اشتغل الرأي العام السياسي والحقوقي والقانوني والمدني برد فعل وزير الدولة المكلف بحقوق الانسان، السيد مصطفى الرميد، على الأمر بالإحالة الذي أصدره قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بفاس، كما تتبع الجميع الآراء والتعليقات والتقييمات المعارضة والمساندة لموقف الوزير. وطغت على كل ذلك مناقشات طبيعة مرتبطة بقانون المسطرة الجنائية، سواء ما تلق بالتقادم أو إمكانية إعادة التحقيق في قضية سبق التحقيق فيها من عدمه.
غير أن السؤال الحقيقي، الذي من المفروض أن يقف عليه الجميع، ليس هو الاختلاف في تفسير قواعد المسطرة الجنائية بخصوص مدى تطبيق قاضي التحقيق لها، وهل له الحق في التحقيق في وقائع سبق أن أحيلت على القضاء.
بل إن المشكل الكبير، الذي وضع أمامنا اليوم كسياسيين وحقوقيين ومغاربة بصفة عامة، هو مدى شرعية تدخل وزير في الحكومة في عمل ومهمة قاضي التحقيق، أي مدى شرعية ومشروعية تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية.
حقا يمكن أن يكون لمحامي أطراف النزاع المعروض أمام تلك المحكمة آراء مختلفة، بالنظر للمركز القانوني لكل طرف، وهو اختلاف مشروع في قراءة تفسير القانون. والذي ستحسم فيه المحكمة.
خصوصا وأن أمر قاضي التحقيق، ليس أمر نهائيا، لأنه يجب أن يثبت صحته القانونية أمام 4 محطات سيخضع فيها للمراقبة، وهي المرحلة الابتدائية والمرحلة الاستئنافية ومرحلة النقض ومرحلة إعادة النظر أمام محكمة النقض.
بينما موقف عضو السلطة التنفيذية، أي وزير في الحكومة، هو موقف نافذ فورا ولم يسمح بأن تكون عليه أي رقابة.
علما، وهذا هو ما لم يستحضره السيد الوزير، بأن كل قاض يغضب نصف المغاربة كل يوم، لسبب بسيط، وهو أنه ملزم بأن يبتّ في نزاع بين طرفين، فهو يحكم لطرف ضد طرف آخر.
من منا لم يغضبه مقرر قضائي صدر من محكمة عادية أو حتى من محكمة النقض، لكن الاحتجاج على المقرر القضائي حدد القانون الجهات المؤهلة لذلك، كما منع جهات أخرى من ممارسة أي احتجاج على أحكام القضاء، خص بالذكر دستوريا، أعضاء السلطة التنفيذية.
لهذا، أحدث موقف الوزير من الآثار ما ترجم برد الفعل عليه في المجتمع السياسي والحقوقي المغربي، بل قد يكون لموقف الوزير- وهو المكلف المكلف بحقوق الإنسان- تأثير كبير على صورة قضاء المغرب في الخارج. إذ الكل يتذكر بكون محكمة أمريكية رفضت تنفيذ حكم أصدرته محكمة مغربية ضد شركة أمريكية، بدعوى أن وزيرا للخارجية سابقا استعمل في حديثه عن القضاء المغربي عبارة فسرها القضاء الأمريكي بأنها تشكك من عضو في الحكومة المغربية في نزاهة القضاء المغرب.
فهل من حق وزير في الحكومة أي عضو السلطة التنفيذية أن يتدخل ويعقب، بأسلوب المحامي، على عمل قاض في محكمة الاستئناف، علما بأن قاضي التحقيق يعين من قضاة الأحكام، وليس من قضاء النيابة العامة.
إن موقف وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان فيه هدم لمبدأ فصل السلط وإلغاء للتقدم والتحول الذي أتى به دستور 2011، عندما نص على كون السلطة القضائية هي سلطة مستقلة، لأول مرة في التاريخ الدستوري للمغرب، استجابة لمطالب الحركة الحقوقية منذ بداية السبعينات.
كما مقتضيات الدستور لم تبق ديكورا يزين الدستور المغربي بل حضرت الإرادة السياسية وفعلت الدستور بتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، وفصل هيئة النيابة العامة عن التبعية لوزيرالعدل، تأسيسا لاستقلالها هي كذلك عن السلطة التنفيذية.
فاستقلال القضاء هو مكسب حقيقي لكل المغاربة ، نص عليه دستور 2011 الذي هو ترجمة لإرادة سياسية حقيقية لتوافق الدولة والمجتمع على التحول الذي عرفته هيكلة الدولة ، هو لبنة من لبناة إعادة هيكلة الدولة من أجل تحديثها لتعلو إلى مصاف الدول الديمقراطية.
وتأكد هذا التحول عندما عين جلالة الملك رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات في سنة 2011، كما أعاد تعيين رئيس الحكومة بعد انتخابات 2015 من نفس الحزب، وعندما فشل هذا الأخير في تشكيل الحكومة، عين رئيسا جديدا للحكومة من نفس الحزب، في احترام تام للمنهجية الديمقراطية.
وبما أن قواعد الدستور تشكل وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة، فإنه لا يمكن تجزيئ مقتضياته، والتمسك باحترام المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة، بينما يتم فرض احترام باقي ما أتى به الدستور من التزامات ، وعلى رأسها عدم شرعية ومشروعية تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية.
فاستقلال السلطة القضائية يعني بكل بساطة عدم شرعية تدخل أاي عضو في الحكومة في العمل القضائي.
وأنه ينتج بالتتبع لذلك، أن السيد مصطفى الرميد وهو يوجد في منصب وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان ، عندما أعطى لنفسه الحق في انتقاد مقرر قضائي صادر باسم الملك وطبقا للقانون كما ينص على ذلك الفصل 124 من الدستور، يكون ببساطة قد خرق مبدأ فصل السلط المنصوص عليه في الدستور، أي خرق الدستور ، وهو ما شكل خطأ جسيما سياسيا وقانونيا وأخلاقيا.
قد يكون واردا أن السيد مصطفى الرميد، هو وزير مكلف بقضايا حقوق الإنسان، أن يهتم بقضية مرتبطة بحقوق الإنسان، لو تدخل في قضية مواطن عادي.
لكن أن يتدخل في قضية شخص منتم لحزبه ومن المقربين له، في قضية مازالت تشغل الرأي العام، فذلك يعني أن السيد الوزير سخر وقته ومهامه كوزير ومكلف بحقوق الإنسان فيما يهم جميع المغاربة ، فقط للدفاع عن شخص واحد من جهة، و منتم إلى حزبه من جهة أخرى، وهو ما يفقد تدخله أي شرعية حقوقية أو أخلاقية أو سياسية.
إن تدخل السيد مصطفى الرميد من أجل الدفاع عن فرد من حزبه و أقربائه، وهو يحمل صفته وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان ، أتى معاكسا لما سار عليه وزراء من قبله وجدوا في نفس وضعيته، وأتى معاكسا لمواقف سبق له أن أشرف عليها عندما كان وزيرا للعدل ورئيسا للنيابة العامة، مما يثبت الكيل بمكيالين.
وبخصوص معاكسة موقف السيد مصطفى الرميد بصفته وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان لما سار عليه وزراء من قبله، أذكر بمثال واحد، وهو موقف الأستاذ عبد الواحد الراضي عندما كان وزيرا للعدل ، وفي نفس الفترة كان الأستاذ خالد عليوة محالا على التحقيق، ومع ذلك لم يثبت أن الأستاذ عبد الواحد الراضي أدلى بأي تصريح كيف ما كان بخصوص ملف الأستاذ خالد عليوة.
ودوليا، نشرت إحدى الجرائد الفرنسية في الأحد الماضي استجوابا مع وزيرة العدل الفرنسية TOUBIRA وجهت فيه اللوم للقيادي MELENCHON عندما انتقد إجراءات التفتيش التي أمر بها قاضي التحقيق، معتبرة أنه لا يمكن التهجم على السلطة القضائية كيف ما كان الحال. والأمثلة الأخرى متوفرة وطنيا و دوليا.
وبخصوص اختلاف موقف السيد مصطفى الرميد من قاضي التحقيق بفاس، عن موقفه عندما كان وزيرا للعدل، فإن الأمثلة متعددة، التي طالبت فيها النيابة العامة بفتح تحقيق في أفعال سبق أن تم التحقيق فيها وصدر بشأنها حكم.
وكمثال أخير عن تغير موقف السيد مصطفى الرميد عندما كان وزيرا للعدل وكانت النيابة العامة تابعة له ، أنها طالبت بإعادة فتح التحقيق ضد مواطن سبق أن حقق قاضي التحقيق في أفعاله أحيل على المحكمة وأصدرت المحكمة حكما في المتابعة . ومع ذلك أمرت النيابة العامة، و السيد مصطفى الرميد رئيسها ، بإعادة تكييف نفس الأفعال التي بت فيها قاضي التحقيق سابقا، وهي القضية موضوع الملف الجنائي عدد 1440/2610/2013 الغرفة الجنائية لدى محكمة الاستيناف بالدار البيضاء .
فما الفرق بين طلب التحقيق في أفعال منسوبة لعضو مقرب من حزب السيد مصطفى الرميد وطلب التحقيق في أفعال نسبت لمواطن عادي أمر به السيد مصطفى الرميد ، بصفته رئيسا للنيابة العامة.
هل يقبل، أخلاقيا، وسياسيا، الكيل بمكيالين اليوم؟