يلاحظ دارسو التاريخ العربي الإسلامي أن السلطة القائمة على القوة والنفوذ والوجاهة هي القيمة المركزية التي تحكم حركة المجتمعات العربية الإسلامية في كل المجالات وتوجه سلوك أعضائه وجماعاته، فلا يضحي الإنسان العربي المسلم إلا من أجلها وفي سبيل النفوذ والوجاهة والمال… وكل ما يعوق هذه القيمة المحورية يجب خوض الحرب ضده. لقد كان النزاع على السلطة في التاريخ العربي الإسلامي مُحرِّكٌ التغيرات السياسية، حيث لم يعرف هذا التاريخ ثورات اجتماعية، وإنما انقلابات ضد هذا الزعيم أو ذاك لاستبداله بزعيم آخر، أو ضد عشيرة أو أسرة حاكمة لاستبدالها بأخرى، حيث لا قيمة للمجتمع ولا لأفراده، إذ المهم هم السلطة. لذلك لم يشهد التاريخ العربي الإسلامي أي تغيير يصبُّ في مصلحة المجتمع…

وقد نجم عن ذلك أنه لا مكان في الثقافة العربية الإسلامية لقيَّم العلم والعمل ولا لفردية الإنسان ولا للمبادرات ولا للمشاريع، حيث يتم تركيز الاهتمام على السلطة والنفوذ. وفيما تعتبر السلطة في البلدان المتقدمة وسيلة وليست غاية في حدِّ ذاتها، يُعدّ الحُكم في الثقافة العربية الإسلامية هو القيمة المركزية التي تتفرع منها باقي القيم. وهذا ما حال دون بروز الفرد والتحديث والبناء الديمقراطي، فتعمَّق ضعف هذه المجتمعات ، وصارت لقمة مستساغة في أيدي القوى العظمى، ما بدأ يقود إلى تفتيت أوطان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا …

يقود تأمل ما يجري اليوم في هذا العالم العربي الإسلامي إلى الشعور بحزن خانق، إذ أصبحت مجتمعات هذا المجال الثقافي والجغرافي مسلوبة الإرادة، فصارت تسير على كرسي متحرك تدفعه قوى خارجية، وتحولت إلى مجرد أداة لا تحس ولا تبصر ولا تعقل. ويتجلى ذلك في التخريب الذي تتعرضُ له جلُّ هذه البلدان حاليا جرّاء موتها الثقافي وعدم وعيها بذاتها وتراثها وبالتحولات التاريخية والعلمية التي عرفتها البلدان الديمقراطية التي استطاعت تجاوزَ عوائقها الذاتية وتشييدَ صروحها الحضارية….

تدير زعامات جماعات المجتمعات العربية الإسلامية أحوالها بدون وعي، بل إنها لا تُدركُ أنها تجهل ذاتها، وأن الغرب يعرف عنها أكثر مما تعرفه عن نفسها، لأنه استطاع أن يٌنتج عنها معرفة أنثروبولوجية وسوسيولوجية عميقة مَكَّنته من فهم كيفية اشتغال عقلها ووجدانها ومناطق هشاشتها القابلة لإحداث شروخ وانشقاقات في صفوفها وقطع أوصالها، وتفتيت أوطانها، ما أتاحَ له أن يؤلِّبَ مكونات البلد الواحد ضد بعضها البعض، واستعداء البلدان على بعضها البعض بمنتهى السهولة…

ويتجلى ضعف وعي زعامات أغلب جماعات هذه الأقطار في عدم قدرتها على وضع نظام أولويات في معالجة قضاياها، فدخلت في حروب قَبَلِية وطائفية مستمرة إلى أن دمرت بعض أوطانها.. فهي لا تدرك أن في السياسة تناقضات أساسية وأخرى ثانوية، وأنه ينبغي امتلاك فكر استراتيجي وطني عقلاني يُبادرُ بحل التناقضات الأساسية ويؤجل التناقضات الثانوية. كما عجزت على امتداد تاريخها عن معرفة كيفية تدبير اختلافاتها بعقلانية وديمقراطية، فسقطت في حروب متتالية، لأنها ظلت متمسكة بما تجاوزه التاريخ وأحداثه وقطعت معه الاكتشافات العلمية، فلاذت بالذاكرة التاريخية وتشبثت بالانشقاق الأوَّلي الذي حدثَ في القرن الهجري الأول في الجزيرة العربية.

وفي خضم التطورات العديدة التي يعرفها العالمُ حاليا، والتي انطلقت منذ القرن السادس عشر الميلادي، دخلت المجتمعات العربية الإسلا مية اليومَ في معارك ضارية بين فئات كلها تدينُ بالإسلام، وهو ما لا يوجد اليوم في أيِّ جهة من باقي جهات المعمور، فانخرطت في صراع دموي داخلي هو مجرد تنويع على إيقاع إرهاب قديم عنيف ودام في التاريخ الإسلامي ابتدأ منذ القرن الهجري الأول. وهذا ما يستوجب القيام بقطيعة مع تراثنا الطائفي والقَبَلِي الذي سهّل على القوى العظمى الزجّ بِنَا في حروب داخلية طاحنة…

قد يعترض معترض قائلا: وهل بتقويض التراث وحده ستتمكنُ هذه المجتمعات العربية الإسلامية من إعادة بناء ذاتها؟ وبأيِّ تراث ثقافي آخر يجب استبدال التراث الحالي؟ وأيُّ وسائل يجب اعتمادها لإعادة بناء الذات؟…

لقد مرت جميع الشعوب خلال تطورها بمراحل شبيهة بما تعرفه هذه المنطقة، ولم تتمكن من التقدم إلا بممارسة قطائع معرفية وسياسية مع تراثها. فقد انطلقت نهضة أوروبا من الثورة على الكنيسة، وعرفت حروبا أهلية طاحنة، لكن الأمر آل إلى بقاء الديانة المسيحية موجودة، وصيانة جميع حقوق المُتديِّنين بالقانون، ما يفيد أن الدعوة إلى القطيعة مع الماضي لا تعني التخلِّي عنه كليّا والضرب به عرض الحائط، فهذا غير واقعي فضلا عن أنه غير ممكن أصلا…

نحن في حاجة إلى قطيعة معرفية وسياسية مع تاريخنا دون أن نتنكر له. ولأجل ذلك يجبُ الفصل بين الدين والسياسة لأن عدم الفصل بينهما يحول دون التفكير والمعرفة والتقدم، ويؤدي إلى رفض الاختلاف والاعتراف بالآخر، وبالتالي يعوق التطور،بل يقود إلى الدمار الشامل، حيث ليس لماضٍ ينهض على القبور، إلاّ مستقبلٌ ينهض على الموتى (أدونيس). لذلك ، فبدون الفصل بين الدين والسياسة لن يكون هناك اعتراف بالآخر ولا ديمقراطية ولا تقدٌّم….. كما أنَّ عدم الاعتراف بالآخر هو في الآن نفسه عدم الاعتراف بالذات التي قد تدمِّر نفسها جرَّاء هذا الجهل.، حيث ليست الفكرة، أيّاً كانت، لكى يتشَرْنَق الإنسانُ داخلَها، بل لكى تفتح له طرُقَ التّواصُل مع الآخر، ومع الواقع… (أدونيس).

يرى أرسطو أن “الصديق إنسان هو أنتَ إلا أنه الشخص غيرك” أو “الصديقُ آخر هو أنت إلا أنه غيرك بالشخص”، وقال أبو حاتم السجستاني: “إذا مات لي صديق سقطَ مني عضو”، وقال نيتشه: “إذا أساءَ إليكَ صديق فقل له إننى أغفر لكَ جنايتكَ عليَّ، ولكن هل يسعُني أن أغفر لك ما جنيتهُ على نفسك بما فعلت؟”… تعكسُ هذه الأمثلة وغيرها حقيقة أنَّ الآخر ليس مجرد طرف نتحاور معه، أو نتفاعل معه، بل هو جزء لا يتجزأ من الذات، ولكي تصل إلى نفسها لا بد لها من المرور عبر الغير الذي يجب أن يكون مستقلا عنها وموجودا بداخلها في آن واحد، وأنَّ سعي الذات إلى جعل الغير مرآة ترى فيها (هذه الذات) نفسها هو مجرَّدُ وهم.

لذلك ليكون الإنسان ذاته، يجب أن يكون الآخر أيضاً. الهوية ليست حاضرة مسبقاً، كما عند العرب، وعند كثيرين. هي ابتكار متواصل. كما أ ن الآخر عنصر مكون من عناصر تكوين الذات (أدونيس).

والإنسان يخلق باستمرار هويته وإبداعه وفكره وحياته. هكذا،ليست الهوية ماض ،كما تعتقد الثقافة العربية الإسلامية،بل إنها أساسا مستقبل.

 

الخميس : 24 يناير 2019.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …