تؤكد الحروب القٓبٓلِية والطائفية التي شهدها العالم العربي الإسلامي على امتداد تاريخه أن مجتمعات هذه المنطقة من المعمور لا تعير أدنى اهتمام لمستقبل بلدانها، حيث يبدو اليوم أنها تعيش على هامش التاريخ، بل داخل زمن خاص بها لا صلة له بالحاضر ولا بالتطورات التي عرفتها البشرية خلال القرون الخمسة الماضية، في أعقاب النهضة الأوروبية وحركة التنوير والحداثة، إذ كانت المجتمعات الآنفة – وما تزال – مهووسة بواحدية الطائفة والقبيلة، ما جعلها مأخوذة بالسلطة والهيمنة على أفرادها في عقر داخلها وعلى غيرها، خارج حدودها، ومن ثمة فهي ترفض التعدد والتنوع والاختلاف، وقيَم الحياة وحريات الإنسان وحقوقه في المعتقد والتفكير والجسد،إضافة إلى عدم اهتمامها بقضايا الفقر والبطالة والبيئة….
ولقد دفعت النزعات القبلِية والطائفية اليوم إلى حدوث ما سمِّي ب “ثورات الربيع العربي”، ولكن تلك الانتفاضات لم تكن سوى رغبة في العودة إلى “مثال ” قائم في الماضي، واستعادة مجد غابر يستحيل أن يكون حاضرا ما عدا في “الرغبات” و”الاأهواء”، لأنه يتناقض مع الواقع الحي، وبذلك كانت تلك “الحراكات» في الواقع عملا يستهدف قتل العقل والخيال والإبداع، وقتل الإنسان ذاته في نهاية المطاف.
وتجدر الإشارة إلى أن تلك الثورات أهملت الاستفادة من الدروس التي يحفل بها التاريخ العربي الإسلامي، حيث كان العرب المسلمون ينقسمون ويمزقون وينهزمون وينهارون كلما حولوا الدين إلى أداة سياسية وأقحموه في الصراع السياسي الاجتماعي، وذلك بدءا من نهاية عصر الخلفاء الراشدين، مرورا بالعصرين الأموي والعباسي، وصولا إلى يومنا هذا، في حين كانوا يزدهرون كلما فصلوا ثقافيا بين الدين والسياسة، ووضعوا مسافة بين الاثنين.
لقد ترتب عن هذا الإقحام أن كفَّ الإسلام اليوم مع جماعات الإسلام السياسي عن أن يكون دينا، فصار شبه “حزب” سياسي. وهذا ما يدل على تدني الوعي الديني عند العرب المسلمين وعدم امتلاكهم لأي أفق حضاري إنساني…
إذا كان معنى “الثورة” هو الانتقال من حالة سيئة إلى حالة حسنة، فما سُمِّي بـ “ثورات الربيع العربي” قد حول بعض بلدان الشرق الأوسط إلى مجرد خراب، بل عمق انقساماتها من خلال ما عرفته من حروب طاحنة واقتتال نجم عنها تفتيت بعض الأوطان وخرابها وتبخرها…
إن الإيمان الأعمى بالواحدية السياسية والطائفية هو ما حال دون تفكير هذه المجتمعات في تمت الإشارة إليه أعلاه، وحال بينها وبين وضع بنيتها الذهنية وآليات تفكيرها وواقعها المعاش تحت مجهر التحليل والمراجعة والنقد، مع أنَّ هذا الهيام بالسلطة الطائفية في ارتباطها الكامل بالنزعة القٓبٓلِية قد أحدث لدى هذه المجتمعات وزعاماتها هياما بالكراهية والعنف والطغيان والشمولية، وتسبَّبَ في الواحدية السياسية، فتحولت المجتمعات العربية الإسلامية إلى بؤر للأمراض والعنف والانقسام والحروب، كما حال بينها وبين القدرة على مواجهة أوضاعها المزرية في كافة القطاعات: مستوى معيشة الفرد، الاقتصاد، التعليم، الصحة، الديمقراطية، الحرية، الإنتاج المادي والعلمي والمعرفي والروحي، وما إلى ذلك.
ونتيجة هوس الزعامات الطائفية والقَبَلِية بالسلطة والهيمنة في هذه المنطقة، فقد حدثت الطامة الكبرى متمثلة في سقوط هذه الزعامات في التبعية لأجنبي، من خلال الاستنجاد به، وهو ما أدى إلى تدمير بعض الأوطان وتفكيكها، الأمر الذي شكل استعمارا جديدا، بل انتحارا.
بناء على ما سبق، يجب اليوم مواجهة كل ما يجعل الإنسان في هذه المجتمعات القٓبٓلِية والطائفية مجرد أداة لتحقيق ما ترغب فيه زعاماتها من أهداف سياسية ومادية. في حين الإنسان هو الغاية، بل هو غاية الغايات، ومن ثمة يجب أن يكون كل شيء من أجله وأن يُسخر كل شيء لخدمته. فالدين نفسه وُجِد من أجل الإنسان، لكن الإنسان أصبح في هذا العالم العربي الإسلامي في أيامنا هذه أحط مرتبة من كل الأشياء.