في المفهوم:

المواطنة لغة:   مشتقة من الوطن, الذي اشتق بدوره من الفعل وَطِنَ  أي أقام أو استقر , ويأتي منها, استوطن ومستوطن وغير ذلك.

المواطنة مجازاً: هي الانتماء في صيغته القانونية, أو الجنسية, لوطن محدد كان نقول سوري أو مصري, أو فرنسي, أو أمريكي, وله صيغته أو دلالته السياسية أيضاً كان نقول عربي أو أوربي أو أفريقي, وله دلالته العقيدية كقولنا مسلم أو مسيحي, سني أو شيعي, كاثوليكي أو بروتستانتي… وغير ذلك.

تاريخية المواطنة: هي مفهوم تاريخي قابل للتجدد والتطور في شكله ومضمونه, وإذا كان مضمونه في سياقه العام بالنسبة لتاريخنا الحديث, لا يخرج  عن حقوق الانسان وواجباته كما أقرتها قوانين حقوق الإنسان. هذه الحقوق التي تتمثل أساسياتها في حق الحياة والرأي والعقيدة والملكية والمشاركة في تقرير مصير هذا الإنسان, ففي مقدمة الواجبات يأتي  واجب هذا الإنسان نفسه بالحفاظ على هذه الحقوق والدفاع عنها وتنميتها له ولغيره من المواطنين.

إن تاريخية المواطنة تجلت منذ المجتمع العبودي مرورا بالمجتمع الاقطاعي والرأسمالي (الاحتكاري) وصولاً إلى الدولة الاستبدادية الشمولية في العالم الثالث, ببعد تراتبي يقوم على النبالة والعرق  والنخبة. فمفهوم المواطن في مثل هذه الأنظمة  ظل حكرا على فئة قليلة من الناس احتكرت لنفسها حق السيادة على الشعب, لتجعل من العامة أداة استغلال وترفيه, دون النظر بجدية إلى ظروف حياتهم القاسية والعمل على تغييرها.

تأثير الثورة الصناعية على تأسي المواطنة المعاصرة:

مع قيام الثورة الصناعية ومجتمع الحداثة, ممثلاً بظهور الطبقة البرجوازية ومثقفيها من عصر التنوير, أخذت  المواطنة بعداً آخر يقوم على القيم والحقوق الطبيعية للإنسان في هذه الحياة, هذا وقد أسست هذه الطبقة عبر مفكريها أسس المواطنة من الناحية القانونية والسياسية والاجتماعية والفكرية بعد أن ربطت المواطنة بالدولة. فأصبح من غير الممكن الحديث عن المواطن خارج الدولة, رغم أن الحقوق التي يتمتع بها المواطن داخل الدولة سابقة على وجودها، كونها حقوقاً طبيعية تخص الإنسان بوصفه إنسانا, وهي حقوق مقدسة لا يمكن التنازل عنها لأنها ترتبط بجوهرية الإنسان, وعلى هذا الأساس حدد “روسو” مفهوم المواطن (بأنه مواطن من جهة كونه يشترك في سلطة السيادة أو ما يطلق عليه بالحقوق، أما المقصود بالرعاية فإنها تعني الحالة التي يكون فيها المواطن خاضعا لقوانين الدولة و هو ما يعبر عنه بمسألة الواجبات. فالمواطن من هذا المنطلق هو فرد يندرج ضمن الدولة, وهو مثلما له حقوق له واجبات, وهو مثلما يكون حرا وسيدا يكون في نفس الوقت مطيعا للقوانين و خاضعا لها..). (1)  ولكن مع تحول الطبقة البرجوازية إلى طبقة (احتكارية) راحت هذه الطبقة تعمل على إفراغ المواطنة من مضمونها. وهذا هو حال السلطات الحاكمة في دول العالم الثالث بعد أن حولت هذه السلطات الدولة إلى دول شمولية. حيث راح المواطن في كل هذه الدول (الرأسمالية والعالمثالثية) يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف صناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك والإعلام المنمذج وبيانات حقوق الإنسان ومضامين دساتير هذه الدول المتخمة بشعارات الحرية والعدالة والمساواة.

المواطنة هماً فلسفياً:

على العموم ظلت المواطنة هما فلسفيا بامتياز, انشغل بها مؤسسو الفلسفة السياسية الحديثة منذ قيام الثورة الصناعية في أوربا وحواملها الاجتماعيين الذين عاشوا اضطهاد طبقة النبلاء والكنيسة والملك, واعتبروها من مقومات الدولة الحديثة التي راحت تعمل على تجذيرها الطبقة الرأسمالية الوليدة, نظرا لارتباطها بقيم الحرية والمساواة والمسؤولية وابتغاء الخير العام للإنسان.

ولكن أمام تضخم مقولات حقوق الإنسان والمواطن على المستوى النظري, وتكثف حضور هذه المقولات في الخطاب السياسي ،نجد على المستوى العملي ما ينفي  هذه المقولات سلوكياً في الواقع. فها هي المجتمعات في الدول الصناعية المتقدمة أو في دول العالم الثالث, تنحى في تطور محموم نحو مجتمعات مغلقة منمذجة تتجه بكل مقوماتها ومكوناتها السياسية والادارية والثقافية باتجاه التوليتارية أو الدولة الشمولية المشبعة بالإيديولوجيا البراغماتية, واختلاط السياسي بالاجتماعي, أي هيمنة المرجعيات التقليدية على السياسة, وخاصة في دول العالم الثالث. لذلك نرى في الوقت الذي تطالب فيه قيم المواطنة الحكومات في هذه الدول التأكيد على حقوق الإنسان ووجباته في بنية الدولة والمجتمع التي أشرنا إليها سابقاً, نجد سعي هذه الدول  إلى تربية أفراد المجتمع على حبهم لذواتهم وحبهم لمنافعهم ومصالحهم الخاصة وتحقيق سعادتهم على حساب شقاء الآخرين . وبالتالي رحنا نلاحظ في هذه التوجه اللاإنساني, أن ما هو حيواني أصبح يحدد ما هو إنساني كما يقول ماركس, عند حديثه عن اغتراب الإنسان في النظام الرأسمالي حيث يقول: ( ما هو إنساني يصبح حيواني وما هو حيواني يصبح إنساني.). فالمجتمع تحت مظلة هذه الدول التوليتارية (الشمولية), قد نجح في استبدال الهوية العقلانية بأخرى حيوانية من خلال اختزال إنسانية الإنسان وردها إلى بعد واحد, وهو إرضاء الحاجات الاستهلاكية المنتزعة من صلتها العضوية في المجتمع, اي الاستهلاك من أجل الاستهلاك.  فالإنسان يعتبر إنسانا بقدر ما يستهلك .

إن هذه الرؤية الجديدة للإنسان تتناقض مع ما أرادته فلسفة التنوير للمواطنة, فإذا كان هذا الفكر يذهب في اتجاه إيلاء الإنسان مكانة هامة كقيمة مركزية نظرية وعملية تقوم على توجهات العقل النقدي والمنطقي, فإن هذه المكانة أو الرغبة في تحقيق هذه المكانة, بدأت تتهاوى تحت ضربات مطرقة الأنظمة الشمولية لتحل محل الذات المفكرة والمريدة والفاعلة والشفافة… أي تحولت إلى ذات مكسورة وجريحة وغير عارفة بذاتها وخاضعة لحتميات لاشعورية واجتماعية يداهمها اللاعقل والوهم. أي تحولت إلى  مجرد ذات منفعلة .

مكونات المواطنة :

للمواطنة عناصر ومكونات أساسية ينبغي أن تكتمل حتى تتحقق المواطنة وهي التالية:

الانتماء : إذ أن من لوازم المواطنة الانتماء إلى وطن, و الانتماء هو شعور داخلي يجعل المواطن يعمل بحماس و إخلاص للارتقاء بوطنه و الدفاع عنه. ومن مقتضيات الانتماء أن يفتخر الفرد بوطنه و أن يدافع عنه و يحرص على سلامته.

منظومة الحقوق والواجبات: فمفهوم المواطن يتضمن حقوقا يتمتع بها جميع المواطنين وهي في نفس الوقت واجبات على الدولة و المجتمع و منها:

1- ضمان الحريات الشخصية مثل حرية التملك و حرية العمل وحرية الاعتقاد وحرية الرأي, وحرية المشاركة في قيادة الدولة والمجتمع.

2- ضمان العدل و المساواة, و توفير الحياة الكريمة و الخدمات الأساسية من صحة وتعليم.. الخ. وفي مقابل الحقوق التي يتمتع بها المواطن, عليه واجبات, فمثلما واجبي هو حق عند غيري فإن حقوقي هي واجبات عند غيري. (2). و لئن ارتبط مفهوم الحق بالحرية فإن الواجب كمفهوم أخلاقي ارتبط بالإلزام, و من أهم الالتزامات هو احترام القانون العام الصادر عن الإرادة العامة (الشعب), واحترام حرية الآخرين والدفاع عن الوطن والسماح للمواطنين بتقرير مصيرهم السياسي  والمشاركة في بناء الدولة والمجتمع وفقاً لمصالح المجتمع دون وصاية عليه من أحد. فأهم الواجبات هي احترام القوانين واحترام حدود الحرية. أو بتعبير آخر إن الواجب في علاقة الدولة بمواطنيها أن تقوم على أساس الاحترام المتبادل بما يسمح ضمان الحرية وتجنب مخاطر الاستبداد والاغتراب السياسي حتى يكون الإنسان مواطنا حقيقيا حر التفكير ومضمون الحقوق.

هذا ما راهن عليه الفكر السياسي في عصر الأنوار, وهذه الفكرة التي سعت إلى رسمها الفلسفة السياسية للمواطن والدولة، مواطن إنسان يتمتع بكل حقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية, ودولة تبنى على أساس المشروعية و الإرادة العامة, واستمراريتها مشروطة بمدى استجابتها للإرادة العامة مستندة في ذلك إلى سلطة القانون و قوته.

 

عدنان عويد كاتب وباحت من سورية

 

1 –  للاستزادة في هذا الموضوع راجع دراسة : سلمى بالحاج مبروك الخويلدي – المواطن والإنسان ذو البعد الواحد – موقع حــركـــة التـجـــديـــد – تـونـس – الصفحة الاساسية – ثقافـة و فـنون – الاربعاء 9 نيسان (أبريل) 2008 .

2- المرجع نفسه.

 

الثلاثاء: 01 يناير 2019.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …