” لا ينبغي مقاومة الاستبداد بالعنف، كي لا تكون قتنة تحصد الناس حصدا”
حكمة ارشادية:
قال شداد لابنه عنتره في حرب داحس والغبراء عندما دارت الدوائر على قومه بني عبس:” ويلك عنتره كر” فأجابه العبد الأسود: “ان العبد لا يحسن الكر والفر”، فقال له والده والذي كان حتى ذلك التاريخ يرفض الاعتراف بإبنه الأسود: ” كر وأنت حر…”، عند ذلك انقض عنتره على الأعداء غير مبال بالموت فردهم عن قومهم ومن ذلك التاريخ أصبح فارس بني عبس وعرف في التاريخ أفضل بطل شعبي ومازالت سيرته تتلى وتدرس في مختلف الأوساط ولدى معظم الشعوب…”
مواقف من حياة المؤلف:
– نبه الى حالة الفساد والجمود.
– ناصب الأتراك العداء وكل القوى المعادية لمصلحة الأمة.
– أعاد طرح السؤال شكيب أرسلان:” لماذا تأخر المسلمين بينما تقدم غيرهم”؟
– تأثر برجال الاصلاح والإحياء.
– دعا الى الثورة والتحرر والتقدم.
– كشف عن آرائه النقدية للاستبداد وصارع كل أشكال السلطة.
– معالجة المسألة الاجتماعية التي يعاني منها الشرق.
الإشكالية المركزية للكتاب:
ماهي أسباب التخلف بالنسبة الى العرب والمسلمين؟ وهل من سبل للترقي والنهوض نحو المدنية؟ كيف أدرج كتابه ضمن البحوث العلمية السياسية ؟ وهل كان مجهوده مجرد نقل وتعريب للمبادئ والتعاليم السياسية الحديثة التي ظهرت في الفلسفة الغربية أم مجرد تواصل مع مباحث تراثية وعلوم أصيلة؟ كيف استعان في مقارباته الوصفية بآراء غيره واعتمد على الاقتباس واستفاد من أعدائه؟ هل كان مقلدا لغيره ومتبعا لمن سبقه من العلماء العرب أم أنه أبدع أفكار عن طريق استعماله الخاص للعقل أملته عليه الضرورة الواقعية؟ كيف استعمل الصحف في نشر أفكاره التجديدية؟ لماذا علق آمال الأمة على الناشئة العربية المباركة؟ وهل فقد صدق كلمته وجرأة خطابه عندما تقلد مناصب حكومية؟ والى أي مدى أثناه الأسر على فك رقبة الأمة من قيود الاستبداد؟ كيف يكون أصل الداء هو الإستبداد ومقارعة الاستعباد هو الطريق نحو العلاج الشافي؟
فرضيات ضمنية للقراءة:
– الجهل أصل الداء والعلم هو الدواء
– أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظلم
– الاستبداد يقلب السير من الترقي الى الانحطاط
– ان الداء اختلاف الاراء والتشتت الذي أصاب الأمة
– سبب الانحطاط كامن في التراخي عن الدين وفي التهاون فيه.
– العافية المفقودة هي الحرية السياسية
– انكم خلقتم أحرارا لتموتوا كراما
– ان السجون لا تقلل الجنايات بل المدارس
– ان الحياة هي العمل والقنوط هو عدو الحياة
– خير الخير أن يعيش الانسان حرا
1- السياسة بحث علمي:
” نشرت في بعض الصحف الغراء أبحاثا علمية سياسية”
لقد استلهم الكواكبي افكاره السياسية من مصادر شتى ومرجعيات متنوعة عبر التاريخ وتأثر بالفلسفة الاغريقية وكتب السياسة الرومانية التي تعود الى الجمهوريين وارتكز على التجربة السياسية العربية في بعديها النظري والعملي في عصر الازدهار وانتبه الى أهمية الأفكار الفلسفية السياسية في عصر الأنوار وخاصة عند مدرسة العقد الاجتماعي مثل روسو ومونتسكيو ولوك واسبينوزا وحاول مواكبة الموجة التحديثة الجديدة في العالم التركي مع كمال بك وأحمد باشا وفي الوطن العربي مع رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وسليم البستاني وأحمد فارس الشدياق. لقد كان واعيا بتبعية السياسة العملية عند الاغريقية للحكمة النظرية وللخطابة والسفسطة وامتزاج السياسة العربية بالدين والأخلاق والأدب والشعر والتاريخ وخاصة عند علي أبن أبي طالب في نهج البلاغة وعند المتنبي والمعري والرازي والطوسي والغزالي وابن خلدون وابن بطوطة. ولقد أدرك أيضا الانقلاب الكبير الذي حصل داخل هذا الميدان مع المحدثين في الغرب وعند العرب والأتراك حينما حاولوا فصل السياسة عن الأخلاق والأسطورة والمثل.
يبد أن الكواكبي قد سار في نفس الخطوط العامة للنظريات السياسية العربية التي تحركت ضمن ثلاثية العدالة والسعادة والمصلحة ووظف المبادئ الموضوعية والقيم الكونية من التجارب الاغريقية والرومانية والأوروبية ولكنه قد أضاف الى ذلك بعدا ثالثا هاما هو روح العصر الذي وجد فيه وحال الواقع العربي الاسلامي البائس وجهود رجال الاصلاح من أجل نقده وتطويره.
هكذا نجد ثلاثة روافد للفكر السياسي عند الكواكبي وهي كما يلي: في البداية نعثر على التراث بما يختلط فيه الدين والأدب والأخلاق بالسياسة والآخر الغربي ومنابته الاغريقية والرومانية ومجمل المؤلفات حول السياسة العمومية والسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية والسياسة الحقوقية، ونجد الذات العربية الممزقة والواقع المأساوي والموقف الحضاري الذي اتخذه رواد الاصلاح منه كرافد ثالث. على الرغم من أن التحليلات التي أنجزها الكواكبي هي مجرد نصوص صحافية ومقالات خطابية مكتوبة بلغة عاطفية تحريضية وموجهة بالأساس الى المشرقيين العرب والمسلمين بالخصوص فإنه خطاب يبتعد عن العلمية والموضوعية ويفتقر الى الانفتاح على العالمية والكونية بقدر قربه من الخصوصية الحضارية ومواءمته للتراث بل انه يستمد قيمته من قدرته التجييشية للشبيبة العربية وتمكنه من التعبير الدقيق عن الواقع المأزوم وتحريك الناس نحو محاربة الجهل والتخلف والتحرك بسرعة نحو التطور والتمدن.
ان علمية الخطاب السياسي عند الكواكبي تتوقف عند قدرته على تحليل مطلبين مهمين: الأول الكشف الدقيق والشافي عن علل الأمراض وأسباب الانحطاط والتخلف، والثاني هو حفز همم الشبيبة وتحرير العقول من الأوهام والتدرب على الحرية واستعمال العقل بطريقة منهجية. ولعل أكثر الملاحظات بديهية هي تلك التي ترى أن سبب التخلف ذاتي داخلي وليس خارجيا موضوعيا وأن أول الخطوات التي يجب القيام بها هو تنبيه الغافلين من أجل المرور الفوري الى زمن الترقي وافتكاك زمام المبادرة.
” تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في انماء الشجر”.وواضح هنا أنه يحدد السياسة بكونها التدبير والاستصلاح والفلاحة وفن الانماء ويجعلها تصف الواقع الاجتماعي وتقوم بتنميته والعناية به.
هكذا يحاول الكواكبي تأسيس القيم السياسية عن طريق تحطيم الممارسات السياسوية ويبذل جهدا كبيرا من أجل استبدال السلوك العاطفي والمرتجل بالتخطيط العلمي والفعل السياسي المدروس والمعقلن. ولذلك نجده يعرف علم السياسة على أنه ادارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة وقوانين العقل وأن الارتجال والاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الشهوة والهوى ويحاول استبدال الأهواء بالحكمة والعقل. ان الحكومة المستبدة هي التي لا يشدها عهد بينها وبين الأمة وان “الاستبداد هو الحكومة التي يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بالقانون لا تعتبر بيمين من يتولى السلطة ولا بعهد على مراعاة الدين والحق والشرف والعدالة ومقتضيات المصلحة العامة”.
يميز الكواكبي بين الأمة والحكومة ويرى أن قوة السلطان يجب أن يقابلها قوة الأمة وذلك لأن الأمة هي الشعب وهو جمع يربط بينهم وحدة الجنس واللغة والوطن والحقوق المشتركة والأمة التي لا تحس بنار الاستبداد لا تستحق الحياة، بينما الحكومة هي وكالة سياسية تقام من قبل الأمة لأجل ادارة الشؤون المشتركة وليست استفراد انسان بالحكم من أجل التسلط على الرقاب بالحديد والنار.
لكن ماهي الأصول التي ساهمت في تشكل أنظمة طريقتها في تسيير الشأن العام هي الاستبداد ؟
2- وصف طبائع الاستبداد:
“ان السياسيين يبنون كذلك استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي، والتشامخ الحسي، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم.”
يحاول الكواكبي عن طريق منهج التقصي والتشخيص وصف الأسباب المفضية الى الاستبداد وتعرية الأسس التي يقوم عليها الحكم الظالم والوقوف عند العلل والأمراض التي أصيبت جسد الأمة وذلك عن طريق نقد الممارسات السياسية المحرفة وفضح القيم الزائفة وكشف التوجهات اللاسياسية وذلك بغية السعي الى تأسيس السياسة كعلم مضاد للاستبداد وخلق قيم ومعايير سياسية انسانية واقتراح العلاج الضروري والدواء الشافي للمجتمع ومساعدة الجسد الجماعي على التعافي والترقي.
” لو كان الاستبداد رجلا، وأراد أن ينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الاساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر… وابنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة.” على هذا النحو إن الاستبداد على سبيل الحقيقة هو استبداد الحكومات حينما يتصرف فرد أو مجموعة في حقوق قوم بلا خوف وهو الاستعباد والإعتساف والتسلط والتحكم، وعلى سبيل المجاز هو استبداد بعض العائلات وبعض الديانات حينما ينفرد بالرأي وتنعدم الاستشارة ويتم التعامل مع الناس على أنهم أسرى وأذلاء ومستصغرين ومستنبتين. أما المستبد فهو الحاكم المطلق والجبار والظالم والذي يقتصر على رأي نفسه فيما ينبغي الاستشارة فيه. على هذا النحو يكون الاستبداد السياسي صفة الحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب. ويحصل الاستبداد عن طريق تولي الحكم بالغلبة أو بالوراثة وأحيانا عن طريق الانتخاب ويمكن أن يتشكل النظام الاستبدادي بصورة تدريجية وذلك من خلال التصرف بما لا يتفق مع ارادة الأمة ومع ما ينص عليه الشرع من قيم كونية عادلة. لذلك يميز الكواكبي بين الحكومة المستبدة التي لا يوجد أي قيد عليها والحكومة المقيدة التي تملك الرعية امكانية ابطال وجودها عن طريق البرلمان ومن خلال القانون ولكنها يرفضها جميعا وبالخصوص الحكم الفردي المطلق الذي يتشكل بالغلبة والحكم الفردي المطلق الذي يتشكل بالوراثة والحكم الفردي المقيد بالدستور والبرلمان والذي يتشكل بالوراثة والحكم الفردي المنتخب المقيد.
“يكفي الاشارة هنا الى صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضا الحاكم المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب…”.. ما نلاحظه هنا أن الكواكبي يرفض النظام الملكي الدستوري والنظام الدستوري المدني مثلما يرفض المنوغارشية والأولوغارشية ويضع بين قوسين جاهزية النموذج الغربي في السلطة الدستورية وتفريق السلطة والانتخاب في التطبيق كحل ديمقراطي للعلاقة بين الحاكم والمحكومين في الفضاء غيرى الغربي.
” تشمل ( صفة الاستبداد) حكومة الجمع ( الفئة) ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعد له وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد.”. في هذا القول يرفض الكواكبي الديمقراطية الغربية ويعتبرها حيلة معقلنة لمزيد احكام السيطرة والغلبة على المجموعة ونراه يقترب من بلورة مفهوم الاستبداد الديمقراطي أو المستبد العادل ولكنه ينقده ويعتبر الديمقراطية الانتخابية والاحتكام الى سلطة الأغلبية ورأي المجموعة أداة قانونية تعدل الاستبداد ولا تقضي عليه وتنظم الهيمنة ولا تلغيها من الوجود بل ان هذه العملية تجعله أكثر مشروعية وأرسخ قدما في المجتمع من الهيمنة عن طريق القوة والانفراد بالرأي. عندئذ يصادر الحكم المطلق حق المواطنين ليضعهم على ذمة شخص واحد بينما تصادر الديمقراطية هذا الحق لتضعه تحت تصرف المجموعة ونكون ازاء هيمنة الأغلبية على الأقلية ، وإذا أمكن القضاء على حكم الفرد المطلق فإنه يصعب القضاء على حكم المجموعة. زد على ذلك لا يؤدي الفصل بين السلط الى القضاء على الاستبداد واقتلاعه من جذوره وذلك لأن التفريق بين الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية لا يؤدي بالضرورة الى وضع دستور يحمل المواطنين على أن يكونوا مسؤولين حقيقة أمام هذه السلط وينص على مراقبة كل هيئة عمل الهيئة الأخرى ومحاستبها ومساءلتها عند كل خطأ. لذلك ” يشمل ( صفة الاستبداد) الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ لأن ذلك لا يرفع الاستبداد ولا يخفضه ما لم يكن المنفذون مسؤولين لدى المشرعين”. لكن ماهو الدستور غير الاستبدادي الذي يفرض طاعة الجميع ويقرر مسؤولية الجميع أمام الجميع دون أن يخدم مصلحة طرف ضد طرف آخر؟ ومن يكتب هذا الدستور الديمقراطي؟ أليست أقلية تحاول أن تفرض تصوراتها على الأغلبية؟وهل يؤدي هذا الى نقد البديل الديمقراطي الغربي والبحث عن بديل شرقي في الحكم الشرعي؟ كيف رفض الكواكبي الديمقراطية الغربية ؟ ولماذا؟ وماهي الطرق التي يقترحها لمقاومة الاستبداد؟
يحاول الكواكبي هنا تعريف الاستبداد بحسب الحكمة ويرى أن المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم و”يضع كعب رجله على أفواه الملايين” وبالتالي يكون الاستبداد هو حضور الارادة الفردية وغياب الارادة الجماعية ويكون المستبد هو عدو الحق وهاتك للحرية ومصادر للعدل ومخل بالأمن.
هكذا يتجاوز المستبد الحدود لأن لا حاجز ولا رادع له بل يتصرف بمقتضى الشهوة والأهواء وتغيب القيود الثقال على الحكومة المستبدة لأنها معينة لخدمة الحاكم وليس الشعب وتتصرف في الخلق كالعبيد.
كما أن أسباب الاستبداد هو الخوف من البطش وتفضيل حالة العبودية على المغامرة وطلب الحرية وكذلك جهل الرعية لماهو خيرها وماهو شرها وإغفالها لحالتها الطبيعية وحقوقها الطبيعية وعدم مطالبتها بها.
زد على ذلك يمكن للاستبداد السياسي أن يتولد من الاستبداد الديني لما يوضع الدين في خدمة السياسة عن طريق التأويل أحادي الجانب والتوظيف النفعي والتعامل الدغمائي مع العقائد ويتم الخلط بين الدين القيم والآراء المغشوشة مثل أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة الى الإنجيل وتحصل مماهاة بين ملكوت المقدس الروحاني وملكوت الدنيوي المادي وينظر الى الدين على أنه مملكة التحكم في الأنفس وتفهم السياسة على أنها التحكم في مملكة الأجساد وبالتالي تمتلك الأجساد من أجل أن تروض النفوس وتتطوع الى مشيئة المستبدين ويكون هذا الفهم الضيق للدين من صنع الانسان ويضفي المشروعية الدينية على الممارسة السياسية التسلطية. زد على ذلك يرى الكواكبي أن العقل والتاريخ والعيان كل يشهد بأن الحكومة المستبدة تكون مستبدة في أصلها وفروعها من المستبد الأعظم وهو اللئيم الأعظم الى الفراش وكناس الشوارع. وهذه الفئة المستبدة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته ولذلك يحرص المستبد على ظلم الناس لأن رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا حمية ولكن المستبد يحتاج لعصابة تعينه وهو فرد عاجز لا قوة فيه ولا حول له إلا بالمتمجدين والمتزلفين.
” ان الاستبداد هو صفة الحكومة مطلقة العنان…التي تتصرف بشؤون الرعية كما تشاء…تفسير ذلك هو كون الحكومة اما غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة أو على أمثلة تقليدية أو على ارادة الأمة.”
كيف يستند الاستبداد السياسي على نوع من الاستبداد الديني؟ وماهي مشروعية القول بأن الدين الحقيقي براء من الاستبداد بإسم الدين الزائف؟ ولماذا يفضي الاستبداد الى تشويه للطبيعة البشرية؟
3- تبعات الاستبداد وتأثيراته:
“يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها”
لعل أول التأثيرات السلبية التي سببها الاستبداد هي تلك التي طالت مجال القداسة ودنسته بأن أفسدت الدين وأفقدته روحانيته وجعلته ماديا ذرائعيا يقوم به الانسان من أجل تحقيق مآربه والفوز بالجنة. بل ان الاستبداد السياسي والاستبداد الديني هما أخطر حليفين على وجه البسيطة بحيث إن وجد طرف الا وجر اليه الطرف الآخر ولنا في تحالف الكنيسة مع القيصر خير مثال. كما مارس بعض الحكام والأباطرة الظلم والتعسف تجاه أرزاق الناس وحياتهم وزعموا أنهم خلفاء الله ويده الطويلة في الأرض وأنهم ينفذون مشيئته. زد على ذلك زعم بعض المستبدين الألوهية والقداسة وجعل الاغريق نظام السماء تحكمه الآلهة وتقسم الحظ والمنفعة والحماية على الخلق بشكل اعتباطي. هذه العملية الكهنوتية التي انتهت الى تخليط السياسة بالدين والدين بالسياسى وامتزاج الاستبداد السياسي بالاستبداد الديني هي اضرار بالتوحيد والشريعة السمحاء وتقويل الله ما لم يقله والإساءة الى الأنبياء وتعطيل لدورهم الدنيوي والأخروي. في تاريخ الاسلام وجد مستبدون حاولوا اطفاء نور الله بأفواههم وسلبوا حرية الشعوب وكان ذلك نتيجة اهمال المسلمين انفسهم لدور المراقبة والمحاسبة والمساءلة الذي يقوم به عادة العلماء وربما جاء الاستبداد الى الاسلام من زاوية تقليد البدع في الديانات الأخرى وخاصة محاكاة المسيحيين وابتعادهم عن جوهر النص وكثرة مذاهب والملل والنحل مما شوش صفاء الايمان وأغرق الناس في الانقسام والفرقة.
” إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه، فالملك الجبار هو المعبود وأعوانه هم الكهنة ومكتبته هي المذبح المقدس والأقلام هي السكاكين وعبارات التعظيم هي الصلوات والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين…”وبالتالي يصير” الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف من السماء ينادي: القضاء القضاء والأرض تناجي ربها بكشف البلاء”.
من جهة أخرى يحول الاستبداد المجد الى تمجد. فإذا كان المجد هو احراز المرء مقام حب واحترام في قلوب وهو مطلب طبيعي شريف لكل انسان مفضل على الحياة عند الأحرار وذلك لارتباطه بالكرم والفضيلة والنبالة فإن التمجد هو التقرب من الحكام والسلاطين والارتزاق من عطايا البلاطات والرشاوي، وهو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف الانسانية ويظهر في الحكومات الاستبدادية والمتمجد هو نصير الجور عدو العدل. وربما المجد الحضاري الغائب هو نتيجة حتمية لتفشي الاستبداد وغياب من يحمل لواء الحرية والعدالة الذين يقول كلمة حق في وجه سلطان جائر.
كما يفسد الاستبداد المال ويضيع ما يكسبه الناس بالأعمال ويبدد الثروات ويكرس التفاوت في امتلاك المال واقتسام الثروات بشكل غير منصف وإذا كانت القوة والعقل والعلم والجمل والجاه وكل ما ينتفع بثمرته الانسان هو المال فإن هذه الثمرات معرضة لإفساد الاستبداد وإسراف الأغنياء وتبذيرهم. لذلك كان المال بلاء على الانسان يحل به من حيث التعب في تحصيله ومن حيث القلق على حفظه ومن حيث ربط صاحبه على وتد الاستبداد. وقد كان الاستبداد بالمال وباسم الثروة أش أنواع التحكم والقهر لأنه يكرس العبودية وشراء الذمم ويمتهن الكرامة الانسانية والقيم الروحية وينتصر للمادة على القيم. غير أن ” المال فيض الهي أودعه الله تعالى في الطبيعة ولا يملك أي لا يتخصص بإنسان إلا بعمل فيه أو بمقابلة”.
لكن ما علاقة الاستبداد بالأخلاق والتربية؟ هل هناك استبداد أخلاقي؟ وما نوعية التربية التي يحرص المستبد على نشرها؟ وكيف يفسد الاستبداد الأخلاق والتربية؟
” الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان فيسوق الناس الى اعتقاد أن طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، ويصبح كذلك النصح فضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عتوا والحمية حماقة، والرحمة مرضا، كما يعتبر أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة”
الاستبداد يضعف الأخلاق الحسنة والفضائل ويشجع على الرذائل ويؤسس القيم الدنيئة ويسبب الجحود ويجعل الناس يتشبثون بالحياة البهيمية ويفقهم القدرة على التمييز بين الخير والشر وبين الحسن والقبيح ويدفعهم الى أخلاق اللذة واقتناص المتع الجسمية وتحقيق الرغبات المادية والعزوف عن السعادة الروحية والتشبث بالمثل والقيم المطلقة. ويقلب الاستبداد سلم المعايير والقيم رأسا على عقب فتصبح الرعية خادمة للراعي وطالب الحق فاجر والمشتكي مفسد والتحيل كياسة والغلبة صحة والنفاق سياسة ناجعة.
كما يفضي الاستبداد الى تعليم الناس الانقياد والخضوع وارتكاب الفجور والفسق والإجرام فتمرض النفوس وتشقى الأرواح وتتبلد الطباع وتقسو القلوب وتمرض الأجسام وتدنس الأخلاق وتعم الفوضى. ان أسير الاستبداد لا نظام في حياته إلا النظام الذي يفرضه عليه المستبد ولذلك يؤثر الاستبداد على أخلاق الناس فيرغم الأخيار على أن يكونوا مرائين منافقين ويعين الأشرار حتى يكونوا موضع احترام وتقدير.
أضف الى ذلك أن الاستبداد يوظف التربية لمصلحته ويستولي على التعليم ويدجنه ويجعل الدرس وسيلة للتبرير وإضفاء المشروعية على ممارسة المستبدة المنافية للدين والأخلاق ولذلك تظهر التربية المستبدة. ” إن عبيد السلطة التي لا حدود لها هم غير مالكين لأنفسهم وتربيتهم لأولادهم هو تحضير لأنعام للمستبدين، أعوان لهم عليهم.”.وبتالي أن حضور استبداد يعني ارتفاع التربية الحقيقية وزوالها وحضور التربية الحقيقية في الواقع الاجتماعي يفضي الى كنس الاستبداد وتفكيكه وكأنهما ضدان لا يجتمعان. ولكن “من أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهب حيث يهب الريح لا نظام ولا إرادة”؟
علاوة على ذلك يفسد الاستبداد العلم والمعرفة والعقل ويحرص على حرمان الرعية من التنوير ومن علوم الانسان ومنعهم من التمتع بالمعارف التي تحرك الوعي والثقافة السامية التي تهذب الذوق وتشجيعهم على العلوم الجافة والمعارف القديمة التي تكرس الإستحمار وتزيد الغباوة وتنشر الجهل وتقوم على الاجترار.
هكذا يخاف المستبد من علوم الحياة والفلسفة العقلية والحكمة النظرية وحقوق الأمم والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية وهي علوم توسع العقول وتمزق الغيوم وتعرف الانسان بانسانيته وحقوقه وتبسق الشموس وتدرب على الحرية وتجعل من الذكاء البشرى سلطة أقوى من كل السلط الأخرى، ولذلك نراه يشجع العلوم اللغوية وقواعدها المجردة ويحرص على نشر العلوم الدينية الخاصة بالمعاد والعبادات ويهمل العلوم الدينية الخاصة بالمعاملات. اذا كان للعوام قابلية الاستبداد ويحنون الى الرضوخ بحكم المألوف فإن العلماء هم الذين ينبتون في مضايق الصخور ويسعون الى تنوير أفكار الناس ويعلمونهم معنى الحرية وشرف المعارضة وشهامة ابداء الرأي وفضيلة قول الحق ودحر الباطل.
“والمشكلة كما ذكرتُ آنفاً أن فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمارُ الأرضَ والناس والديار، لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضرب عشواء كثور هائج أو مثل فيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال. وكأنما يُستَحَق على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة: ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ”
يمكن أن يكون الاستبداد الفاحش مولدا للفتنة والثورة اذا ما ارتكبت الدولة المستبدة الأخطاء القاتلة التالية:
– هدر الحقوق والمس بمستلزمات الحياة، وبالتالي يولد ظلم المستبد الانتقام.
– خسران الحروب الحاسمة.
– موالاة الحكومة لأعداء الأمة.
– تظاهر الحكومة بإهانة الدين والاستهزاء بالمقدسات.
– ارتفاع الضرائب والجبايات وقلة الموارد.
– حدوث مجاعات وكوارث وتقصير الحكومة في الاغاثة.
– التفاوت في المداخيل وغياب المساواة في الرزق.
– التضييق على الحريات وتظاهر النساء والأطفال.
على هذا الأساس يقلب الاستبداد الحركة نحو الترقي الى والحياة الى حركة هبوط نحو الموت والانحلال وذلك لأن الاستبداد عدو لدود للحركة والترقي وهو العائق السالب لإرادة الانسان التائقة نحو الحرية. ولذلك يقف الاستبداد المحتوم الى جانب المشيئة الكونية والعجز الطبيعي عائقا أبديا أمام الترقي وموقعا الفرد والمجتمع في مستنقع القهر السياسي والتوتر النفسي ويجعل الأمة تجنح نحو طلب التسفل والتأخر وتتلذذ بالظلام والشقاء والألم وتقبل ما يحل بها من نقمة وظلم راضخة مستكينة دون انزعاج أو حراك.
من تبعات الاستبداد نجد الظلم وهو أشد من الكفر وذلك لأن”أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظلم الذي فشا فيكم ثم قتل النفس ثم وثم…ان تغيير منكر بالقلب هو بغض الملتبس به بغضا في الله…وان من يعامل ظالما هو فاقد الإيمان” و” كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته، وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته وأكثر ما تختتم حياة المستبد بالجنون التام”
ان أسرى الاستبداد هم مساكين لا حراك فيهم وموتى الاحساس ومحنطي الادراك وعديمي الأخلاق. كما يلازم الاستبداد الأمة ملازمة الغريم فيفعل فيها دهرا طويلا الى أن تبلغ حطة البهائم فلا يعود يهمها الا حفظ حياتها الحيوانية، وحتى هذه الحياة الأخيرة يخترقها الدنيئة يخترقها الاستبداد بصفة ظاهرة أو خفية. وبالتالي يكون الاستبداد هو العلق الذي يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة.
اللافت للنظر أن الكواكبي تفطن الى الاستبداد الذي ما يزال يمزق الغرب على الرغم من ادعائه الديمقراطية والحرية ، ” لقد وعى الكواكبي ما أصاب المجتمع الغربي على العموم…ان الاستبداد الذي تفرضه حكومات هذه المجتمعات قد تحول من استبداد في الداخل الى استبداد على الخارج، على المستعمرات أو على المحميات، والى نهب لخيرات أراض محتلة هنا وهناك…”
عن موقع انفاس