لقد تتبعنا التطورات الاقتصادية في العالم وتأثيراتها السياسية التي أفرزت منطقا جديدا تحكم إلى حد بعيد في الاختيارات الانتخابية في السنين الأخيرة. لقد برزت تطلعات شعبية طامحة إلى تغيير وتجديد النخب السياسية بتعبيرات عاطفية تروم إلى المحافظة والحماية الذاتية. وقد توجت هذه الاختيارات بصعود نجم التيارات السياسية ذات النزوع نحو أقصى اليسار أو أقصى اليمين أو خطابات جديدة تنكرت لأطروحة التناوب الديمقراطي وللجدلية الدائمة التي ميزت التاريخ الفكري والسياسي للإنسانية، والتي تمحورت دائما حول إنتاج القيمة المضافة والعلاقة بين العمل والرأسمال. لقد فاز السيد ماكرون بالرئاسة رافعا شعار “فرنسا إلى الأمام”، وفاز السيد ترامب بالرئاسة كذلك بمنطق “الحمائية” والدعوة إلى مراجعة الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية أو متعددة الأطراف أو الدولية لربح الوقت، واختارت شعوب أخرى الشخصيات التي لا ترى من حل للمعضلات الاجتماعية سوى اللجوء إلى المنطق الأمني خصوصا ضد الأجانب…. في نفس الآن تعالت أصوات رواد تيارات الاشتراكية الديمقراطية للتفكير في رؤية جديدة في السياسة والاقتصاد….. وقرر شعب انجلترا عبر الاستفتاء الخروج من الإتحاد الأوروبي معربا عن تخوفاته من تفاقم إشكالية الهجرة غير الشرعية،… والحوار أوربيا في شأن “بريكست” على أشده، برزت في الواجهة دعوة ماكرون للأوروبيين إلى خلق منظومة عسكرية دفاعية مشتركة…
إنها التطورات، التي جعلت اليوم من سؤال “الحمائية” الاقتصادية والثقافية سؤالا متداولا، ومحورا رئيسيا في إعداد الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسات العمومية، وشعارا مؤثرا احتكرته التيارات الشعبوية واستثمرته في تصريحاتها لاستمالة أصوات الناخبين.
إنه واقع عالمي جديد جعل المنظمة العالمية للتجارة أكثر انهماكا في معالجة شكايات الدول في شأن الممارسات اللاتنافسية (Anticoncurrentielle)، أكثر من مهامها الأساسي في تحرير الأسواق وتأهيل اقتصاديات الدول النامية بالشكل الذي يجعل التنمية آلية للحد من الهجرة غير الشرعية. لقد اشتد الصراع سياسيا كذلك على صعيد البلد الواحد ما بين الاقتصاديين الموردين والمستوردين لبعض السلع سواء المصنعة كليا (Produits finis) أو جزئيا (Produits semi-finis)، ومصنعيها محليا. وكما تتبعنا على مستوى منابر الإعلام وطنيا ودوليا صراع الصين والولايات المتحدة الأمريكية في شأن استيراد هذه الأخيرة للحديد والصلب والألمنيوم. كما برز على صعيد الدول النامية صراعات مماثلة كالتي نشبت بين المغرب وتركيا في شأن نفس السلع ومواد أخرى كالورق والسيراميك….
لقد عبرت مجموعة من الدول، مستحضرة القوانين المؤسسة للمنظمة العالمية للتجارة، عن رفضها لبيع السلع والمواد بأسعار أقل من ثمنها محليا (Anti-dymping)، مدافعة عن حقها في بلورة خطط دفاعية في مجال الحماية التجارية، وجعلها خيارا استراتيجيا بدون المس بمبدأ الانفتاح الاقتصادي والتنافسية الشرعية الشريفة. كما تم ترديد هنا وهناك الدعوات إلى إعادة النظر في محتوى الاتفاقيات الاقتصادية، ومراجعة الأسس التي بنيت عليها التجمعات الجهوية. وهناك من اعتبر لجوء الدول العظمى إلى التنكر لتعاقداتها الاقتصادية السابقة ما هو إلا خطة لربح الوقت، لتوفير مقومات جديدة لاقتصادياتها والرفع من قوة تنافسيتها. فالولايات المتحدة كنموذج أصبحت بطلة عالمية في السياسات الحمائية في مجال التجارة العالمية. لكنها، في نفس الوقت وعلى عكس عدد كبير من الدول الأخرى التي لجأت لنفس الأسلوب، فهي بطلة في مجال البحث العلمي والتنمية. لقد ثبت بالأرقام أن عدد الاختراعات والابتكارات والشواهد المرتبطة بها بلغ مستوى قياسيا، وأن حجم الميزانيات المسخرة في هذا المجال يجسد بجلاء الإرادة السياسية لكل الفاعلين بها لرفع رهان التحدي المستقبلي والقاضي بتقوية مناعتها وقدرتها على مواجهة منافسين أشد شراسة من السابق.
والعالم يعيش زمن التغيرات في منطق السياسات الاقتصادية، يعيش بالموازاة أشكالا جديدة من التحركات النضالية العفوية الخارجة عن الأنساق السياسية وفاعليها التقليديين. لقد تابعنا كيف طفا على سطح الأحداث السياسية بفرنسا تحركات “حاملي الصديات الصفراء”، وتوافد الألوف من المهاجرين من بلدان أمريكا اللاتينية في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية ،….. أما على المستوى الفكرى، فهناك دعوات متعددة لتعميم التأمل في قضايا الحاضر والمستقبل سواء في اتجاه الإصلاح أو التغيير، وبالتالي إنضاج توافقات عالمية لبناء نسق اقتصادي وسياسي بمنطلقات متجددة تستمد مقوماتها من دروس تراكمات الإنسانية، نسق يجنب العالم من الفوضى واحتمال نشوب حروب جهوية بالنيابة، حروب قد تتطور بسرعة، بفعل انسداد الآفاق عند هذا الطرف أو ذاك، وتتحول إلى حرب عالمية ثالثة، تقضي على الأخضر واليابس.
الاثنين : 03 نونبر 2018.