يشكل التعلُّم عملا أساسا في نمو الشخصية، وهذا ما يقتضي ضرورة أن نفعل ما لا نعرف فعله لكي نتعلم فعله.
عندما يقدم المدرس المعرفة مباشرة إلى التلاميذ، فهم يصبحون ذواتا سلبية تكرر خطابا ميتا، إذ لن يدركوا معنى ما يتلقونه، مما يحيل الأفكار العميقة إلى أفكار جوفاء ! في أحسن الأحوال، يستطيع التلميذ ترديد نتف من المعرفة التي تلقاها. كما أن تعويد التلاميذ على انتظار تلقي معرفة جاهزة من المدرس يؤدي إلى اعتيادهم على الاستهلاك وتلقي الأجوبة عن كل شيء، مما يجعلهم في حاجة إلى التوصل بقواعد جاهزة من المدرسين والخبراء الذين هم أكثر معرفة منهم. لكن ألا يشكل هذا تربة خصبة لمختلف النزعات التقليدية المتطرِّفة ؟
لا يتم تعلُّم المعرفة عن طريق نقلها، بل إن ذلك يفضي إلى الطاعة والانقياد، حيث يخاطب المدرس التلميذ قائلا: “يجب أن تنصت إلي، لأنني أنا الذي أعرف” . لكن ما يتم إغفاله هو أن التلاميذ يقاومون المعارف التي يُفرض عليهم ابتلاعها، فيكون رد فعلهم سلبيا، كأن يستمعوا إلى المدرس وهم يفعلون شيئا آخر، تماما كما يفعل الكثير من الناس مع جهاز التلفاز، حيثُ يستمعون إلى ما يبثه وهم يمارسون نشاطا آخر في الآن نفسه.
يمكن للتلاميذ استضمار المعرفة التي يتم نقلها إليهم مباشرة، شريطة أن تكون بسيطة ومحدودة ودقيقة، وأن تستجيب لحاجة واعية لديهم، وألا تكون تجريدية كما هو الحال مع المفاهيم والنظريات التي تتطلب بحثا وبناء فعليين حسب مرحلة النمو التي يجتازها المتعلم… كما ينبغي أن يكون التلميذ قادرا على تنظيم معرفته لربطها بمعارفه السابقة مع ممارسة قطيعة مع الخاطئ منها، وذلك عبر الانخراط في عملية بحث تؤدي إلى بناء معرفة جديدة يكون قادرا على توظيفها لاحقا عند الحاجة إليها.
تبعا لذلك، يلزم المدرسين القيام بإثارة شهية التلاميذ للبحث بأنفسهم بهدف بناء معارفهم، لأن البحث يقتضي رغبة ودينامية… عندما لا يبني المتعلمون المعرفة بأنفسهم، فهم يعجزون عن استيعابها وتوظيفها لمعالجة مشكلات ووضعيات جديدة… فالمعرفة ليست مجموعة من الأشياء والكفايات التي يتم نقلها، بل هي مسار نسير عليه وعمليات نعيشها، كما أنها تمكننا من التقدم والتحول والتغير… ولكي تُساعد وضعية تدريسية أو بيداغوجية معينة التلميذ على التعلُّم، ينبغي أن يرى فيها مسألة أو مشكلة ذات معنى، لكنه لا يعرف حلها، ويعيشها وكأنها في متناوله. كما يجب أن يساعده المدرس على إيجاد حل لها عبر قيامه بالبحث فيها…
إذا كان حل مسألة مَّا يقتضي إنجاز بحث، فما المقصود بمفهوم البحث؟ وما دام اهتمامنا ينحصر في حقل التربية، فهل من الواقعية أن ينهض التَعَلُّم على البحث؟
للإجابة عن هذا السؤال، سأرجع إلى “محاورة مينون” لأفلاطون رغبة في استلهام مأزق “مينون ” Le dilemme de Menon، حيث يقول:
“لا أستطيع أن أبحث إلا فيما أعرفه، لأنني إذا كنت أعرف ما أبحث فيه، سأتظاهر بالبحث فيه. وإذا كنت أعرفه سلفا، فلماذا يصلح البحث فيه؟ لكن إذا كنت لا أعرف ما أبحث فيه، فكيف يمكنني أن أجده قطعا؟” (أفلاطون، محاورة مينون).
ألا يضع “مأزق مينون” هذا فكرة البحث نفسها موضع تساؤل؟ أليس هذا النشاط إذن مستحيلا أو غير مُجدٍ؟ إنه أحد الأسئلة التي تطرحها الفلسفة على ذاتها منذ أفلاطون. لكن إذا كان حقا لا يمكن، حتى في العلوم، تأكيد صحة فرضية مَّا، فهذا لا يمنع المعرفة من التقدم والتطور عبر تناسل مقترحات وأجوبة، وكذا من خلال إقامة علاقات بين هذه المقترحات بهدف بناء مفاهيم ونظريات يمكن قياس قيمتها بمدى قدرتها على تفسير الواقع والفعل فيه… وإذا عدنا إلى الممارسة الفصلية التي تهمنا أساسا في هذا المقام وجدنا أن عدم معرفتنا بالنتيجة التي ينبغي التوصل إليها لا يحول دون انخراطنا في دينامية البحث الذي يمكننا عبر التلمس والتحسس من الاكتشاف التدريجي للطريق الفعال والتوصل إلى نتيجة لم نكن نتوقعها في البداية.
يُشكك هذا القول في صحة الفكرة الشائعة التي تقول إن حل مسألة معينة يفرض علينا أن نكون مسلحين بتصور دقيق للهدف الذي نريد تحقيقه وللسبيل الذي يجب أن نسلكه لإنجاز ذلك.
يجب ألا ننسى أن المدرس يشكل موردا داخل الفصل الدراسي؛ إذا كان من الصعب على التلميذ أن يحدد وحده ما يبحث فيه، فالمدرس والمناقشة بين أفراد جماعة الفصل عنصران يمكن أن يلعبا دورا في تقدم عملية البحث. ثمّ باستطاعة المدرس أن يدخل هذه الجماعة في البحث عبر خلق وضعية بيداغوجية مدروسة تساعد على تطور فكر التلاميذ وتطوير ممارسته التدريسية…
يتواتَرُ اليوم استعمال كلمة “بحث” في سياقات مختلفة من لدن الجميع، إذ قد يطلب مُدَرِّسٌ من تلاميذه أن يبحثوا عن معلومات أو وثائق معينة، أو عن معاني بعض الكلمات في القواميس، لكن هذا لا يعني أنهم يُجرونَ بحثا بمعنى الكلمة. لا أقصد من وراء هذا القول توجيه النقد إلى هذه الأنشطة، ولكن أود التنبيه إلى أن المدرس الذي يطلب من تلاميذه القيام بها قد يعتقد أن البحث ينحصر في هذه العملية فقط.
لا يعني إنجاز بحث مَّا الإتيان بمعلومات جاهزة، أو نسخ نصوص لا تُقرأ في شموليتها، ولا ربطها بالنصوص الضرورية لفهمها، لأن إجراء بحث معين يقتضي محاولة الجواب على أسئلة متضمنة في إشكالية. فالبحث لا يقتصر على مجرد الحصول على معلومات، بل يشمل أيضا معالجتها وتحليلها في ارتباط بالمسألة التي تهمنا من أجل تطوير أجوبة الأسئلة التي طرحناها على أنفسنا لتسليط الضوء على مسألة أو مشكلة معينة…
هناك فرق كبير بين إنجاز تمرين والقيام ببحث؛ فتطبيق ما تعلمناه من قواعد وصيغ للإجابة عن أسئلة محددة لا علاقة له بالبحث، لأن البحث يقتضي إبداعا وابتكارا. كما ليس لكلمة “بحث” نفس الدلالة في لغة عموم الناس وفي حقل بناء المعرفة.
لقد تعودنا أن ننظر إلى عملية البحث باعتبارها تبدأ بالملاحظة، فصياغة فرضية، ثم إجراء تجربة، للمرور أخيرا إلى تأويل النتائج، فصياغة الخلاصات. وتجدر الإشارة إلى أن كلود برنار قد وضع هذا التصور باعتباره مجرد إطار مفتوح، لكن تطبيقاته الحرفية اللاحقة جعتله غير ملائم، وحولته إلى خطاطة نمطية، مما جمَّده وأفرغه من مضمونه، ما أدى إلى توجيه الكثير من النقد إلى تلك الخطاطة التي جعلت البحث يبدأ بالملاحظة، وهو ما لا يستقيم معه البحث ويرفضه الباحثون. ونضيف إلى ذلك أنها لا تمنح مكانة أو دورا للمسألة أو المشكلة في البحث، بل حتى إذا تمت الإشارة إليها أحيانا، فذلك يكون غير كاف… ناهيك عن كون هذه الخطاطة خطية، وهو ما يتعارض مع طبيعة البحث المتسم بالدوران، والذهاب والإياب، والرجوع إلى الوراء، ليس من باب التراجع، بل من أجل التريث والاحتراس لتوضيح بعض العناصر التي يمكن الاستناد إليها من أجل التقدم في البحث.
علاوة على ذلك، تقتضي هذه الخطاطة بالضرورة المرورَ بمجموعة من المراحل المتتالية، وهذا نادرا ما ينطبق على ممارسة الباحث.
لا تعني هذه الملاحظات أن اللحظات التي يتضمنها تصور البحث لدى كلود برنار غير واقعية وبدون فائدة؛ فهي معالم ومؤشرات، إذ إن المنهج التجريبي يعني أساسا طريقة لتنظيم عملية البحث بما يضمن تقديمها بشكل واضح ومعقول. لكن عندما يتم تحويله إلى خطاطة جامدة تُفرض على التلاميذ فرضا، فهو يتحول إلى مجرد “ترويض dressage ” لا علاقة له إطلاقا بالعلم.
يقول كلود برنار claude Bernard: “ليس هناك ما هو أبلد من الواقعة ” fait، إذ لا تأخذ الوقائع معناها إلا بما تطرحه من مسائل أو مشاكل، أو بما تجيب عنه من أسئلة نطرحها على ذواتنا، مما يفرض علينا الانخراط في البحث من أجل الإجابة عليها. يقول سقراط: “إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا”، وهذا ما جعله لا يكف عن طرح الأسئلة على مختلف أفراد مجتمعه الذين كان يدفعهم تسليمهم بيقينية معارفهم إلى التهكم عليه والسخرية منه في البداية، لكنه سرعان ما كان يفحمهم بأسئلته التي توصلهم إلى اكتشاف تناقضاتهم الفكرية وجهلهم. لقد كان يجعلهم يكتشفون المشاكل والعوائق الثاوية في ذواتهم. هكذا، فطرح الأسئلة والبحث هما ركيزتان أساسيتان للتعلُّم.
يجب أن يكون للبحث معنى بالنسبة للباحث لكي يحس بأنه معني به، ويرغب في التوصل إلى معرفة معينة، مما يجعله ينخرط من تلقاء نفسه في ما يعمله.
ينطلق إجراء البحث من المعارف الأولية والتمثلات والتصورات الخاطئة للذات التي تشكل مصدرا لتساؤل حقيقي. فليس التعلُّم هو الجواب على الأسئلة التي تُطرَحُ علينا، ولكنه جواب على الأسئلة التي نطرحها على ذواتنا !. وهكذا تبرز الإشكالية بشكل تدريجي، حيث يمكن تفريعها إلى مجموعة من الأسئلة. أضف إلى ذلك أنها تقتضي فرضية واحدة أو مجموعة من الفرضيات قد تكون ضمنية أحيانا. ويمكن لفرضية واحدة أن تُخفي مجموعة من الفرضيات. كما يجب اختبار الفرضيات، إذ على المتعلم أن يُطور تصورا لمقاربته ويقوم بإنجازها. ومن الضروري أن يؤدي هذا إلى مجموعة من الخلاصات التي تكون عبارة عن معرفة عامة (مفاهيم، قواعد، نظريات،نماذج…)
إضافة إلى ذلك، يمكن للبحث أن يفضي إلى مجموعة من الأسئلة التي تتطلب الإجابة عليها القيام ببحوث مستقبلية، إذ تتناسل المسائل والمشكلات والأسئلة والحلول والأجوبة المؤقتة، والمتقدمة على ما سبقها، إلى ما لا نهاية.
قد يتساءل تلميذ قائلا: “لماذا يطلب المدرسون منا القيام ببحثٍ يعرفون الجواب عنه؟! أليس من الواجب عليهم أن يمدونا فقط بالجواب مباشرة، مما سيساعدنا على ربح الوقت، ويجنبنا الحصول على نقطة أو علامة ضعيفة؟”.
بقدر ما يتقدم التلاميذ في تمدرسهم يدخلون في مقاربة تعلُّمية تفضل الاستهلاك كثيرا على البناء والإنتاج، إذ يكون الإنصات مريحا لهم أكثر من البحث المتعِبِ لهم.
ينطبق هذا على كل التلاميذ الذين يتقنون قواعد لعبة معينة ويرفضون تغييرها. أما التلاميذ الذين يوجدون في وضعية صعبة، فلا يروقهم أن يُطلب منهم القيام بنشاط جديد يرونه أكثر تعقيدا من العادة… ويعرف جيدا المدرسون، الذين يعتمدون مقاربات اسكتشافية تروم البحث، أن البدايات تكون صعبة أحيانا، على التلاميذ، لكنهم يدركون تدريجيا قيمة هذه الأنشطة الاستكشافية المقترحة عليهم، ويحبذونها، فيكتسبون عادات فكرية جديدة تجعلهم يقدمون على التخلص من سلبيتهم. وهذا ما يجعلهم يصبحون، وبسرعة، أكثر نقدا في السنة الموالية عندما يقوم مدرس جديد بإرجاعهم إلى وضعيتهم السلبية السابقة!
غالبا ما يحدث أن يعبر التلاميذ المنخرطون في البحث عن حاجتهم إلى معرفة واقعة محددة أو الإجابة عن سؤال معين، وعن عجز المدرس عن مساعدتهم. في هذه الحالة، ينبغي على هذا الأخير أن يُعلن عن جهله إسوة بالباحث، مما سيمكن كل واحد من أن يبحث من جهته عن الجواب في الخزانات أو على شبكة الإنترنيت… وفوق ذلك، من المفيد أن يتم نشر الفكرة القائلة إن المعارف المتوفرة قد لا تسمح، أحيانا، بالإجابة على بعض الأسئلة!
ألا يمكن للمدرس أيضا أن يتعلم من خلال التدريس؟ ليس المدرس هو الذي يعرف ويعطى معرفته للآخرين الذين لا يعرفون، وإنما هو من يمتلك مشروعا تعلُّميا مفتوحا يُمَكِّن كل واحد من المشاركة فيه بملكاته وطاقاته… تبعا لذلك، يدرك التلاميذ أنه لا يمكنهم استيعاب أي معرفة بدون البحث فيها والانخراط في بنائها… كما أنهم سيعون أن المعارف مفتوحة ومتطورة، وليست ثابتة ولا مطلقة.