تكمن عظمة أفلاطون في عمق كتاباته وروعة شعريتها وجماليتها… فقد تناولت الحوارت، التي كان سقراط يدبرها ببراعة، الإشكاليات الكبرى للإنسان، حيث سلطت الضوء على قضايا عديدة مثل الفضيلة والجبن والشعور بالزمن ونظام الحكم… لم يكن سقراط يُعَلِّم الفلسفة، بل كان يُعلِّم التفلسف تماما بنفس الأسلوب الذي نادي به “كانط” Kant بعد قرون عديدة من بعده.
وبناء على ذلك، تعني التربية تطوير ما لدى الطفل من قدرات كامنة فيه، ورعاية البذرة الموجودة فيه كي تنمو وتتطور وتنضج وتؤتي ثمارها… ليس الإنسان شيئا يمكن صناعته، وليس دور المدرس، كما يراه سقراط، هو صناعة الإنسان، بل دوره أقرب ما يكون إلى دور القابلة. ولن يتمكن المدرس من القيام بهذه العملية إلا بإثارة الدهشة أمام المشكلات العميقة للحياة. فكل شيء مدهش في العالم، لكن العادة تخدر الإنسان وتجعله لا ينتبه إلى ذلك…
ينبغي معرفة المعرفة عبر بنائها من قِبَل المتعلم، إذ يقتضي ذلك وضع التلاميذ في وضعيات تدريسية تمكنهم من التفكير الذي يقودهم إلى اكتشاف المعارف وإبداعها بأنفسهم. وهكذا سينخرطون في مغامرات ساحرة واختراعات عجيبة… وبما أنهم يبنون المعارف بأنفسهم، فإنهم لن ينسوا مبادئ مختلف العلوم التي تعلموها… إنه لا يتعين على المتعلم أن يعرف كل تلك التفاصيل والطلاسم التي يدركها المختصون، بل ستغتني ثقافته بمعرفة المبادئ الأساسية لذلك العلم وأسئلته الكبرى وتاريخه ومفاهيمه، وأساليب إنتاج المعرفة في إطاره، والأهداف البشرية التي يخدمها… وهكذا سيشعر بالعلوم والفلسفة والفنون… مثلما يشعر الفلاحون الغارقون في ماء نهر بالسدود التي تتيح لهم استثمار أراض جديدة… يجب على المدرس أن يقود اكتشافات المتعلمين واختراعاتهم عبر خلق “وضعيات-مسائل” وتوظيف عُدَّة تدريسية ملائمة لذلك… لكن يتعين عليه أن يبدأ بالبرهان على أنه لا يعرف، حيث إن المعرفة عالم مملوء بأسرار وألغاز لا نهائية لا يمكن للبشر أبدا أن يحيطوا بها علما بشكل مطلق. كما أن المدرس الحكيم هو الذي يسمح لتلميذه بأن يفكر ويحفزه على طرح أسئلته ووجهات نظره وأفكاره واعتراضاته… حتى وإن كان مخطئا. فكثيرا ما بدت بعض الأفكار تافهة لأول وهلة، وصدرت في حقها أحكام سلبية من قِبَلِ مدرسين عاديين، لكن التطور العلمي أثبت أنها كانت على صواب. لقد اعتبرت ذرة “بوهر” Bohr Niels من الأفكار الخاطئة آنذك لكونها تتناقض مع نظرية الفيزيائي “ماكسويل” Maxwell، لكنها مع ذلك، مكنت من استشراف الآفاق وفتح السبل…
وهكذا، فإنه غالبا ما يُنظر إلى المتعلم اللامع بكونه مشاغبا لأنه يخالف العادات المدرسية ويتمرد عليها. ولهذا ينبغي أن نحترم ذلك التمرد ونعرف كيفية تدبيره بشكل مثمر. فلو كان “غاليلي” Galileo متعلما خنوعا واقتصر على الترديد الببغائي لما قاله أرسطو، فإنه لن يعرف حقيقة سقوط الأجسام التي كان مدرسه مخطئا فيها لكونه كان يردد حرفيا ما هو وارد في نصوص أرسطو. لقد أكد هذا الأخير أن الحجر الثقيل يسقط بسرعة أكبر من الحجر الخفيف، لكن الفتى “غاليلي”، الذي كان يقظا ومشاغبا، لم يتقبل هذه الفكرة التي كانت تبدو للناس سليمة لأول وهلة. وهكذا، قام باختبارها للتأكد من صحتها أو بطلانها، فصعد إلى أعلى برج بالحجرين، فأكدت التجربة أنه كان على صواب، حيث سقط الحجر الثقيل والحجر الخفيف في ذات الوقت. وهكذا، برهن هذا الفتى المشاغب على أنه رغم بطلان فكرة أرسطو، فإن السلطة الرمزية الكبيرة لهذا الأخير جعلت الناس يسلمون بصوابها على مدى ألف عام. وهذه هي طبيعة كبار العباقرة وحال البشرية معهم. فحين يخطئ عبقري، فإن غالبية البشرية تؤمن بأنه على صواب. ولن تتمكن من مجاوزة هذا الخطأ إلا بعد ظهور عبقري آخر، الأمر الذي قد يستغرق زمنا طويلا. ويكون العبقري ثوريا حين يكتشف حقيقة، لكنه يكون أكثر رجعية عندما يخطئ. وتكون المعرفة في بعض الأحيان تقليدا واجترارا…، وتكون في أحيان أخرى تجديدا واختراعا وإبداعا، كما أنها قد تجمع بينهما في آن. وهناك لحظات يمكن أن يكون المتعلم فيها مُجَدِّدا، فينتبه المدرس اليقظ إليه، فيقبل “تمرده” الإيجابي هذا ويحفزه على الاستمرار فيه… وعلى النقيض من ذلك، لا يرى المدرس المستبد والغبي، الذي يؤمن بثبات المعرفة وأبديتها، في هذا المتعلم إلا عدوا شرسا له، لا الإنسان الذي يجب عليه أن يحبه ويشجعه… إن هذا النوع الأخير من المدرسين ينخرطون في بناء مجتمع الاستبداد، حيث يكون كل إبداع خطرا، وتحل إيديولوجية النكوص والعنف محل العلم المعرفة والتربية والتقدم… (Ernesto Sabato)