ترفض البلدان الديمقراطية أسلوب التلقين في مدارسها، فتعمل على توفير الشروط التدريسية التي تُمٓكِّن ناشئتها من امتلاك عقول لا تكف عن ممارسة الشك وطرح الأسئلة، وذلك عبر توظيف المدرس لوضعيات وسيرورات ديداكتيكية ملائمة تستفز المتعلمين فينتقلون من حالة التلقِّي السلبي إلى حالة التساؤل والتفكير وتجاوز الذات وتحقيق الاستقلال الشخصي عبر الانخراط التلقائي في بناء معارفهم وذواتهم والتطوير التدريجي لمشروع فردي…
ويعود ذلك إلى أن هذه المجتمعات تدرك جيدا قيمة التفكير النقدي وتسعى إلى جعله محور العملية التعليمية التعلٌّمية بكاملها، وإقامة حياتها على احترام الفَرد فكرا ووجدانا وجسدا. ومع ذلك، فهي لم تتمكن من التخلص كُلِّيا من عيوب التعليم النظامي الذي قد يُطفئ جذوة رغبة التلميذ في التعلُّم، حيث تؤكد تجارب هذه المجتمعات أن التلاميذ قد يفقدون تلقائيتهم وعفويتهم، ممَّا يمكن أن يفضي إلى تلاشي قدرتهم على التعلُّم بحيثُ لن يتمكنوا من استعادتها ما لم تستطع المنظومة التربوية توفير شروط تدريسية تساعد على تجدُّد الرغبة الداخلية للمتعلِّم في التحصيل الدراسي، فينخرط تلقائيا في تحمل مسؤولية تعلُّمه عبر قيامه بطرح أسئلته الخاصة وبحثه عن إجابات على ما يطرحه من أسئلة على ذاته وعلى الآخر وعلى العالم، فيتمكن من التخلص من قلقه على نحو مستمر، ويستطيع تجاوز ذاته، فيجد لذة في بناء معرفته الخاصة، ومن ثمة لا يتوقف عن التساؤل والبحث بدون كلل ولا ملل. لكن عندما نتأمل ما يجري في مدرستنا، نجد أن المسؤولين عن التعليم لا يَكُفُّون عن الحديث عن “إصلاح” المنظومة التربوية. إلا أن خطاباتهم التربوية وإنجازاتهم الملموسة تُظهرُ أنَّ الحياة داخل الفصول المدرسية لم تتغير في جوهرها، إذ لا زال التلقين والحفظ يطغيان على العملية التعليمية التعلُّمية لاعتبارات ثقافية واجتماعية وتربوية. فالتلاميذ يُضطرون لتجرع المعلومات واستظهارها كلما طُلب منهم ذلك، ويطبقون “المفاهيم” و”النظريات” والنماذج بشكل آلي في يوم الامتحان لا لشيء سوى للحصول على العلامات التي تسمح لهم بنيل شهادات، دون أن يدركوا معاني تلك المفاهيم والنماذج ولا الأهمية القصوى للمعرفة…
تدل مخاطبة المدرسة المغربية لذاكرة التلميذ على وجوب تجرُّعه للمعلومات التي تُملى عليه داخل الفصول الدراسية دون أن يفهمها أو يناقشها أو يمتلك حرية إبداء رأيه فيها أو يختلف معها. وتعتمَدُ في ذلك خطاطات وطرائق خطية تقنوية لا تنسجم مع طبيعة المادة الدراسية، فيُحرَم التلميذ من طرح أي سؤال على المعلومات والبيانات التي تُعطاه، ما يدل على الرغبة في إلغاء التواصل والتفكير والنقد والنمو وتكريس الانغلاق، بما يترتب عن ذلك من حرمان للتلميذ من حريته و إلغاء فرديته وإنسانيته… وهذا ما يحول دون حصوله على مواطنته داخل الفصل الدراسي.
ويعود ذلك إلى أن البنية العميقة لنظامنا المجتمعي ما تزال تشد مدرستنا إلى الخلف وتشكل سببا أساسا في انغلاقها لأنها ترفض علوم العصر وآدابه وفنونه، الشيء الذي يجعل ثقافة منظومتنا التربوية تُقَيِّدُ عقل التلميذ، وتُسقطه في أوهام كثيرة وفي مقدمتها الاعتقاد بأن ثقافة مجتمعه التقليدية تتصف بالكمال مع أنها تنهض على تزكية الذات وتمجيدها وترفض الآخر وتستخف به وتكرهه وتحذر من فكره وثقافته، مما يؤدي إلى حشو ذهن التلميذ بالممنوعات وتخويفه منها وجعله مهووسا بعشق ذاته على علاَّتها العديدة التي لا يفطن إليها… بذلك، يتم إغلاق نوافذ عقل التلميذ والقضاء على رغبته في التعلُّم وإفشال تعليمنا. وهذا ما يفضي بالمتعلمين إلى الانغلاق وعدم الاعتراف بالآخر،ما يكونه على الاستبداد…
إذا كان الرأسمال البشري ثروة حقيقية متجددة تستوجبُ تمكينها من التحول من حالة الجمود والعقم إلى حالة الفاعلية والإنتاج، فمدرستنا الحالية لا يتخرج منها في الغالب إلا من يرفضون الانفتاح والتحديث والبناء الديمقراطي ويعرقلون التنمية…
نتيجة ذلك، بات التعليم في بلادنا ركيزة لتكريس الثقافة التقليدية القروسطوية السائدة في المجتمع من خلال تنشئة التلاميذ على ما يتعارض مع مقتضيات التنمية، حيث يقضي تلاميذنا وقتا طويلا من حياتهم في المدرسة بدون تعلُّم، ما يشكل تضييعا كبيرا للأعمار وهدرا أكبر للجهد والمال ليتَّضح أن النتيجة المُحقَّقة في نهاية المطاف هزيلة باعتراف المسؤولين عن السياسة التعليمية ببلدنا أنفسهم. وبذلك، بقينا نسير في الاتجاه المعاكس للتنمية والتحديث والديمقراطية، حيث يتم تكوين عقول الناشئة على الرفض العنيد والساذج للانخراط في روح العصر وأفكاره ومقومات التنمية… وطالما استمر تعليمنا يسير على هذا النهج، وبأسلوبه الحالي، فسنبقى عاجزين عن الإنتاج والعيش في عالم اليوم الذي يعرف تغييرا متسارعا وتعقيدا متواصلا على كافة الأصعدة وفي كل المجالات.
ليس العقل وعاء، وإنما هو ملكة إجرائية وتقنية منهجية وفعالية نقدية…، ومن ثمة فالحفظ عن ظهر قلب ليس فكرا، لأنَّ الفكرَ روح تبزغ وتسطع في النفس، وطاقة تشع في كيان الإنسان… إنه انتقال من حال السلب إلى حال الإيجاب وتفاعل يسري في كل أنماط تفكير الإنسان ووجدانه وسلوكاته ومختلف أساليب إنجازه… لذلك يشكلُ اقتصارُ عمل المدرسين على إعطاء معلومات للتلاميذ صيغةً تلقينيةً لا تؤهل الجيل الصاعد على بناء معارفه وقِيٰٓمه، فيتم القضاء على طاقاته الفكرية والروحية والحيلولة دون بزوغ ذاته وتكوُّن فرادته وغيرها من الخصائص التي تعد من أهم مميزات العقل والوجدان ووظائفهما… ولعل هذا ما جعل الشاعر الفرنسي “بول فاليري” يقول: “جوهرُ التعليم تربية الروح. إنه تهيئة الإنسان لكي يصبح ما لم يكن عليه أبدا من ذي قبل..”. تمنح المعرفة معنى للحياة، وتهب الإنسان قيمته وجدوى وجوده، كما أنَّ العلم ليس مجرد معلومات، بل هو رؤية واعية وأسلوب متحرك في الملاحظة والتفكير والتحليل والاستنتاج والبناء…
لقد صار من السهل جدا الحصول على المعلومات من مصادر شتى، شريطة القدرة على معرفة طبيعة ما يلائمنا منها، ومع ذلك فقد فشل نظامنا التعليمي فشلا ذريعا، باعتراف تقارير رسمية عديدة، لأنه ينظر إلى العلم بكونه مجرد معلومات ومسائل ثابتة. وهذا ما كرس الجمود الفكري في أذهان التلاميذ وغرس الاستسلام في أرواحهم وحجب عنهم إمكانات التغيير والتحول الهائلة، فصرنا لا ندرك أن العلم قطيعة مع الأنساق المعرفية السائدة وتقويض لأوهامنا وخرافاتنا. إنه رؤية فاحصة ونافذة تفضي إلى بناء معارف جديدة تشكل إبداعا يحرِّرنا من تصوراتنا الخاطئة ويمكننا من الانخراط في الابتكار، ويفتح لنا آفاقا جديدة تمنحنا القدرة على المزيد من التفكير والفعل والإبداع… ولن يتعلم من لم يندمج بالعلم والمعرفة ويستثمر منطقهما ويدرك قيمتهما الذاتية وما يمنحانه للإنسان من نمو واستقلال.
تقتضي الرغبة في التخلص من براثن التخلف التركيز على تغيير أسلوب تفكيرنا وانفتاح عقولنا وغرفها من تدفق إنتاجات مختلف العلوم والاستضاءة بنور أفكارها الجديدة…، وذلك بتركيز الاهتمام على بناء المتعلِّم لملكاته العقلية وتحريكه لخياله المفضي إلى الابتكار والاستقلال الفكري والتجدُّد المستمر للرغبة في المزيد من المعرفة والإنتاج والفعل. بدون ذلك، لن تنتظم المعرفة في ذهنه، ولن تدخل ضمن تكوينه الوجداني، ولن تشكل اهتماما ذاتيا له.
الأحد : 30 دجنبر 2015.