لقد جعلنا المحللون النفسيون ننتبه إلى أنه يمكن أن نكتب فعل “دَرَّس” enseigner بطريقتين اثنتين: enseigner وen saigner!. وهذا ما جعل “فرويد” Freud ينظر إلى مهنة المدرس باعتبارها أصعب مهنة في العالم تمارس بالدم و تستنزف طاقة وقوة من يزاولها.
أتفق مع السيكولوجيين الذين يرون أن الأم تلحق الضرر بطفلها عندما تبالغ في العناية به وحمايته، إذ تحرمه من حريته، مما يحول بينه وبين بناء “أناه”، حسب تعبير التحليل النفسي، لكني أتفق أيضا مع التربويين الذين يؤكدون اليوم أن الطفل إذا شب بدون إطار مرجعي فإنه لا يبني ذاته نفسيا.
فما العمل إذن؟
أظن أنه من الضروري وضع قواعد للحياة وللعمل داخل جماعة الفصل الدراسي، مما يشكل إطارا مرجعيا دقيقا يسمح فيه للتلميذ بحرية بناء ذاته في غياب أي تعارض بين الطرفين (الإطار المرجعي، حرية التلميذ). أضف إلى ذلك أن المؤسسة ليست بالضرورة مناهضة للفرد، بل هي على العكس من ذلك قد تكون مٌحٓرِّرة له.. ثم إنَّ الوحدة لا تلغي التعدد، إذ لا وحدة بدون تعدد.. وعندما نتأمل الواقعَ نجد أن بعض المدرسين يظنون أنهم يتصرفون على هذا النحو، لكن وجود إطار مرجعي لا يكفي لتمكين المتعلم من بناء ذاته؛ فالبيداغوجيا التقليدية تمتلك إطارها المرجعي، لكنها تحرم الطفل من بناء معرفته واستقلاله الفكري، مما يعوق بناءه لذاته…
وفعلا، فالتلميذ في حاجة إلى امتلاك وجود فكري وعملي فعلي داخل جماعة الفصل، الأمر الذي يتطلب أن يتوفر له هامش من الحرية ليتحمل مسؤولية بناء ذاته باعتباره شخصا… أضف إلى ذلك أنه يؤمل فيه أن يكون قادرا على التحليق بجناحيه الخاصين لاحقا، والاستقلال عن مدرسه وبناء “أناه” بنفسه، وإبداع لغته وقِيَّمه الخاصة، والفعل في العالم المحيط به، والمساهمة في تغييره وتطويره…
يُعَرِّفُ أغلب الناس التدريس بأنه ” تقديم المعارف للتلاميذ وشرحها ونقلها لهم كي يفهموها”، لكن عندما نتأمل هذا التعريف مليا، فإننا نجد أن العمل به يؤدي إلى فرض الجمود الفكري على التلميذ، حيث لا يعترف بوجود ما يثير فضوله ويدفعه إلى طرح الأسئلة… وتبعا لذلك، ليس أمام التلميذ، في نظر هؤلاء، سوى حشو ذهنه بما يتلقاه من معلومات من المدرس، وهو ما يطويه النسيان بسرعة..!
لقد قال كونفوشيوس Confucius منذ خمسة قرون قبل التاريخ:
” ما أسمعه أنساه.
ما أفعله أحفظه.
ما أعيشه أفهمه”.
ويمكن أن نضيف إلى هذا بكل تواضع:
“المعارف التي أبنيها أعرف كيف أستعملها، وأعي حدودها، وأستطيع مجاوزتها…”.
لكي يتعلم التلميذ، ينبغي أن يكون له وجود فعلي داخل جماعة الفصل. وليتأتى له ذلك، يجب أن يَنال اعتراف المدرس وأقرانه به… ويتحقق هذا الاعتراف عندما ينصتُ إليه المدرس وأقرانه ويحترمونه… لكن ما يجري في ثقافتنا البيداغوجية هو: التلاميذ هم من يجب عليهم أن يصغوا إلى المدرس ويحترموه، لا العكس!
لكن، هل وجدت المدرسة من أجل الآباء والمدرسين أم من أجل التلاميذ !؟
لا تساعدنا التربية على الاستقلال الذاتي وبناء معارف جديدة واكتساب مهارات وكفايات فقط، بل تمكننا أيضا من اكتشاف أشياء في ذواتنا لم نكن نعرفها من قبل، ومن ثمة فالتعلم لا يعني فقط التقدم في استيعاب المعارف، وإنما أيضا التقدم في معرفة ذواتنا، حيث نكتشف أشياء فينا لم يكن بإمكاننا اكتشافها بدون هذه التربية. فهناك مناطق عديدة في ذواتنا لا يمكن اكتشافها إلا بالتربية على استقلالنا عن الآخر… وبدون هذه التربية، ستبقى هذه المناطق مجهولة، وبالتالي لا يمكن أن نستقل بذواتنا إلا عن طريق بنائنا إياها عبر بنائنا لمعارفنا… وبدون ذلك لن يكون لها أي وجود، إذ تبقى في حالة كمون، ولن يكتب لها الظهور، مما يحرمنا من الحياة. وعليه، فالتعلم يمكننا من اكتشاف ذاتنا من أجل تغييرها وتنشيطها عبر اكتشافنا لطاقاتنا اللانهائية الكامنة فينا وتوظيفها بشكل جيد من أجل تجددنا ونمونا المستمرين… وهكذا، يكون الإنسان إنسانا…
استقلال المتعلم كلمة جميلة! إنها غالية لدرجة أنها تستحق فعل أي شيء لترجمتها على أرض الواقع.
يسمع تلميذنا في كل وقت وحين ولمدة سنين: “افعل هذا، افعل هذا وذاك… افعل مثل هذا، وافعل كما يفعل ذاك…”، ومع ذلك نتحدث عن امتلاكنا لإرادة تطوير الاستقلال الذاتي للمتعلم وجعله مسؤولا من أجل بناء مواطنة فعلية.
لكن هل يتعلق الأمر بتطوير الاستقلال الذاتي للمتعلم أم بالتربية على التبعية !؟
يقول “ألبير جاكار” Albert Jacquard: إن بيداغوجيا الشرح والإملاء تفتح الباب في وجه التعصب والنزعات التقليدية والتشدد والغُلو والتطرف.
وهل تعد معرفة تحضير أشيائنا وتنظيمها استقلالا ذاتيا أم انقيادا موافقا عليه؟ أم خنوعا إراديا؟…
يكون الإنسان مستقلا عندما يمتلك مشاريعه الخاصة ويتبع مقاربته في التعلم والحياة… وكذلك مستقلا لما يصبح قادرا أحيانا على أن يقول “لا” للمشاريع التي يراد فرضها عليه مع أنها لا تلائمه.
فمهما فعلنا، ليست هناك بيداغوجيا بريئة ومحايدة.
قد يفهم بعض الناس مما أكتبه أنني ضد استعمال الذاكرة من قِبَلِ التلاميذ، وهو ما لا أنكره، إذ أرفض حفظ التلاميذ لمضمون الكتب المدرسي ولكل ما يقوله المدرس ويكتبه. كما لا أقبل تخزينهم لمجموعة من التفاصيل التي تتبدى غير ذات أهمية، حيث لا أرى في ذلك فائدة كبرى، لأن التكيف مع عالم اليوم لا يعني مراكمة مجموعة من المعارف المرتبطة بالوقائع والأحداث في ذاكرتنا، وإنما معرفة كيفية تحديدها والتصرف فيها وتوظيفها عندما نكون في حاجة إليها. أضف إلى ذلك أنه ليس في مستطاع الإنسان تخزين كل المعارف التي تنتجها البشرية، لأنها تتراكم بسرعة فائقة، حيث تتضاعف المعرفة العلمية كل خمس سنوات…
وعلى العكس من ذلك، فإنني مع حفظ التلاميذ للمعرفة العامة (مفاهيم، قواعد، نظريات، نماذج…) التي يقومون ببنائها، لأن هذا الحفظ يدخل ضمن مجال الملكات، إذ تشكل هذه المعرفة إطارا مرجعيا وأداة لرؤية العالم المحيط بهم لتحليله وفهمه والفعل فيه. وهذا ما يمكن أن يجعل منهم مثقفين محتملين بالمعنى السليم للكلمة.
عندما يسعى المدرس فقط إلى تقديم تفسير واضح وشامل للتلميذ، فإنه يعوق، من حيث لا يدري، البزوغ الفكري للتلميذ. وعندما يخطط لدرسه بشكل محكم، فإنه قد يمنع التلميذ من القيام بالتطوير الذاتي لمخططه للتعلم وبناء معارفه…، والحال أنه بدون هذا التطوير والبناء لن يكون التلميذ قادرا على إعادة الاستعمال الواعي لمعارفه لتحليل وضعيات جديدة وفهمها…، وهو ما يعرقل تراكمه المعرفي ونموه…!
يفصل أغلب الناس عندنا بين المواد الدراسية النظرية والتطبيقية، كما أنهم يفضلون المواد العلمية والتكنولوجية على الفنون والآداب والعلوم الإنسانية… لكن، هل هناك فعلا مواد دراسية نبيلة وأخرى أقل نبلا؟ أليست الفنون التشكيلية والموسيقى والأدب، مثلا، مواد دراسية جادة ومفيدة؟ وإذا كانت البيداغوجيا تستعمل أكثر فأكثر هذه المواد الفنية للتحفيز على المواد الأخرى (الرياضيات، العلوم…) ومنحها معنى، فكيف يعقل الفصل أو التفضيل بينها وبين المواد الدراسية الأخرى؟.
علاوة على ذلك، ليست ممارسة الرياضة هي متابعة دروس في التربية البدنية والرياضية حتى وإن كان أغلب الناس عندنا يخلطون بين هذين النشاطين! إن ممارسة الرياضة هي المشاركة في المباريات، والتدرب من أجل الحصول على نتائج مهمة في ألعاب القوى، لكنها أيضا القيام بأنشطة حركية motrices ومنح الأفضلية للمنافسة. أما التربية البدنية والرياضية، فهي شيء آخر مختلف عن مراوغة لاعب وقذف كرة بهدف تسجيل إصابة، والرغبة في الرفع من إنجازنا لنصبح نجوما في الملاعب…! إنها مجموعة من اللحظات والوضعيات التعلمية التي يتم فيها تطوير كفايات حركية compétences motrices واكتسابها. ولهذه المادة الدراسية في التعليمين الأولي والابتدائي مكانة مهمة جدا، إذ يعرف المختصون منذ مدة طويلة أن بعض الأطفال الذين لا يتحركون داخل الفصل الدراسي يتعلمون بصعوبة! ويعود ذلك إلى أن ذكاء الأطفال وكفاياتهم ومعارفهم تُبنى في ارتباط وثيق مع نموهم الحركي. وهكذا، فليست التربية البدنية والرياضية لحظة استرخاء، وإنما هي لحظة تكوين وبناء وتعلم ونمو…، مما يستوجب احتلالها موقعا متميزا في عمل المنظومة المدرسية. وتبعا لذلك، فالنظر إلى التربية البدنية والرياضية على أنها مجرد رياضة هو خطأ جسيم… إننا ننسى أو نجهل خطاب أغلب كبار الفلاسفة اليونان والمسلمين حول إيجابيات هذه المادة الدراسية ومختلف الفنون والآداب التي ينظر إليها البعض نظرة دونية، إذ لا يدرك أن تلك المجالات قد شكلت أساس نهضة الغرب وثوراته الثقافية والعلمية والتكنولوجية… وخلاصة القول، إن من يحتقر الفنون والتربية البدنية يجهل طبيعتها ووظائفها البيداغوجية والمعرفية، ولا يعي الروابط القائمة بين مختلف حقول المعرفة… كما أنه لا يعرف تخصصه نفسه إن كان له تخصص أصلا.
لا يمكن إملاء مضمون التربية على المواطنة على التلاميذ، كما لا يمكن إنجازها عبر تقديم بنيات الدولة للتلاميذ وشرح أدوارها لهم أو إلزامهم بحفظ قواعد قانونية،أو نصوص معاهدات دولية…، وإنما عبر وضعهم في سياقات تجعلهم يعيشون حياة المواطنة ويناقشونها، مما سيمكنهم من الوعي بالمعنى الذي تحمله كلمة “المواطنة”. لا يجب الاكتفاء فقط بتدريس القوانين للتلاميذ، ولكن ينبغي أساسا جعلهم يحسون بالحاجة إلى القانون باعتباره عامل تحرير لهم لا عامل انغلاق وقمع لهم…
ويقتضي ذلك تطوير بيداغوجيات تنهض على الفكر النقدي، والقدرة على مقارعة الحجة بالحجة، وفهم الآخر، وقبول وجهات النظر المختلفة… كما يستوجب اكتساب القدرة على التواصل جيدا، والإنصات إلى الآخر واحترامه، والتعاطف معه، وتعلم العيش معا عبر تعويض منطق القوة بمنطق الحجة، والانتقال من العلاقات القائمة على المعارضة (البعض ضد البعض) إلى العلاقات القائمة على الجوار (البعض إلى جانب البعض)، مما يجنب، ما أمكن، السقوط في براثن علاقات السلطة والتسلط. أضف إلى ذلك أنه يلزم تعلم التمييز بين المعتقدات والآداب والفنون والعلوم…
وفضلا عن ذلك، يجب تطوير بناء هوية جمعية متعددة تجنب السقوط في التعصب والشوفينية واللامساواة… كما ينبغي أن تعيش المدرسة وجماعة الفصل عمليا لحظات ديمقراطية مشاركة (ممارسة المسؤوليات وتعلم المناقشة واحترام الرأي المختلف…).
وعليه، ينبغي اعتماد الممارسات البيداغوجية الآتية:
– بيداغوجيا الاحترام والعلاقة التي تمكن المدرس من أن يكون في وضعية مريحة مع التلاميذ، وليس في وضعية التحكم فيهم؛
– بيداغوجيا المعنى التي تثير الرغبة في التعلم؛
– بيداغوجيا البحث التي تمنح للعمل حركية وتبني الملكات المتعددة؛
– بيداغوجيا الحرية التي تمكن التلاميذ من أن يصيروا مستقلين عن الآخر ومسؤولين أمام ذواتهم وأمام المجتمع في آن.
الاحد : 13 يناير 2019.