يّلاحظ أن النزعات القومية والطائفية قد فقدت كل مسوِّغاتها ومبرراتها في عصر العولمة الذي نعيشه، حيث صار تمجيد الانتماء القومي والقَبَلِي والطائفي أشبه بالتهمة. لكن هذا لا يعني أن هذا الانتماء قد انتهى، أو سينتهي. قد يحصل ذلك عند بعض الأفراد، لكن، من المستبعد أن يحدث لدى الشعوب. أصبحتُ، على سبيل المثال، بعيدًا جدًا عن اعتناق القومية إيديولوجيا وسياسيا، لكن لا يمكنني التخلص من انتمائي إلى لغة وشعب وثقافة بعينهما. فالأمران مختلفان تماما، وثانيهما مفروض عليَّ بحكم الطبيعة والواقع.
يتكون المجتمع المغربي بشريًا من أقوامٍ متعددي الأصول والثقافات. مقابل النظرة إلى الشعب المغربي من زاوية عرقية، كما كان يفعل دعاة القومية العربية الذين مارسوها نوعا من العنصرية. يبدو لي من المنطقي جدا أن نتحدث عن مفهوم «السلالة التاريخية» الذي ينطبق كثيرا على المجتمع المغربي، لأنه مُركَّب فريد من العرب بأنواعهم، والأمازيغ على أشكالهم، واليهود والمسيحيين، وغيرهم. لقد انصهر هؤلاء جميعا في بعضهم البعض عبر تاريخ هذا المجتمع، فصاروا يشكلون “سلالة تاريخية” واحدة، فيما وراء الأعراق والديانات والطوائف واللغات والثقافات. بذلك، فالعرب يشكلون ضمن هذا المزيج جزءًا لا كُلاً، وكذلك الأمر بالنسبة للأمازيغ. وهذا ما يعني كذلك ضرورة التخلّص من مفهوم الأقليات لفائدة تعدد الهويات أو الهوية المتعددة. ومن أجل ذلك، يجب القول بانتساب الشعب إلى الأرض التي يعيش فيها، وليس إلى اللغة أو الدين أو الطائفة أو العرق. فسكان المغرب هم الشعب المغربي، لا فرق فيه بين فرد أو آخر، بين من ينتمي إلى أحد أصوله العرقية وبين من ينتمي إلى أصل إثني آخر، بين من يتكلم هذه اللغة وبين من يتكلم أخرى. فالشعب في سائر الأحوال يجب أن يبقى واحدا. لذلك،يجب أن تكون المواطَنَة هي الأساس والأصل. لا الانتماء المذهبي أو العِرقي أو اللغوي..
لقدسبق أن قرأت الفكر القومي العربي كثيرا، بدءًا من زكي الأرسوزي إلى ميشال عفلق وغيرهما. فانتهى بي المطاف إلى القناعة التالية: لقد شكلت القومية العربية، كما تم التنظير لها، مشكلة كبرى من الواجب التخلّص منها. القومية العربية في تلك التنظيرات تشبه نوعًا من الدعوة الدينية، لأنها تزعم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة بمفردها، وأنها تجسِّد تلك الحقيقة في وحدة بلدان الشرق الأوسط والمغرب العربي، وفي بناء الدولة الواحدة في هذه المنطقة. وأظن أن هذه الفكرة تحجب (عن وعي أو عن غير وعي) حقائقَ الواقع التي تؤكد أن هناك عناصر كبرى متعددة ومتنوعة ومتباينة تشكل المجتمع الشرق أوسطي والمغاربي معا، مما يُلزمنا بأن نكون فكريا وإنسانيا ضد كل نزعة قبلية أو قومية أو لغوية أو عرقية أو طائفية تلغي التعدد والتنوع والاختلاف في هذه المنطقة، لأنها تنظر إلى ما عداها من الجماعات المكونة للمجتمع، والطوائف واللغات، بوصفها أقليات، وتسعى في نهاية المطاف إلى الهيمنة عليها. لذلك، أرفض هذه الكلمة الأخيرة هي الأخرى. فعناصر المجتمع، سواء كانت مسلمة أو يهودية، أو مسيحية، أو عربية، أو أمازيغية، أو غيرها، بصرف النظر عن حجمهما داخل المجتمع، هي مكونات تنحدر من تاريخ مجتمعات الشرق الأوسط والمغرب معا. فكل مكونات هذه المنطقة هي عناصر تكوينية في المجتمع، ولا يمكن النظر إلى بعضها بوصفه أصولا وبعضها الآخر باعتباره أقليات. والعروبة نفسها هي جزء من هذا التكوين وليست كله. تبعا لذلك، فنظرية القومية العربية هي نظرية تخفي الواقع المتعدد وتحجبه وتختزله وتلغيه، ما يجعلها تجسد نوعا من الإقصاء والإبعاد، ويدفع الكثيرين إلى وصفها بكونها تتسم بالعنصرية….
والإسلام أيضًا يجب أن يُنظر إليه بوصفه جزءًا من ثقافة المنطقة وليس كلها. لذلك، أناهض القومية العربية وكل النزعات القومية والطائفية والقَبَلِية والعرقية الشمولية التي تُمارس إلغاء الآخر وإقصاء ، ولا تعترف به، ما يجعلها في خاتمة المطاف ضد المواطَنَة والتحديث والبناء الديمقراطي. تبعا لذلك، فإن كل لا يعترف الآخر، هو ضد المواطَنَة، وكل من هو ضد المواطنه، هو ضد الوطن، لأنه يعمل على ضرب الوحدة الوطنية…
لا تسيء النزعات القٓبٓلِية والعرقية والقومية والطائفية المتطرِّفة إلى الآخر فقط، بل وكذلك تنسف ذاتها، لأن الذات من خلال رفضها للآخر فهي ترفض نفسها وتعزلها، ومن خلال معاداته تعادي ذاتها، لأن عدم الاعتراف بالآخر هو إنكارٌ للذات، وجعلُها ضد التطور والتقدم نتيجة رفضها الانفتاح على الآخر.
إضافة إلى ذلك، فأغلبية الأحزاب القومية والطائفية وغيرها، من أحزاب وتنظيمات المجتمع في هذه المنطقة بجميع أشكالها، هي تنظيمات دينية. وأرى كل مشاكل العمل السياسي والاجتماعي في مجتمعات هذه المنطقة تكمن في هذه العلة الكبرى. ومردُّها انغلاق رؤى تلك الأحزاب والتنظيمات وعدم انفتاحها، ما يحول دون تطورها؛ فأفكارها مجرد طقوس وبُكائيات وتراتيل، وزعاماتها لم تُعِدِ النظر في رؤاها من أجل تكييفها مع التطورات الاجتماعية والعلمية، والتحولات العالمية. بدل ذلك، تحوَّلت إلى أديان ومذاهب تعتقد أن على الواقع أن يتكيف معها هي لا العكس، لأنها، حسب توهُّمها، هي من تمتلك الحقيقة المطلقة، ما يجعلها ترفض التغيّر، رغم أن الواقع والعالم يتغيران من حولها.
إذا كان دعاة القومية العربية الذين يقدسون اللغة العربية، يعتقدون أن مشكلة اللغة العربية كامنة في تراجعها، وأنه من الواجب الدفع بها ودعمها حتى تهيمن على اللغات الأخرى، المحلية والأجنبي، فهذا كلام لا يستقيم في نظري، لأن مشكلة اللغة العربية، في رأيي، لا يمكن حلّها لغويا، لكونها عقلية – ثقافية بالأساس. فعندما يغيب العقل تضمر اللغة وتتراجعُ، وما لم يتم تدارك الأمر بقبول سُنَّة التطور، والمبادرة إلى تجديد اللغة لتمكينها من قول أشياء العالم المحيط بها، فمآلها الانقراضُ لا محالة، كما حصل للعديد من اللغات البائدة، كالسومرية والبابلية، والآشورية، واللاتينية، وغيرها، والدخولُ إلى متحف تاريخ اللغات الذي لا يتردد عليه إلا حفنة صغيرة من أهل الاختصاص في استنطاق رُفاة اللغات.
كما أن الدعوة إلى التدريس بالعربية العامية المبسَّطة أو الخالية من الحركات الإعرابية، لا يوقظ عقل المجتمعات العربية من سُباته. ما السبيل لإيقاظه؟ ذلك هو السؤال الذي يجب الإجابة عليه (أدونيس).
إضافة لما سبق، لم يعد اليوم مقبولا تبني نظرة عدائية تجاه اللغات الأجنبية، لأن ذلك سيؤدي إلى الانغلاق، ويحول دون التطور والنمو. زِد على ذلك، فإنه لا يمكن لمن لا يعرف لغة أجنبية أن يعرف لغته الخاصة(جوته).
السبت : 16 فبراير 2019.