بعد أن انتقل مصطلح الانطباعية  من الرسم إلى الأدب، لم تتغير في الواقع صيغة التعامل ما بين الأديب والظواهر التي يتعامل معها, حيث ظل الأديب  يرى أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية لانطباعات التي يتركها في نفس القارئ, وهذا الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي والنشط للعمل الأدبي. وبالتالي فإن الأفكار والمبادئ التي حافظت عليها وآمنت بها الانطباعية  في الأدب وراحت تروج لها, هي : إن الفنان يحس أو يتأثر أولاً، ثم ينقل هذا الانطباع أو التأثير عن طريق التعبير، دون الاهتمام بالمعايير المتبعة في النقد الأدبي الأكاديمي. وطالما أن قيمة أي عمل أدبي تكمن في نوعية الانطباعات التي يتركها هذا العمل في نفس القارئ، فإن على الأديب أن يضع هذه الحقيقة نصب عينيه، لأن الانطباع هو الدليل الوحيد على الوجود الحي للعمل الأدبي.

    إن الانطباعية في سياقها العام  بالنسبة للأدب كما هو الحال في الفن التشكيلي, تقوم على فكرة جوهرية  هي (الاحساس), فطالما الأديب يحس بوجوده وبالظواهر التي تحيط به, فهو قادر على نقل هذه الأحاسيس الخاصة به وحده والتعبير عنها إلى الاخر. وهذا الموقف (الحسي )هو في الحقيقة موقف ينافي الموقف العقلاني النقدي من الظواهر والتعامل معها, على اعتبار أن الموقف العقلاني النقدي لا ينكر الاحساس, وإنما هناك من يشتغل معه وظيفياً  في التعامل مع الظواهر وهو العقل الذي يقوم بالتحليل والتركيب لهذه الظواهر ومن ثم إعادة صياغتها والتعبير عنها وفقاً لمصالح الناس وحركة التاريخ المجتمعي. هذا الموقف العقلاني في التعامل مع الظواهر عند الأديب يقر بضرورة التأكيد والإيمان معاً بان أية ظاهرة يُعمل على تناولها أدبياً أو فنياً يجب أن تخضع لمعايير التاريخية والنسبية والحركة والتطور والتبدل, عكس أو بخلاف ما يتعامل معها الانطباعيون الذين يرون  أن كل معرفة لأية ظاهرة لم يسبقها إحساس بها, فهي لا تجدي، كما أن الشكل هو المهم لا المضمون الفني عند الأديب الانطباعي في نقل انطباعه الذاتي للآخرين، والعالم الخارجي يظل مجرد تجربة خاصة, وأحاسيس شخصية وربما تخيلاً, وليس واقعاً موضوعيّاً موجوداً بشكل مستقل عن حواس الفرد.

    ومن النقد الذي نستطيع توجهه للانطباعيين, أنهم راحوا وراء التسجيل الحرفي لأحاسيسهم أو انطباعاتهم  لمشاهد هذا الحس, ونسوا القيمة الجمالية التي تحتم وجود الشكل الفني في العمل الأدبي. لذلك نجد أن القيمة الأدبية في أدبهم  لما يسمى الاعترافات والخطابات الأدبية التي أدت إليهما الانطباعية، قد تحولتا (الاعترافات والخطابات الأدبية) التي عبر عنها الأدباء الانطباعيون في كتاباتهم, إلى مجرد مرآة لحياة الأديب الداخلية الذاتية، أي أن هؤلاء ينظرون إلى الأدب على أنه مجرد ترجمة ذاتية أو سيرة شخصية للأديب. وهكذا فقد أصبح النقد الأدبي والتذوق الفني مجرد تعبير عن الانفعالات الشخصية  والأحاسيس الذاتية التي يثيرها العمل الأدبي في الناقد.

    إن العالم الحديث الذي أشرنا إلى نتائجه في مكان سابق من هذه الدراسة, وما يتضمنه عالم ما بعد الحداثة هذا, من سيطرة لروح الأنانية والفردية، والذاتية البعيدة عن قيم المحبة والعدالة والأخوة وكل القيم النبيلة, هو الذي أفرز مذهب الانطباعية حين فرض على الفرد العزلة، فأصبحت أفكاره تدور حول ذاته، وليس العالم عنده سوى مجموعة من المؤثرات الحسية العصبية، والانطباعات والأحوال النفسية، ولا يهمه الاهتمام بالعالم وإصلاحه أو تغييره إلى الأفضل.

ملاك القول:

    إن الانطباعية لا تعبأ  بإصلاح أحوال الناس أو تغيير العالم إلى الأفضل. ومن هنا كانت الثغرات الأخلاقية والاجتماعية في هذا المذهب الأدبي ذات أثر كبير على كل من يطلع على نتاجه دون أن يكون ملماً سلفاً بفكرته تلك، فالفنان الانطباعي غير ملتزم إلا بالرؤية الحسية وتصوير ما انطبع على حواسه حتى لو لم يره الآخرون، وحتى لو عارضت انطباعاته القيم السامية وأدت من ثم للإضرار بالناس.

    لقد اتكأ الانطباعيون في الأدب والفن على فكرة الزمان, على اعتباره الوسيط الذي اتخذته الانطباعية عنصراً حيوياً. فالزمن كما هو الحال عند المتصوفة والأشاعرة ليس أكثر من آنات متقطعة لا يربطها تاريخ ولا هدف إنساني … أي هو «تفرّد» اللحظة التي لم توجد أبداً من قبل ولن تتكرر أبداً. وهذا يخالف المنطق والواقع, فالزمان ليس مجرداً, الزمان هو سجل تاريخ الأحداث, وهو سجل مشبع بحكايا الناس وأفعالهم في حركتهم وتطورهم ومصالهم .. الزمان والمكان فعلان جدليان جوهرهما أفعال الناس ومصالحهم القائمة دائماً على التناقض والصراع اولاً, مثلما هي قائمة على تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والنمو للإنسان ثانياً. وما دور الأدب والفن إلا وسائل روحية راقية يستخدمها الإنسان المبدع لرفع القيمة الجمالية والإنسانية لدى المتلقي. وهذا ما لا نجده عند أهل المدرسة الانطباعية ومن اشتغل على مدارس ما بعد الحداثة.  

 

*د.عدنان عويد كاتب وباحث من سورية.
للإستزادة في هذا الموضوع راجع :
1- موقع الفن العربي- المدرسة التأثيرية أو الانطباعية- إعداد – غالية نجاري و ورهف الطيار.
2- موقع المعرفة- إنطباعية – أوجين ديلاكروا.
3- موقع سوداس – تحولات ونشأة المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي.
4- موقع أكاديمية الفنون – المدرسة الانطباعية- د. وسام بشير.
ملاحظة:
أهم الانطباعيين في الفن والأدب:
ادوار مانيه, بول سيزان, كلود مونيه, إدغار ديكاس, أوغست رونوار, ألفرد سيسلي, غوستاف كايليبوت, ميشال بيتر آنشر
فينسنت فان غوخ.

 

الاحد: 16 دجنبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …