ابن تيمية…والتنظير السياسي
ولا نعدو الصواب إذا قلنا إن جل الدراسات الإسلامية في الفكر السياسي المعاصر قد صارت في الأغلب تمثل بنزعتها التمجيدية المبالغ فيها ، عائقا معرفيا يبعد الواقف عليها عن صلب المشاكل المراد بحثها ويفوت عليه فرصة الاتصال المباشر بالموضوع في أبعاده وحيثياته ، فضلا عن كونه يشغله إما برؤية إسقاطية ذات مركزية تاريخية تمجيدية واضحة ، أو بمشاكل زائفة من قبيل اللهث وراء أصول فارسية،أو أموية ،أو عباسية، أو سلجوقية، أو عثمانية ، علاوة على كثرة الاجماعات والاتفاقات التي تعج بها أعمال وتفسيرات العقل السلفي في تلك المصنفات ، مع قصور واضح في تحقيقها وضبط تعليلاتها بما يناسب حدود الواقع التاريخي الفعلي . كل هذا قد قد انعكس على قيمة ما كتبه الأولون حول الفكر السياسي في الإسلام ، خاصة كتابات ابن تيمية .كل ذلك قد حال دون قدرة العقل السلفي على استكشاف أصولها النظرية المؤسسة لها ، والوقوف على منطقها الداخلي ، وعلاقة الجدلية بالواقع السياسي لدول الخلافة!
لذا استسمح القارئ الكريم بتقديم مقدمة حول نشأة الفكر السياسي عند المسلمين ، وأحسب أن هذه المقدمة من الأهمية بمكان لفهم مشكل العقل السلفي السياسي ، ودور ابن تيمية في هذا المشكل لكون الأوسع اتباعا وتأثيرا على عقل السلفي المعاصر .
– النشأة والظرفية التاريخية السياسية :
ثمة تقليد سارت عليه الكتابات الأصولية السياسية القديمة ، التي تكتفي بتحليل بنية علم الأصول أو الفكر السياسي(=الأحكام السلطانية) ولا تعير اهتماما لتاريخيته ولتطوره ، خلافا لما حاول القيام به ابن خلدون في مقدمته . ولو توجهنا بنظرنا شطر الفكر السياسي الإسلامي كله ، منذ عرف نشأته الأولى في القرن الأول الهجري والسابع للميلاد ، وهو فكر يظل بلا ريب ، مستغلقا على الفهم إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أبعاده السياسية ومواقفه الفكرية الطامحة ، بالأصل أو بالتبعية ، إلى تحقيق بديل أو بدائل سياسية . ولم يكن ممكنا إدراك السياسة كمجال وفضاء محيط بمختلف أصناف واتجاهات الفكر الإسلامي ، لولا أن هذا الفكر قد ترعرع في مناخ فكري احتلت السياسة فيه المقام الأول ، ولعب الحوار والجدل والصراع السياسي الدور البارز في حركاته الاجتماعية ؛ الشي الذي يجعلنا نقرن المقولة اليونانية(الانسان حيوان اجتماعي)وهو لذلك(كائن سياسي)بأختها الإسلامية التي جاءت على لسان الشهرستاني في قوله:(وأعظم خلاف بين الأمة ، خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة في كل زمان ).وما كان بالإمكان أن نسل السيوف من أجل هذه الإمامة(السلطة السياسية) لولا اعتقاد راسخ بضرورة السلطة في التعبير الاجتماعي ، ولولا تجربة سياسية وإعداد سياسي سابق عاشهما حاملو تلك السيوف ، منذ أن أصبحوا ينتمون لمجتمع واحد(=الأمة)موحد، تحددت هويتها تجاه المجتمعات والأنظمة السياسية الأخرى المجاورة ، كنقيض وبديل لها على المستوى العقائدي والممارسة الأخلاقية والسلطوية أيضا .
ما نود التأكيد عليه في هذه المقدمة ، كون علم الكلام الذي ساهم رجاله في تطوير نظرية الأصول والتقعيد للتشريع ؛ أن ذلك العلم لم يكن إلا وليدا شرعيا للمجتمع الإسلامي.هذا الأخير الذي كان يسير سيرا حثيثا نحو الاختلاف والاصطدام. وإذا كان المسلمون قد ألفوا من القرآن والسنة توجيه الاهتمام بإنشاء المجتمع الجديد ، والحفاظ على وحدة الصف والتحذير من الفرقة والتخاذل .. فإن الاختلافات السياسية ، سواء على منصب الحكم أو توزيع الأموال ، اضطرتهم إلى ذلك الطريق ، طريق المواجهة الفكرية والاختلاف.ومعلوم أن هذا الاختلاف لم يشمل العقائد ودقيق الكلام إلا في مرحلة متأخرة نسبيا بعد أن ظل المشكل السياسي يشكل بؤرة الصراع وأساس الافتراق الذي سلت بسببه السيوف،ويبدو لنا أن هذا هو ما لم يرد أن يفهمه بعض الفقهاء والمؤرخين ، ممن عارضوا قيام علم الكلام في الإسلام وطعنوا في شرعيته حين اعتبروه ظاهرة غير سوية ، ما دام الجدل في العقائد كان منعدما في صدر الإسلام وزمن النبوة وفترة الخلافة الراشدة ، وبالتالي فهو علم فاقد للشرعية ولا مبرر لقيامه .متناسين بأحكامهم هذه ، أن الاختلاف في العقائد النظرية نشأ داخل علم الكلام بكيفية عرضية نتيجة الاختلاف في الأمور السياسية وفي مشاكلها العملية .
والظن الغالب أن هذا الخلط بين الكلام في السياسة والكلام في العقائد ، علاوة على كونه يعكس افتقادا لوعي تاريخي وغفلة عما مارسه رجل السلطة من تشويه مقصود بترويجه أن المتكلمين يتكلمون في العقائد والدين ، إن ذلك الخلط حجب عن العديد من الفقهاء الأبعاد الحقيقية لإصطدام بعض أوائل المتكلمين مع السلطة السياسية ، وهو الذي أدى بالتالي إلى سكوت أغلب أولئك الفقهاء عن إدانة العنف الذي قابل به الولاة السياسيون المواقف السياسية لأولئك المتكلمين ، ويرجع هذا السكوت من جانب الفقهاء إلى غفلتهم عن الأبعاد السياسية الواضحة التي أطرت تلك المواقف الكلامية وأعطتها معانيها الأولى . وسوف يستغل رجل السلطة السياسية هذه الغفلة من جانب الفقهاء ليجهز على خصومه بحجة حفظ الدين والعقائد من زيغ أصحاب(الأهواء والملل والنحل)!!
– جدلية الديني والسياسي:
لقد كان لحضور حاملي(العلم والكلام) إبان العهود الأولى للإسلام ، في أهم الثورات ضد السلطة السياسية ، أثره الواضح في تنبيه هذه الأخيرة ، عبر العصور ، إلى ما قد يشكله (المعرفي)من سلطة مؤثرة ، وما قد ينطوي عليه من(سلاح)من نوع آخر،أولى تجلياته ذلك النفوذ الذي قد يكسبه رجل العلم حينما تنتشر(معرفته) بين جماهير الأمة ، ولعل ذاكرة السلطة السياسية لا تنسى أبعاد ثورة القراء(ابن الزبير، وابن الجبير، وابن الأشعث،وابن المسيب)، ولعل معركة الجماجم ! أيام الحجاج والتي راح ضحيتها كم هائل من كبار التابعين والعلماء ؛ لم تغيب عن الذاكرة.
والجدير بالذكر أن ثورة القراء تمثل تصميم حاملي المعرفي(=العلم والكلام) على مواجهة صاحب السيف ، وإرغامه على الخضوع للمعرفي ، باعتباره مصدرا للشرعية وللسلطة . وإن في سلسلة الخروج على السلطة السياسية ، تلك السلسلة التي ابتدأت خاصة بخروج الحسين بن علي ، ما يؤكد حضور نموذج الخلافة العادلة لدى جل متزعمي ذلك الخروج ، وإدانتهم لافتقاد الشرعية في السلطة السياسية القائمة . وغني عن التوضيح أن هؤلاء الطاعنين في شرعية السلطتين الأموية والعباسية كانوا يلتمسون سلاح(علمهم) في تلك المواجهة من نفس المفاهيم والمصطلحات التي أصلها الإسلام منذ نشأته .
هكذا إذن شعر أولئك المهزومون سياسيا وعسكريا بضرورة إعادة إنشاء بديلهم السياسي ؛ ولكن هذه المرة يتجه القصد إلى إنشائه على المستوى النظري والمعرفي ! وذلك عن طريق تدارس العلم وتنظيم حلقاته ، وتصنيف مصنفاته . والمقابلة بين السيف والقلم إنما تعكس المقابلة بين السياسة والمعرفة ؛ بين حكم الواقع وما ينبغي أن يكون . إنها مقابلة تطرح أيضا مفهوما للسياسة قد عبرت عنه القاعدة الأموية(إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)!! مما يعني تشجيع السلاطين والخلفاء على ضرورة اللجوء إلى العنف ولتخويف،كسبا للاستقرار الاجتماعي، والسياسي ، وجمعا للكلمة ، وحفاظا على الوحدة… وهي غايات ضرورية تبرر ضرورة اللجوء إلى وسائل محظورة أو مستهجنة غالبا عند رجل القلم ذي المعرفي الحر ؛ كالعصبية والسيف والسوط !! كما أصل لها قال أبو الريحان البيروني(440)،(ولكن أهل الدنيا ليسوا بفلاسفة كلهم ، وإنما أكثرهم جهال ضلال ، لا يقومهم غير السيف والسوط ، فبغيرهما لا تتم السياسة)!!
وإن شيوع مثل هذه المقولة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام يعكس التراجع المبكر لقيم منهج النبوة والخلافة الراشدة ، وسيطرة قيم الملك العاضى والجبر في ظل ما يسمى بدولة الخلافة القيصرية أو الكسروية، والتي تنامى فيها نفوذ العصبية والسيف والقوة ، وهي ذات المعاني المتضمنة في مفهوم(السلطان)المستأثر بمثل هذه الأسلحة من التأثير السياسي والنفوذ الاجتماعي .
وليس غريبا أن نرى التوجهات السياسية الرائجة داخل قصور الخلفاء والسلاطين كانت تتخذ من كتاب الدواوين التي تسير على درب ملوك الأعجام خاصة الساسان نموذجا لها ، ككتاب(نصائح الملوك)،و(رسالة الصحابة)لابن مقفع ، وربما الخليفة معاوية أيام ولايته العامة على الشام أول من حاول في الإسلام تبرير الاستلهام والاقتباس من النماذج سياسة الأعاجم . ولعل السبب الفاعل في شيوع النموذج السياسي الساساني الفارسي في تدبير السلطة راجع قبل كل شيء إلى رغبة (إيدلوجية) تتمثل في التطور الفعلي الذي سارت إليه الخلافة نفسها منذ العصر الأموي .
ولعل أبرز الكتاب في التنظير السياسي كان عبدالله بن المقفع الذي كان يضمر حنينا إلى ذلك التراث السياسي الفارسي ، باعتباره نموذجا يستحق أن يحتذى به . ويدل على ذلك كثرة ما نقله من ذلك التراث ، من قبيل(خدا ينامه) أو سير ملوك الفرس ، الذي كان كتابا واسع الانتشار في بلاد فارس قبل الإسلام ، وكذا كتاب (آيين نامة) حول مراسيم وتقاليد بلاط ملوك آل ساسان ، وكتاب(التاج)في سيرة الملك أنو شروان . وقد انتبه ابن خلدون إلى مدى ما بلغته سيطرة هؤلاء الكتاب الذين كانوا المصدر الأساس الذي يمول دولة الخلافة بطبقة الوزراء حتى استبدوا بالأمر (فعظمت آثارهم وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء ، من ولدهم وصنائعهم ، واحتازوها عمن سواهم ، من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم ).
نود أن نخلص إلى القول ، مما سبق ، أن كتاب الدواوين الذين ارتقى عدد منهم إلى مستوى الوزارة والاستبداد بسلطتي القلم والسيف –كالفضل بن سهل- قد نجحوا في الترويج ، داخل بلاط الخلفاء والسلاطين ، لذلك النموذج السياسي الكسروي ، واضطروا في سبيل ذلك إلى ممارسة عمليات من التأويل ، قائمة على حذف نقائض وسلبيات ذلك النموذج ، وتضخيم إيجابياته ، لذلك جاءت المصنفات الإسلامية في الفكر السياسي تحمل ذات العناوين كـ(الأحكام السلطانية)وهي ترجمة لمقولة ابن مقفع (الدولة هي الملك أو السلطان) التي أصبحت ضابط يضبط علاقة الخليفة أو السلطة بقاعدة الجماهير المحكومة ، أو كما عبر عنها ابن تيمية لاحقا بـ(السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) راعي .. ورعية !!
والجدير بالذكر أن أحمد بن يوسف(340) صاحب الثقافة اليونانية ، حاول تكريس ذات القيم الاستبدادية الفارسية ولكنها بفلسفة يونانية ورؤية عربية حيث يقول:(تحذير العامة من النظر في الدين ، إلا ما احتاج الجمهور إلى الفتيا فيه)..كما ينصح الملك بتجنيب العامة(ما شجر بين السلف في بدء الدولة..فإن الخوض في ذلك يسقط هيبة الملك من قلوبها)(انظر:الأصول اليونانية)وهو موقف يعتبر قبل كل شيء صدى للموقف الذي تولد عن الخوض فيما جرى من خلافات بين الصحابة في مشكل الخلافة وشروطها وشرعيته .إذ من شأن خوض الجمهور وأصحاب المعرفة في مثل هذه القضايا أن يفقد مالك السلطة الفعلية ، من بين(الخلف)، كل هيبة وقداسة ؛ ما دامت القداسة قد نزعت حتى من(السلف)!! ومن ثم فالواجب ، عند هذا المدافع عن النموذج السياسي اليوناني حفظ تلك الهيبة لرجل السلطة بمنع الخلاف ، ليس في المشاكل المعرفية والسياسية ، بل حتى على المستوى الفقهي ؛ حيث يجب على الملك أن يلزم الجميع(بالظاهر من الشريعة ، ويمنعهم من تأويلها وتسفيه بعضهم بعضا فيما اعتقده منه)!!
هكذا تبدو جلية وحدة منطق الخطاب السياسي الفارسي واليوناني المنقول إلى الحقل الإسلامي في تقديم أفضل حل لمشاكل الخلافة والملك المستجدة ، واضمن للاستقراء ، وأنجع وسيلة لإبطال عجلة تداول السلطة بالرؤية القرآنية على مناهج النبوة !!
ولا نستغرب ، بعد كل هذا إذا وجدنا نصوص أغلب الكتاب في الإسلام حول مفهوم السلطان ، تكاد تجمع على وضع مقابلة ، أو تناظر بين مفهوم السلطان(=الملك،رجل السلطة)وبين معنى الشوكة والقوة ، الذي يشكل بعدا أساسيا في مفهوم السلطان ، يكاد يبلغ إلى مرتبة الهوية ، والتعريف بالحد لا بمجرد الرسم !! وهذا ما قررت المصنفات التي بين أيدينا ، كتاب الأحكام السلطانية …والسياسة الشرعية في الراعي والرعية … وبدائع السلك في طبائع الملك …وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام ..والشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء ..والشهب اللامعة في السياسة النافعة ..وحسن السلوك الحافظ دولة الملوك … وغياث الأمم في التياث الظلم ،وكل هذه الكتابات تؤكد في إطار شرعية الإجماع على مفهومي الغلبة والقوة والطاعة لهما !!
ولعل مفهوم(الغيث)الذي وسمى به الإمام الجويني كتابه(غياث الأمم)، يمثل أكثر المعاني ارتباطا في تلك النصوص بمفهوم السلطان ؛ من حيث أن الغيث بطبعه وحسب قوانينه الطبيعية ، ينطوي على وظيفتين متناقضتين.فهو من جهة مصدر النماء والحياة ؛ ولكنه من جهة أخرى ، قد يصير مصدر الدمار والموت ، فيهلك الحرث والنسل !! فضرورة السلطان إذن من ضرورة الطبيعة ، ولا يطعن في هذه الضرورة ووجوب الخضوع إليها على الرغم من أحداثها غير المعقولة والمتنوعة والمتضادة ، كذلك يجب الخضوع والطاعة للسلطان وسياساته غير المعقولة والمتنوعة والمتضادة ، بل وعدم نقده أو الخروج عليه !!
والواضح أن الطاعة السياسية في سياق هذا التنظير لمشكلة السلطة ، يجب أن تكون من جنس الطاعة للطبيعة ، في ضرورتها وطواعيتها واستمرارها ، وبذلك يستحيل الفصل بين مفاهيم الطبيعة والضرورة والطاعة من جهة ، والقانون والدولة والسلطان من جهة أخرى !! وقد عبر عن هذا ابن عبد ربه في عقده الفريد بقوله:(من تعرض للسلطان أراده ، ومن تطامن له تخطاه ، فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر ؛ وما استهدف لها قضمته) !!
– إزدواجيه الولاء عند الفقهاء :
إذا كان ممكنا فهم وحدة الولاء عند الكاتب السلطاني ، فإن إزدواجية الولاء لدى بعض الفقهاء وتأرجحهم بين الإخلاص لمفاهيمهم العلمية وبين مراعاتهم لأوضاعهم السياسية والمجتمعية ، لم يكن فهمه إلا كترجيح لكفة هذه الأوضاع التي يعتبر السلطان ، بوجه عام المستفيد الأول من استمرارها . ويبدو لنا ذلك من خلال كتابات الماوردي حين قال للسلطان(وعليك لهم ثلاثة حقوق: أحدها أن تعينهم على صلاح معيشتهم ، ووفور مكاسبهم ، لتتوفر بهم موادك ، وتعمر بهم بلادك ..).
ولعل ما يؤكد هذا الابتعاد عن المفاهيم المعرفية ، ويسجل الانزلاق إلى تبني منطق الدولة السلطانية وقيمها المتجلية في أدب الدولة الساسانية الكسروية ، ما فصله الفقيه المالكي أبي بكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك ، الذي رفع مستوى طاعة رجل السياسة إلى مستوى من القداسة الدينية ، حيث جعل منها(ملاك الدين .. وقيام السنة)وحبل الله المتين وجنته الواقية. وحيث أن الفقيه قد أناط بمفهوم الطاعة كل هذا ، فلن تكون هذه الطاعة السياسية إلا مطلقة لا ستثناء فيها ولا شروط ، إذ (من إجلال الله ، إجلال السلطان ، عادلا كان أو جائرا)!! وما دام الفقيه قد وصل به لحال إلى هذا الإقرار اللامشروط بوجوب الطاعة على الرعية ، فإن هذه الأخيرة ليس لها بعد هذا مطلقا(أن تعترض على الأئمة في تدبيرها وإن سولت لها أنفسها ؛ بل عليها الانقياد وعلى الأئمة الاجتهاد). وإلا فإن نقض تلك الطاعة لا يعني غير هدم أركان الأمة وفتح باب الفتنة وذريعة للكفر (وجور ستين سنة خير من هرج ساعة).(انظر:سراج الملوك للطرطوشي)
وهاك نموذج فقهيا أخر يبرر هذه الإزدواجية في الولاء ويكرس المفاهيم الساسانية الكسروية ، فهذا الفقيه ابن جماعة المعاصر لابن تيمية(733) الذي يكرس ذات القيم الكسروية الطاغوتية لطاعة المنحرفين والمستبدين والجهلاء من السلاطين ،فيقول(… فإن خلا الوقت عن إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها ، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف ، انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم . ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصح )!!(تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام)وقال مثل ذلك النووي الشافعي في روضة الطالبين ، وابن قدامة الحنبلي في الكافي .
ولكن الأغرب بعد كل هذا أن رجل السياسة لم يكتف بتوظيف واستغلال المفاهيم والقواعد الأصولية والمعرفية فحسب ، بل إنه صار يمارس هذا الاستغلال والتوظيف هذه المرة لذات العالم والفقيه ، محاولا توظيف سمعته وصيته العلمي ، ومبديا حرصا على (تزيين) مجالسه بالعلماء عاملا بذلك على إبعادهم عن مجال سلطتهم بين الجمهور ، لهذا لا يجب أن نستغرب لما قد يبديه رجل السلطة أحيانا كثيرة في تاريخ الإسلام من اهتمام بالعلم والعلماء ، ومن حرص على تقريبهم والعناية بهم .
– أين الإمام ابن تيمية من هذا كله ؟!
بادي ذي بدء أن تلك المحن التاريخية بين السيف والقلم قد ظلت محفورة في ذاكرة رجل القلم ، وألقت بكلكلها وعجزها على حياته الاجتماعية ومكانته السياسية أيضا ، وكيف لا يكون لتجربة تلك المحن انعكاس على المستوى المعرفي لدى رجل العلم مثلما كان لها انعكاس على حياته الاجتماعية ومكانته السياسية ؟ ولم يكن هذا العالم فقيها إلا لفقهه في تنزيل الشريعة على حراك النظام السياسي وسلطته وعلاقته بالرعية ، وإذا لم يكن جسد العالم ليسلم من آثار تلك المحن والملاحقات السياسية ، فإن إنتاجه المعرفي لم يكن ليسلم منها كذلك !! وقد لجأت السلطة السياسية-كما مر-إلى تجنيد بعض الفقهاء والعلماء بقصد تأسيس مشروعية طاعة النظام السياسي وعدم الخروج عليه ، وحصر نفوذ سلطة العالم وتقليصها قدر المستطاع .
ومن المعروف أن بنية ابن تيمية المعرفية قد قامت على فلسفة الإمكان والوجوب ، وبنية التوفيق بين المتقابلات ، وهما تلتقيان معا على المستوى السياسي حيث تعتبران المالك للسلطة السياسية (متصرفا في ملكه على مقتضى مشيئته)، على الرغم من أن ما يطرحه مالك السلطة هذا من مشاكل نظرية وعملية متناقضية ، حيث يعمل العقل السلفي جاهدا على التوفيق بينها ومعالجتها ، وترتيب درجات المصلحة والمفسدة فيها ، وسبيل التكيف معها !! ولعلنا نلحظ هذا في كلام ابن تيمية إذ يقول:(فبين رسول الله ، أن الإمام الذي يطاع هو من كان له سلطان، سواء كان عادلا أو ظالما).(انظر:منهاج السنة) ويقول في موضع أخر:(الإمام هو من يقتدى به ، وصاحب يد وسيف يطاع طوعا وكرها .. )(منهاج السنة) والواضح أن ابن تيمية انطلق من فلسفة الحكم التي نظر لها كتاب الدواوين الذين سبقوه ، حيث أن طاعة السلطان بمثابة الخضوع لعوامل الطبيعة ، بما أن قانونهما واحد ؛ كما ألمحنا إلى ذلك من قبل .
ولا يخفى أن بنيته المعرفية التي تأسست على فكر من سبقه هي التي حملته على تكريس مفهوم الإجماع السلطوي ، حيث رأي صحة انعقاد الاجماع على ولاية المتغلب والملك ؛ ذلك الإجماع ربما كان أكثر تلك المفاهيم التي تطلبت من رجل القلم بذل مجهود أكبر لضبط معناه وتحديد مجاله ، نظرا لكونه أكثر المفاهيم إلتصاقا بمشكل السلطة ، ولأنه يشكل أقدم مفهوم حاول رجل السياسة الاستئثار به وتأويله لصالحه ، منذ(عام الجماعة)عام انقلاب الخلافة ملكا عضوضا !! كمفهوم ممكن الوقوع على قيم العدل والمساواة والحريات والحقوق والواجبات ، فتصبح هذه القيم في حكم الاستثناء ، وقيم التغلب والملك والتوريث هي القاعدة التي تحكم الناس.وصاحب هذا التصور لن يجهد نفسه بالتنديد بهذا التغيير ، مادام ليس هناك تناقض حين تحويل الممكن إلى واجب ، خصوصا إذا كان ذلك الممكن السياسي يملك من الوسائل ما يفرض نفسه كواجب وكواقع محسوس لا يرتفع !! بل ، ومادام الخروج عنه ، والتمسك بقيم العدل والمساواة والحريات كواجب،ملغي،وهو الذي من شأنه أن يؤدي إلى الفتنة التي تصير بمثابة المستحيل الوحيد الذي يجب دفعه وينبغي ألا يكون !!
– ففي جانب التوظيف المعرفي :أحسب أن هذا ما فعله ابن تيمية حين نظر للشرعية السياسية بقوله( إن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا )وقوله(ومعاوية قد شابها أي الخلافة والملك وليس هذا قادحا في خلافته).(مجموع الفتاوى)وتأكيده على شرعية المتغلب قال( تثبت –الإمامة- بموافقة أهل الشوكة عليها ، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة ، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان).(منهاج السنة النبوية) ، ويقول عن الإمامة(ونفس حصولها ووجودها ثابت بحصول القدرة والسلطان بمطاوعة ذوي الشوكة ، فالدين الحق لابد فيه من الكتاب الهادي والسيف الناصر ).(منهاج السنة النبوية)
-وتوظيف الصيت والمكانة العلمية :على هذا الاساس لم يجد ابن تيمية حرجا في المشاركة في مجلس شورى السلطان المتغلب حيث ساهم في تفعيل السلطة القائمة بالإشارة على السلطان المتغلب بتعين أو عزل بعض أمراء الولايات حينا ، وبإضفاء الشرعية حينا آخر ، كما قال ابن كثير:(وقد انتقل الافرم إلى نيابة طرابلس بإشارة ابن تيمية على السلطان بذلك).(البداية والنهاية) ويقول في موضع آخر:(قدم كتاب من السلطان إلى دمشق أن لا يولى أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يقضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية، وإلى ولاية غير الأهل، فقرأه ابن الزملكاني على السدة، وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن، وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله).(المرجع السابق) وقد كان السلطان الناصر عندما دخل مصر لم يكن له هم إلا لقاء الشيخ ابن
تيمية. كما يقول الشيخ علم الدين البرزالي:ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الاسكندرية معززا مكرما مبجلا. ثم ينقل ابن كثير وقائع وتفصيل ذلك اللقاء فيقول:(ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائما للشيخ أول ما رآه ، ومشى له إلى طرف الايوان واعتنقا هناك هنيهة، ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان، ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصري ، ثم صدر الدين علي الحنفي، وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته).(المرجع السابق)
لأجل هذا يبدو لنا أن انعدام هذا الاهتمام لدى ابن تيمية وغيره من إقامة جسور قوية بين نموذج (مناهج النبوة)والواقع المعيش ، هو الذي يفسر تسامح القائمين على الملك(مناهج التغلب)تجاه مثل هذا الأدب السياسي(السياسة الشرعية)، حتى ما كان منه مطبوعا بنزعة راديكالية . وذلك اعتبارا لكون المضمون السياسي لذلك الأدب يكاد يكون سياسة للحلم ، والتخفيف من وطأة الواقع ! أكثر مما هو مضمون سياسي للتغيير الفعلي لذلك الواقع . هذا فضلا عن كون ابن تيمية وغيره من العلماء ورجال السياسة ، على السواء قد وجدوا في القواعد العامة للخطاب الأصولي السلفي وفي وسائلها الناجعة المطية التي ركبوها جميعا لتبرير كون المصلحة الراجحة تكمن في استمرار الوضع القائم ، أو لتوضيح المفسدة المرجوحة في كل دعوة لتغييره !!
هكذا نلاحظ أن إشكالية العقل السلفي تكمن في كون تفكيره في المشكل السياسي ينطوي على مشروع نمودجي للدولة ، يبشر به ويراد له التطبيق في ظل دولة غير نموذجية ! رغبة في تقريب الواقع المرفوض إلى النموذج المرغوب فيه . وفي هذا يكمن عمق مشكلة العقل السلفي القائمة على كتابات السياسة الشرعية : حيث يعيش شبه انفصام أو ازدواج في الولاء غير المتوازن لنموذجين تاريخيين مختلفين من الدولة .وحيث يتعمق لديه هذا الوعي بالانفصام أيضا حينما يجد دولة الواقع ، أو دولة السلطان(مناهج التغلب)ترغب دوما في احتواء تلك السياسة الشرعية ذاتها ، وجرها إلى خدمة دولة القوة والسلطنة لا دولة (مناهج النبوة) أي جعلها في خدمة السلطان أكثر مما هي في خدمة الرعية .
وإذا كان يبدو على رجل السلطة نوع من الرضى باستمرار ظروف الانحطاط هذه ، ما دام هو المستفيد الأكبر منها ، فإن الفقيه(القلم)كعادته ،رغم محاولته التنظير لمثل هذه الظروف المحكّمة(العادة محكّمة) وتجنيده مختلف الفتاوى والقواعد للتكيف معها !! وبذلك يفقد صاحب العلم سلطته المعرفية بعد أن سحب بساطها من تحت قدميه رجل السيف !!
وهاتان البنياتان في الخطاب السياسي التيمي- فلسفة الإمكان والوجوب ، وبنية التوفيق بين المتقابلات- قد تركت بصماتها على موقف العقل السلفي المعاصر السياسي ، إذا يجد نفسه ممزقا بين تلك القيم السياسية التي لم تعد(واجبا)بل أصبحت مجرد إمكان غائب ، وبين الواقع السياسي الطارئ الذي صار(واجبا).وليس بالمستعبد أن ترى سلفيا معاصرا ينادي بتكفير الأنظمة المستبدة ، وفي ذات الوقت ترى سلفيا أخر ينادي بمبايعة تلك الأنظمة تماهيا مع مصنفات السياسة الشرعية !! بل هذه الإزدواجية الفكرية أضحت سمة بارزة من سمات العقل السلفي الذي لا يخطاه حتى الأعشى !! وهذه الإزدواجية والارتباك الفكري كان جله مرده إلى كتابات ابن تيمية في السياسة الشرعية من حيث التأصيل والممارسة العملية !
منبر عبد الحكيم الصادق الفيتوري/ موقع نقد معرفي