الإسلامي… وباختصار، يجب ألا تقتصر محاربة الإرهاب الإسلاموي على المواجهة الأمنية، فرجال الأمن والقضاء يؤدون دورهم، لكن الجهد الأمني وحده لا يكفي؛ فهؤلاء الشباب الذين حملو السلاح في وجه الوطن والشعب والدولة، والإسلام الصحيح ليسوا هم الفاعل الأصلي…
فالإرهاب يبدأ بالفكر، وذلك عندما يعتقد “الشاب” بأنه وجماعته يمتلكون وحدهم صحيح الإسلام، وأن الأخر” الذي لا يشاطرهم الرأي هو ببساطة مرتد وكافر. كما أن الذين أقنعوه بذلك قد زرعوا سمومهم في عقله عبر مناخ عام اجتماعي وسياسي وفكري تم تشويهه على امتداد عقود…
ولأن الخطر يتهدد الوطن ومصيرنا جميعا، فلابد أن نتخذ موقفا مشتركا لتصحيح المناخ العام وتطويره وإعلاء شأن العقل والعلم والتقدم، والانخراط جميعا في مواجهة شاملة متكاملة ترمي إلى إعطاء الشباب أملا ومستقبلا، وتمنحه عقلا مستنيرا، وتقدم له بدائل أخرى غير تلك التي تجعله محاصرا بين الإسلام السياسي أو الفراغ.
تنوء المدرسة المغربية تحت أثقال متراكمة سواء في البرامج التعليمية أو فيء الوسائل التعليمية. ومن ثمة، يجب بذل جهد كبير من أجل تنقية العملية التعليمية من كل الشوائب التي تساعد على غرس الفكر الإسلاموي في أذهان التلاميذ والطلاب. لكن ما يتراكم تاريخيا لا يمكن ازالته إلا تاريخيا، من هنا فالطريق أمامنا طويل ومعقد للتخلص من حقول الألغام التي تتفجر بالفكر الإسلاموي في نواح عدة من العملية التعليمية، وهو أمر يحتاج إلى عمل وطني شامل.
يجب علينا أن نعيد النظر في سياستنا التربوية ونخلص البرامج المدرسية من طابعها الأصولي الوهابي. فالوهابية حاضرة فيها. يرى الباحث التونسي ذ.محمد الشرفي أن “من طبيعة التعليم في البلاد العربية الإسلامية أن يشجع على تنامي الأصولية، ولذلك يتطلب الأمر تنقيته من كل ما يتناقض مع حقوق الإنسان ومع أسس الدولة الحديثة. وبهذا الإصلاح الجذري في النظم التعليمية (…) سيكون بإمكان المدارس على المدى المتوسط المساهمة في علاج المجتمع من التطرف الديني.”
ويمكن أن يلعب الإعلام دورا مفيدا في هذا الاتجاه، وخاصة التلفزة التي يتعين تطهيرها من آثار المناخ الإسلاموي وتحويلها إلى منارة للفكر المستنير وللفهم السليم للدين…
لابد من إعادة النظر في المعارف التي تُدَرَّس في المدرسة المغربية، وتغيير أسلوب التعليم القائم على التلقين والحفظ بجعله قائما على الشك والتفكير والنقد، حيث يغدو المتعلم قادرا على إعمال عقله في كل ما يقدم له من معلومات ومساءلتها. فلا يمكن تصور تدريسية تمنع التلاميذ من التفكير فيما يدرّسونه. كما يجب إعادة النظر في تدريسيات اللغات بمدرستنا لأن تلاميذنا لا يكتسبون أي لغة، وهذا ما يشكل عائقا في وجه تعلمهم وانفتاحهم ونموهم وتحديث عقلياتهم…
هكذا، يجب حشد إمكانيات وإرادة وطنية لتطوير العملية التعليمية عموما وجعلها قادرة على إزالة الغبار الإسلاموي التكفيري عن المدرسة وتحويلها إلى منارة للعقل والاستنارة …
يرى د.سهيل فرح أن هدف العقلانية هو دراسة الأديان كلها وكشف نظرتها لمسائل الحياة والولادة والموت وماضي الإنسان وقيمته…وهي تحاول التعريف بطقوس وعادات كل ديانة، والبحث في جينيالوجيا كل واحدة منها لتبيان النقاط المشتركة بينها، مشددة على نبذ التعصب وعلى تحطيم الجدران المصطنعة التي أقيمت للفصل بينها… وينبغي أن تتضمن التربية العقلانية مواد علمية تعرف بجوهر الدين الشعبي الفولكلوري وبالمعنى الفلسفي تماما في منظومة تربيتنا الدينية.
ولإدخال الروح العلمية المنفتحة في دراسة الدين باعتباره واسع الحضور في الوجدان الإنساني وتوجهه يلزم الارتكاز على ما يدرسه تاريخ الأديان من عقائد وطقوس ومؤسسات، وما يدرسه علم الأديان المقارن وعلم نفس الأديان وأنثروبولوجيتها وفلسفتها. ولقد أصاب الباحث اللبناني أديب صعب عندما قال: “يأتي دور الدراسات الحديثة التي تتناول الدين من زاوية العلوم الاجتماعية ليعطي صورة عن المؤسسات الدينية متحررة من قصر النظر أو التحيز العقائدي.” فمن خلال إنجاز هذا النوع من الدراسات، ضمن مختلف الحقول العلمية، يتم التوصل إلى نتائج منطقية ترضي الجميع، حيث يعمل كل حقل على تجديد لغته وتطويرها لكي تتلاءم مع روح العصر ومقتضياته ومتطلبات المستقبل. وتشكل هذه الرؤية العلمية التربوية مدخلا لوضع حد للعبث التربوي والسياسي الناجم عن زرع الدين بمفهومه الشعبوي التقليدي الطقوسي، في ثقافة الشباب، والذي يفرخ حركات إرهابية…
ويجب أن يشمل إدخال هذه الروح العلمية في المنظومة التربوية كل مراحل التربية والتعليم. فهو الكفيل بتغيير الكثير من القواعد والتصورات والمفاهيم التي ينهض عليها التعليم الديني في مدارسنا. ففي مؤسساتنا التعليمية يطلب من التلاميذ الالتزام الحرفي بالنصوص والطقوس، حيث لا مجال للنقد ولا للسؤال الفلسفي. وبما أن المدرس عندنا لا يمتلك ثقافة دينية عميقة، ولا معرفة فلسفية، ولا زادا سوسيولوجيا وسيكولوجيا، فهو يختزل الدين في أقوال جاهزة، وهذا ما يقود إلى التدين الشعبوي الطائفي الجاهل المؤدي حتما إلى الجمود العقائدي والتعصب ومعاداة الأديان الأخرى، بل وإلى رفض الآخر داخل الدين الواحد. وبما أن “مدرس” النص و”شارحه” يحتقر القدرات العقلية للإنسان المتلقي، فهو يُنفِّرُ منه ومن المادة الدراسية التي يدرِّسها له.
ينبغي أن ترتكز التربية الدينية على الإنسان باعتباره كائنا متغيرا على مستوى قيمه المادية والمعنوية، وأن تنظر إليه باعتباره كائنا فاعلا وذاتا في تفاعل مستمر مع عالم متنوع ومتعدد، وأن تسعى ليس إلى ترسيخ القيم الكونية فحسب، بل يتوجب عليها أن تفضل دائما الأفق العام على الخاص، والكوني الإنساني على الفردي المحلي، بمعنى تجاوز الآفاق الضيقة: شخصية وعشائرية وقبلية وطائفية، والاقتناع بعدم تناقض حب الوطن مع حب الإنسانية، ومصالح الفرد مع مصالح المجتمع؛ بمعنى أن يكون مسؤولا غير أناني، يختار بحرية وبما يمليه الضمير تجاه ذاته والآخر.
تمكننا النظرة العقلانية لمنظومتنا التربوية ولتاريخ وعينا الديني ومجمل سلوكاتنا من تحرير ذاكرتنا من المخلفات السلبية، كما تجعلنا نمتلك رؤية جديدة انفتاحية للظاهرة الدينية، حيث نكتشف عري أولئك الذين ما زالوا يعتقدون أن مفهومهم للنبوَّة والخلافة والشريعة والدين والأديان هو الأصح، وأن كل آراء من ينتقدهم ويختلف معهم باطلة. هكذا تقود العقلانية إلى تحرير الكثير من الناس من أفكارهم المغلوطة عن وعيهم الديني وعن الديانات الأخرى، كما تمدنا بأدوات الحفر في أعماق وعينا التاريخي للبحث عن مختلف الظروف التاريخية والثقافية والسياسية… التي تؤدي إلى العداء القائم بين أصحاب الديانات المتنوعة كما بين أبناء الديانة الواحدة والوطن الواحد. وهذا ما سيساعد على إيجاد صيغ عقلانية للتواصل والتفاعل بين مختلف الديانات والمذاهب…
فهاجس العقلانية هو تحرير الوعي والمجتمع والفكر الديني. من كل العوائق التي تحول دون التقدم الثقافي والروحي… إنها طموح فلسفي وعملي لإعادة الاعتبار لقيم الحق والواجب والاحترام التي تطمح لإعطاء الناس حقهم فيما يطمحون إليه من عدل ومساواة…
السبت : 23 مارس 2019.