لم يعد خاف على أحد في العالم أجمع أن الجزائر ذات التاريخ العريق، المشتهرة ببلد المليون شهيد، لما قدمته من شهداء كثر في معركتها الخالدة ضد المستعمر الفرنسي الغاشم من أجل التحرر، مازالت ترزح تحت نير “احتلال” داخلي على أيدي جنرالات العسكر، الذين اغتصبوا السلطة فور استقلال البلاد في عام 1962. ومنذ ذلك الحين وهم وحدهم المخول لهم صناعة الرؤساء على المقاس، جاعلين من الانتخابات الرئاسية مجرد مسرحيات رديئة الإخراج، ولا تعبر عن الإرادة الشعبية الحقيقية.

       ولأنه بدا واضحا أن المعسكر الرئاسي أخفق في التوافق حول بديل للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فإنه لم يجد أمامه من حل عدا الدفع به للترشح مرة خامسة، علما أنه بلغ من العمر 82 سنة وأصبح فاقدا للحركة والنطق السليمين منذ إصابته بجلطة دماغية سنة 2013، أقعدته على كرسي متحرك وأبعدته عن اللقاء بالشعب الجزائري مباشرة أو عبر التلفزيون.

      لكن الشعب الجزائري الأبي الذي قدم تضحيات جساما في سبيل الانعتاق والكرامة ورفعة الوطن، وقضى حوالي عشرين سنة من التحمل، قابلا على مضض ترشح رئيس الجمهورية لولاية رابعة في 2014 وهو في حالة مرض، أملا في أن يتماثل للشفاء ويتجاوز محنته التي مر عليها عام، سيما وأنه ظل يتنقل إلى الخارج لإجراء فحوصات طبية وتلقي العلاجات الطبيعية، أو ربما إشفاقا لحاله وعرفانا بمنجزاته وإصلاحاته، وتوحيد أبناء الشعب في أجواء من الوئام المدني والمصالحة الوطنية.

      أصبح اليوم يرفض بشدة الاستمرار في استغفاله والاستخفاف بمصالح البلاد، وهو ما جعله يسارع إلى التعبئة ورص الصفوف عبر منصات التواصل الاجتماعي، داعيا إلى التصدي لهذه المهزلة التي أضحكت العالم. وهكذا أخذت رقعة الاحتجاجات في الاتساع يوما بعد يوم، ليلا ونهارا، لتصل معظم شوارع المدن، حيث التحم طلاب الجامعات بالمثقفين والحقوقيين وعموم المواطنين، متحدين بذلك كل أساليب التضييق ومحاولات الالتفاف على انتفاضتهم المباركة، لإيمانهم الشديد بعدالة مطلبهم الأساسي، المتمثل في تنحي الرئيس المنتهية “صلاحيته” والميؤوس من شفائه.

      وفي الوقت الذي كان المتظاهرون يأملون عودة الحكام إلى جادة الصواب، فوجئوا بهم يمضون في مخططهم الاستفزازي، حيث شرع “الرئيس” في تحضير أوراق ترشحه، عبر التصريح بممتلكاته الذي يعد بندا إلزاميا في قانون الانتخابات. وقبل أقل من 48 ساعة عن نهاية الأجل القانوني لإيداع ملفات الترشيح من طرف المرشحين أنفسهم أمام المحكمة الدستورية، أعلنت وكالة الأنباء الرسمية عن تعيين الرئيس الميت/الحي وزير النقل الحالي عبد الغني زعلان مديرا لحملته الانتخابية، خلفا لرئيس الوزراء السابق عبد المالك سلال، الذي سبق له إدارة حملاته الانتخابية الثلاث خلال: 2004 و2009 و2014. وهو ما أجج نيران الغضب في أوساط الجماهير الشعبية، التي استبد بها اليأس والاستياء، متأسفة على ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من ترد صارخ. في حين أن البطل الأسطوري “مغيب” خارج البلاد.

      وليس وحده استبدال سلال بزعلان ما زاد الأمور تعقيدا، بل كذلك تعهداته والتزاماته بعزمه عن عقد ندوة وطنية بين كافة القوى السياسية، يحدد لها موعد لاحق في حالة فوزه، ومن ثم سيحرص على تنظيم انتخابات مبكرة دون المشاركة فيها، داعيا إلى جعل 18 أبريل القادم شهادة ميلاد جمهورية ثانية، تقوم على أسس ديمقراطية. وهو ما اعتبره الغاضبون ضربا من العبث والاستهتار بالحقوق والقوانين.

      فمن الغباء تمادي الحكام بقصر المرادية في غيهم والهروب إلى الأمام، متجاهلين حجم الإحباط والشعور بالمهانة لدى الشعب الجزائري، المستاء من رؤية رئيس البلاد عرضة للسخرية من قبل شعوب وحكام العالم، وقد لا يكون يدري ما يجري حوله من مظاهرات ومسيرات، مطالبة برحيله ومن معه. ترى ما سر هذا الإصرار على معاكسة إرادة الشعب وتمديد عمر نظام فاسد، لا يجيد عدا نهب ثروات البلاد وتجويع العباد، التستر خلف نظرية المؤامرة وصرف ميزانيات ضخمة من المال العام على كيان وهمي في الصحراء المغربية، رغم تراجع أسعار النفط الذي يعد المصدر الأساسي لتمويل الاقتصاد؟

      إن المجتمع الجزائري بلغ من الوعي والنضج السياسي، ما لم يعد مسموحا معه لأي كان في تضليله، ويعلم جيدا أن المؤسسة العسكرية هي الحاكم الفعلي بالبلاد بعد أن خلا لها الجو إثر المرض العضال للرئيس والتخلص من رئيس المخابرات القوي الجنرال المعروف باسم “توفيق”. فهي وحدها من تصدر القرارات الرئاسية وخاصة ما يرتبط بالاقتصاد. إذ تم منذ عام 2015 اللجوء إلى تخفيض النفقات الحكومية إلى حوالي النصف، وفرض تدابير تقشفية على جميع المستويات الاجتماعية، عبر إلغاء دعم بعض المواد الغذائية الأساسية، دون المس بميزانية الجيش التي ارتفعت بشكل ملموس، مما ساهم في تردي الأوضاع وتزايد معدلات البطالة وتفشي الفساد…

      ولأشد ما يتخوف منه الجميع إزاء الاستمرار في التشبث بترشح الرئيس، ودعوة المعارضة وشخصيات وطنية غيورة إلى تفعيل المادة 102 من الدستور التي تنص على شغور منصب الرئيس وتأجيل الانتخابات، أن يؤدي ذلك إلى انزلاقات خطيرة أو يعجل موت الرئيس بتفكيك البلاد، وحدوث معركة مريرة على السلطة، رغم أن الأخ الشقيق السعيد بوتفليقة قادر على التوافق مع الجيش.

      ولأن لا أحد منا بمقدوره التكهن بما قد ينجم عن هذه الهبة الشعبية، التي لن نكون نحن أيضا في المغرب بمنأى عن تداعياتها، فإننا ندعو جميع الأطراف المعنية إلى الإصغاء لصوت الشعب، الاحتكام إلى منطق العقل، التعجيل بتعديل الدستور وفسح المجال أمام الشعب الجزائري الشقيق لاختيار من يراه أهلا لتولي مقاليد الحكم في أجواء من الهدوء وضبط النفس، عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة…

 

الجمعة : 08 مارس 2019.

 

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…