بداية أقول: حتى لا أتهم بأني من الذين يؤمنون بالنزعة الاقتصادوية في تفسير حركة التاريخ المجتمعي, فأنا أومن بالعلاقة الجدلية بين الواقع والفكر أولاً., وبأن كل مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية تؤثر ببعضها بعض بعلاقة جدلية ثانياً, كونها كلها تسير عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين كعربات القطار.. تسير معاً وتقف معاً, ولكن يبقى الاقتصاد يشكل مركز القيادة لهذه العربات, الذي على أساسه يقاس تقدم وتخلف بقية المستويات, من جهة, وآلية عمل هذه المستويات من جهة ثانية.
إن المتتبع لتطور وضعية الملكية الخاصة, سيجد بأن جميع الحركات المادية والفكرية لدى أي مجتمع من المجتمعات, تقوم أساساً على حركة وتطور هذه الملكية. فالملكية الخاصة في حركتها وتطورها وتبدلها وكل ما يتعلق بها, هي تعبير مادي محسوس عن الحياة الإنسانية في تجلياتها الايجابية أو السلبية. أي حالة تحقيق وجودها الايجابي المعبر عن إنسانيتها الحقيقية في عدالتها ومساواتها ورقيها, او في وجودها السلبي المعبر عنها في غربتها وتشيئها واستلابها.
إن حركة الملكية القائمة على الإنتاج المادي والروحي وتوزيع هذا الإنتاج واستهلاكه, تشكل دائماً في الواقع علاقات اجتماعية وفكرية جديدة تتناسب مع حركة هذه الملكية وتطورها وتبدل مواقع وجودها طبقياً. وبناءً على هذه الحركة, ستجد دائما إنساناً يتصرف ويتحرك وفقاً لمصالحه المرتبطة أصلاً بهذه الحركة المرتبطة بالملكية. فالدين والدولة والفلسفة والأخلاق والأدب والديمقراطية والحرية والقانون والحق .. إلخ, كل هذه المعطيات الفكرية والمادية داخل مجتمع من المجتمعات وجدت في الحقيقة مع تطور وتبدل وضعية الملكية. وإن الملكية الخاصة هي من يلعب الدور الأساس في إنتاج هذه العلاقات المادية والفكرية وطبيعة عملها, وبالتالي فإن هذه العلاقات في مرحلة من مراحل تطورها ونضوجها, تقوم هي ذاتها في لعب دور المسؤول عبر حواملها الاجتماعية على ضبط آلية حركة هذه الملكية وعملها, إما في تسريع هذه الحركة نحو الأمام لتحقيق مصالح قوى اجتماعية جديدة تقدمية, أو عرقلتها لمصلحة قوى اجتماعية تقليدية رجعية, وذلك كله يتم تحت مظلة الدولة التي تسيطر عليها هذه الطبقة المالكة أو تلك, أو باسمها, وعبر استخدام سلطة القانون الذي تسنه حواملها الاجتماعية, في مرحلة تاريخية محددة, وفي نهاية المطاف العمل ليس على تحديد طبيعة البنية الاجتماعية وعلاقاتها الانتاجية القائمة على هذه الملكية فحسب, بل وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي والثقافي أيضاً المعبر عن هذه الملكية وحواملها الطبقية وعلاقاتها الإنتاجية أيضاً. فعلى أساس هذه الملكية وحواملها الطبقية, تتحدد طبيعة النظام القائم في الدولة, إما أن يكون هذا النظام رأسمالياً أو اشتراكياً أو إقطاعيا….إلخ.
إن هذه الرؤى والمفاهيم التي جئنا عليها هنا, ما هي في الواقع إلا شكلاً من أشكال الإنتاج الاجتماعي, وتخضع لقانونه العام هذا القانون الذي يتضمن دكتاتورية الرأسمال وحوامله الاجتماعيين. هذه الدكتاتورية التي تولد للمالك والمنتج معاً حالات اغتراب الإنسان عن واقعه وضياعه في منتجاته التي يحاول دائماً هذا الحامل الاجتماعي البحث عن ذاته فيها من خلال إعادة إنتاجه لهذه الملكية أو الحفاظ عليها من قبل المالك قدر ما يستطيع, أو العمل على تغيير طبيعة هذه الملكية من قبل المنتج قدر ما يستطيع أيضاً, وذلك كله يتم عبر إعادة هيكلة وضعية الملكية والإنتاج القائم عليها بما يتفق ومصالح القوى المالكة أو القوى المنتجة كما أشرنا في موقع سابق. فالغربة هنا يعيشها (المالك) بعد أن فقد كل القيم النبيلة الداعية إلى العدالة والمساواة في المجتمع, وخاصة العدالة والمساوة تجاه القوى المنتجة بسسبب ممارسته استغلال المنتج, أي استغلال القوى الاجتماعية المسحوقة والفقيرة التي يقع عليه فعل الاستغلال. كما تتحقق الغربة أيضا للقوى (المنتجة) الفقيرة والمستغلة والمستلبة قوة عملها من قبل المالك.
إن القضاء الإيجابي على حالات الضياع هذه , يعني تخليص الإنسان المالك من وسائل ظلمه وقهره للآخرين, مثلما هي تخليص الإنسان المقهور من قهره وظلمة وتشيئه واستلابه واستغلاله في وجوده الاجتماعي من قبل الطبقات المالكة والحاكمة معاً, بما تستخدمه هذه الطبقات من وسائل مادية وفكرية ممثلة في الدين والدولة والقانون والأدب والأخلاق.. إلخ. أو بتعبير آخر إن القضاء على حالة الضياع أو اغتراب يعني تخليص المالك من كل زيادة في ملكيته تسمح له باستغلال الآخرين من جهة, مثلما هي تخليص المنتجين المضطهدين والمحرومين من كل تفاوت اجتماعي وسياسي وأخلاقي لا يمثل تطلعات هذه القوى الاجتماعية المستغَلة نحو العدالة والمساواة. ولكن علينا أن نقر هنا أنه, من المستحيل أن يلغى اغتراب الإنسان نهائياً, فهناك دائماً تفاوت في ظروف المعيشة, إما بسبب العامل الجغرافي أو الفردي أو الاجتماعي, وبالتالي فقضية العدالة تظل نسبية, مثلما تظل قضية الظلم واستغلال الاخرين نسبية أيضاً.. إن قضية إلغاء التفاوت الطبقي نهائياً وتحقيق شعار الحرية والديمقراطية بصيغتها النظرية المجردة, أي بفهمها المطلق للعدالة ومشاركة كل أفراد المجتمع في إدارة الدولة والمجتمع وثرواتهما, تظل نسبية وناقصة, ولن تصل في تطبيقاتها إلى الكمال. ِ
دور الْمِلْكِيْةُ في خلق النظام العالمي الجديد:
إن ما ينطبق على حركة الملكية بالنسبة للمستوى الوطني, ينطبق أيضاً على المستوى العالمي. فلننظر ماذا عملت الملكية بعد أن حولت المجتمع في أوربا من النظام الاقطاعي إلى النظام الرأسمالي على سبيل المثال لا الحصر. ثم لننظر ماذا عملت الثورة الصناعية وتشكل الطبقة البرجوازية الصناعية في أوربا بالنسبة لاستغلال الشعوب الأوربية أولاً, ثم لشعوب العالم الثالث بفعل استعمارها لها وآلية عمل هذه الطبقة في هذه الدول المستعمرة ثانياً. وبالتالي ماذا عملت مسألة تراكم الرأسمال, ثم تركز هذه الرأسمال, وتمركزه في يد الطبقة الرأسمالية ذاتها وتحولها إلى طبقية رأسمالية احتكارية عالمية, راحت تشكل الشركات المتعددة الجنسيات, ودور هذه الشركات في فرض النظام العلمي الجديد وآلية عمله القائمة على نهب الشعوب الفقيرة وخلق بؤر التوتر الدائم فيها بين مكوناتها الدينية والعرقية, وتغتيت الدول المركزية ودعم الارهاب, ومحاربة الفكر القومي وربط دول العالم الثالث بعجلة مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية, وأخيراً وليس آخراً نشر ثقافة المجتمع الاستهلاكي وثقافات الموت والنهايات واللامعقول والعبث على مستوى الساحة الفنية (مسرح. سينما. دراما تلفزيزنية). والساحة الأدبية والفلسفية والأخلاقية .
*د.عدنان عويد :كاتب وباحث من سورية
السبت : 09 مارس 2019.