يكمن أحد الأدوار الأساسية للمدرسين في البحث عن معنى ما يُدَرِّسُونه من معارف لتلاميذهم. وهذا ما يقتضي البحث عن المعنى الذي يمكن أن يكون لها، وكذا عن المعنى الذي يمكن أن يمنحه المتعلمون لها.
قد ينظر الأطفال والآباء إلى نشاط معين بكونه مهما، لكن تختلف كل فئة عن الأخرى في المعنى الذي تمنحه له. فإذا أخذنا القراءة مثلا، فإننا نجد أن الآباء يولون أهمية كبيرة لقراءة القصص للأطفال الصغار، إذ يرون في هذا النشاط مدخلا أو مقاربة أولية للقراءة. وهكذا، فعندما نقرأ القصص للأطفال الصغار، فإننا نسافر بهم إلى عوالم سحرية، مما يطلق العنان لخيالهم، ويُمَكِّنُهم من تذوقها، ويخلق لديهم شيئا فشيئا الرغبة في الانخراط في المغامرة الصعبة لتعلم القراءة. ونضيف إلى ذلك أن هذا يساعدهم على اكتشاف معنى المكتوب، حيث يدركون أن هذه الخربشة المخطوطة على الورق قد تم تنظيمها ضمن نسق يروي أروع الحكايات وأجمل المغامرات… لكن الآباء لا يستمرون في القراءة لأطفالهم إلى ما لا نهاية، بل إنهم يتوقفون عن ممارستها بمجرد أن يبدأ الأطفال في معرفة القراءة، وذلك حتى ولو استمر هؤلاء في مطالبتهم بالاستمرار في القراءة لهم. وإذا ما قمنا بتحليل هذه الوضعية بحثا عن معنى هذا النشاط لدى كل من الآباء والأطفال، وجدناه مختلفا عند كل منهما. فالآباء يرغبون في أن ينخرط أطفالهم في القراءة في سن مبكرة، مما يدفعهم إلى القراءة لهم كي يحببوها لهم ويحفزوهم عليها… وعندما يتوقفون عن الاستمرار في فعل ذلك، فإنهم يريدون أن يمارس الأطفال القراءة وحدهم بتلقائية وعفوية، ويستقلون عنهم في ممارسة هذا النشاط. لكن قد يكون المعنى الذي يمنحه الطفل لنشاط القراءة هو غير ذلك الذي يحمله الأب أو الأم عنه، لأن الأمر يتعلق أساسا عند أغلب الأطفال بتلبية حاجة عاطفية. فالطفل يريد أن يقرأ له والده أو أمه بدافع الرغبة في أن يقضيا معه وقتا ممتعا ويكونا رهن إشارته… وتبعا لذلك، فإن بعض الأطفال قد يرون أن توقف الآباء عن القراءة لهم يحرمهم من متعة قضاء لحظات جميلة وممتعة معهم. وهكذا لن يهتم هؤلاء الأطفال بأن يصيروا قراء جيدين، مما قد يُبدد كل ما اكتسبوه سابقا خلال قراءة القصص لهم من قِبَلِ آبائهم.
وعندما ننتقل إلى المدرسة، فإننا لا نجد دائما أن المعنى الذي يقدمه المدرس هو نفسه الذي يكتسبه التلميذ، بل إن أغلب التلاميذ يفعلون ما يُطلب منهم فعله دون أن يدركوا معناه ولا لماذا فعلوه… وغالبا ما لا يعي المدرسون أن المعنى الذي استوعبه التلاميذ ليس هو فعلا ما قالوه لهم. وبناء على ذلك، فإنه لا يمكن أن نتصور أن تلميذا يستطيبع تطوير فرضية أو حل مسألة يطرحها عليه المدرس من دون أن يكون لهما أي معنى لديه.
علاوة على ذلك، يرتبط المعنى ارتباطا وثيقا بالثقافة والوسط الاجتماعي والتاريخ الشخصي للتلميذ. وفي هذا الإطار، لاحظ ” فليب بيرينو” Philippe Perrenoud أنه عندما يُطلب من التلاميذ للمرة الأولى كتابة إنشاء، فلا أحد منهم يستطيع إنجاز ذلك بشكل سليم، إذ لا تكون كتاباتهم أصيلة، ولا يكون مضمونها مهيكلا، وذلك حتى ولو تعلق الأمر بالكتابة في موضوع بسيط ومباشر. لكن قد يُنير المناخ الديداكتيكي الطريق لبعض التلاميذ، مما يمكنهم من اكتشاف معنى هذا النشاط، فيصبحون قادرين على تحسين إنجازاتهم الكتابية اللاحقة شيئا فشيئا. وعلى عكس ذلك، فقد يستعصي على بعضهم الآخر فهم الفائدة من كتابة نص حول شخصية بعض أقاربهم أو حول كيفية قضائهم لعطلتهم… فليس لهذا أي معنى بالنسبة إليهم، إذ لا تثير هذه المواضيع فضولهم أو تغريهم، لأنهم يجدون المعنى في أشياء أخرى غيرها. ويمكن تفسير ذلك بتأثير ثقافة التلاميذ في مهامهم المدرسية، حيث تؤثر في المعاني التي يمنحونها لمختلف الأشياء والأحداث والكائنات، كما تؤثر في استجابتهم أو عدم استجابتهم لما تتوقعه المدرسة منهم…
يمكن لكل من الوضعيات والسيرورات الديداكتيكية التي يطورها المدرس أن تكون أيضا حاملة للمعنى، إذ يمكن لدينامية حل مسألة أن تشكل نشاطا له معنى، حيث يقوم هذا الأخير على البحث والنشاط الفكري المفتوح… وعلى العكس من ذلك، نلاحظ اليوم كثرة الارتكاز على تصورات بيداغوجية تحكمها نزعة تقنية تختزل المعرفة وتتناقض مع طبيعتها في غالب الأحيان. ويظهر لي أن ذلك لا يصنع شيئا بالنسبة للتلاميذ، ولا يفيدهم في أي شيء، إذ يُحَوِّلهم، في أحسن الأحوال، إلى كائنات تشتغل بطريقة أوتوماتيكية. نتيجة ذلك، ينجم عن هذه النزعة التقنية انحراف يؤدي إلى فقدان عمل التلاميذ لأي معنى…
عندما يتخذ شخص قرارا متعلقا بحياته، فقد يكون لما سيقوم به معنى بالنسبة إليه، أو لا يكون. ومن النادر أن ينجز شخص شيئا لا معنى له لديه. كما أنه من البديهي أن يكون المتعلم أيضا في حاجة إلى المعنى. وبالرغم من ذلك، فإننا نرى أن أغلب المعارف المدرسية خالية من أي معنى بالنسبة للمتعلمين. وهذا ما ينسحب على أغلب مضامين الكتب المدرسية وعلى ما يجري داخل حجرات الدرس… ويرجع ذلك إلى أن المعرفة المدرسية مفصولة عن استعمالاتها في الحياة اليومية، مما يحول دون تمكين التلاميذ من القدرة على الانخراط في اكتشاف ما لا يعرفونه عبر بنائه…
تُعَوِّدُ مدرستنا المغربية الأطفال والتلاميذ على الجمود أو على الفعل الخالي من أي دلالة أو تفكير، إذ غالبا ما لا يتساءلون عما يفعلونه ولا عن الهدف من فعله… ومن المدهش أن العمل الذي يُفرض عليهم إنجازه ليس له أي معنى بالنسبة إليهم. وهذا ما يجعل عملهم منحصرا في التكيف مع ما يُؤمرون بفعله حتى ولو كان متنافرا ومتهافتا. تبعا لذلك، عندما يتعلق الأمر بحل مسألة رياضية، فإن أغلب التلاميذ ينخرطون في حلها بشكل آلي دون معرفة معاني المفاهيم التي يشتغلون بها، ولا أصولها، ولا تاريخها، ولا الروابط التي تجمع بينها سواء داخل نفس الحقل المعرفي أو بين مختلف حقول المعرفة. كما أنهم لا يعرفون كيفية توظيفها لإنتاج المعرفة بها، ولا حدودها… فهم ملزمون بالمقررات الدراسية، لكنهم لا يدركون معناها ولا علاقاتها بالحياة، ولا دلالتها بالنسبة للمستقبل… إنهم يراكمون معارف مجزأة لا رابط بينها، مما حول المعارف المدرسية إلى كلمات متقاطعة غير منتظمة في أي نظام. نتيجة ذلك، أصبح التلاميذ يمشون فوق كلمات ورموز ورسوم البرامج الدراسية المُضَمَّنَةِ في الكتب المدرسية، ولا يدركون أهميتها ولا جدواها… إنهم لا يطرحون أي سؤال حول المضامين المُقَدَّمَة إليهم، ولا يحسون بالحاجة إلى منحها معنى. هكذا، فلا يكمن المعنى، بالنسبة إليهم، في المعارف التي يُفترض أن يتعلموها، بل يرونه كامنا في النجاح في الامتحانات والحصول على الشهادات… وبذلك، فهم لا يقيمون علاقة سليمة بالمعرفة، وإنما هم يطمحون فقط إلى النجاح من أجل احتلال مواقع اجتماعية مهمة مستقبلا. لذلك، فإنهم لا يجدون الحافز في المعرفة، بل خارجها. تبعا لذلك، إنهم لا يتعلمون شيئا، وإنما قد يتحايلون من أجل النجاح دون اكتساب ما يستوجب ذلك من قدرة على بناء المعارف والاشتغال بها… وهذا ما يساهم في استفحال ظاهرة الغش في الامتحانات وترسيخها في المجتمع… ويعود ذلك إلى أن عدم اكتشاف التلاميذ لمعاني الأشياء يحرمهم من لذة المعرفة، مما يحول دون انخراطهم الكامل في مغامرة التعلم، ويٌنٓفِّرٌهم منه، الأمر الذي قد يصيبهم بالنفور والخمول والجمود…
كثيرا ما يفرض المدرس على التلاميذ تدوين ما يقوله ويكتبه على السبورة…، لكن قد لا تسمح لهم طبيعة مضامينه المعرفية المركبة والمعقدة بفهمه بسرعة، حيث يتطلب ذلك فترة زمنية وعُدَّة تتضمن خلق وضعيات وسيرورات ديداكتيكية لاستيعابه من قِبَل التلاميذ… لكن، عوض أن يتم خلق شروط تربوية تمكنهم من إدراك معاني هذه المعارف عبر الانخراط في بنائها، فإنه يتم نعتهم بالعجز عن المتابعة والمسايرة… وتبعا لذلك، يجب على التلاميذ أن يكتبوا ما يلقى عليهم دون التفكير فيه أو مساءلته…، مما يعني أن عليهم أن يفعلوا ما يُطلب منهم فعله دون فهمه… وهكذا، تكون أفعالهم جوفاء خالية من أي معنى، الأمر الذي يحول دون نموهم ويجردهم من إنسانيتهم… فليس ممكنا أن ينخرط التلاميذ في البحث عن الدلالات إلا عندما يكفون عن التصرف ككائنات آلية ويدركون معاني الأشياء عبر توفر شروط تربوية تمكنهم من معرفة المعارف المدرسية عبر بنائها، مما يفسح لهم ولمدرسيهم المجال لبناء معنى المدرسة عبر الاستثمار في ذلك معرفيا ووجدانيا…
لا تمتلك المعرفة معنى في ذاتها، حيث إن المتعلم والمدرس هما اللذان يمنحانه لمضمونها. أضف إلى ذلك أن المعنى شخصي، إذ يقول رولان بارث Rolant Barthes إن السميولوجي يرى المعنى في الشارع حيث يرى الناس الأشياء. وهكذا يمكن لهذا الأخير أن يجد خطابا حول فعل البيع l’acte de vendre في واجهات المتاجر حيث تُعرض البضائع. وليس هذا التحليل حديثا جدا، إذ يشرح الفيلسوف ” ألان” Alain أن الجندي يرى في آثار حوافر فرس على الأرض آثار فارس، لكن يرى فيها المزارع آثار فلاح. وقد يستطيع التلميذ، خلال نشاط مدرسي، فهم ما يُطلب منه وتحديده، لكن هذا لا يعني أن ما يُقدم إليه يحمل معنى بالنسبة إليه. تبعا لذلك، يتحول التلميذ إلى آلة تطحن الفراغ. ولتغيير هذا الوضع الخالي من أي معنى، يجب أن تحيل المعرفة المدرسية على ما يجعل المتعلم ينخرط في التعلم. فالوقائع موجودة، لكنها تكتسب معنى حسب الطريقة التي يوجدها بها كل واحد.
يقتضى منح المعنى لنشاط تربوي معين التصرف بالشكل الذي يمكن المتعلم من الحضور الفاعل، ويجعله يحس بفائدة وأهمية المعرفة التي يتعلمها. وهذا ما ينبغي تجسيده عبر إقامة علاقة بين المعرفة وشخص التلميذ، مما يعني ربطها بمشاكله وتاريخه الخاص وأسلوب تفكيره وما يطرحه من أسئلة على نفسه، وكذا بحاجاته الواعية وغير الواعية…
ويعني منح المعنى معرفةَ ما يراد فعله، إذ يكمن المعنى في معرفة الهدف المراد تحقيقه. كما ايتطلب ذلك معرفة السبب الذي يُحرك الإنسان لفعل ما يريد فعله.
وعندما نتأمل في كيفية اشتغال نظامنا التعليمي حاليا، نجد أنه يهدف أساسا إلى الدفع بالمتعلم إلى الفعل فقط من دون إدراك معنى ما يفعله، الأمر الذي يحول دون تعلمه ويحكم عليه بالجمود. لكن لكي يكون هناك معنى، يجب أن يفعل المتعلم من أجل التعلم، إذ ينبغي أن تتهيأ له الظروف الديداكتيكية كي يفكر ويبني المعرفة وينتجها ليستوعبها…
الجمعة : 08 مارس 2019.