عبدالقادر الدربوش ، فنان تشكيلي يعوم في العتمة الجليلة و المرغوبة ، لا يحب الضوء مع أنه يصنع الضوء بامتياز في أنامل من ضوء … فنان تشكيلي راكم لحد الآن – و أنا أتابعه خلسةً في مرسمه المفرد – مجموعةً من الأعمال التي تشتغل داخل نسق فني واعد بالاختلاف و الأصالة و القدرة على اخترام المشهد الفني المغربي في بؤره المركزية عبر بوابة الإبداع الوازن و المدهش و الذي لا يكرر ، بقدر ما يضيف إلى الحساسية الفنية المغربية مزيدا من الأسئلة القوية في عالم الاصباغ و التشكيل .
اخترتُ من معرضه الجليل لوحةً ، أو بعبارة أصحّ ، اختارتني اللوحة ، أن أبادلها مراسيم الإعجاب … فَوجدتُني أقرب إلى العمق العامر باللغز منه إلى المعنى … و إلى الخطاب التشكيلي منه إلى المبنى المسطح الواهب دلالاته في عجالة استهلاكية بليدة تدغدغ بصر الزائر و المتفرج بدل مساءلة بصيرته …
و المساءلة هي بؤرة التشكيل في هذه اللوحة المعبرة لا العابرة ، المقيمة في نسغ رؤيتنا ، بطرح فني ذكي يتلاعب بتمثلاتنا البسيطة لمفهوم ” الأمومة ” الذي بنته طقوس عرفية تأسر هذا الكائن الجميل في عملية واحدة هي الاحتضان التقليدي باعتباره عنوانا أوحد لعلاقة الأم بوليدها … هذا المعنى كائن في اللوحة ، لكنه مطروح في الطريق يعرفه العربي و العجمي ، الحضري و البدوي ، كما عبّر عن ذلك الجاحظُ في ثنائية اللفظ و المعنى في سياق نقدي آخر يرتبط بذاكرتنا النقدية الحرفية … و لكنه – أي المعنى التقليدي – لا يمثل إلا مطية للمساءلة ، خاصة و أن ريشة الفنان المقيمة في منطقتين مفارقتين تمام المفارقة ، بين وعيه و لا وعيه ، تقول لنا أشياء أخرى ، لا أدّعي أنني أمتلك الأجوبة الصارمة و الوحيدة عنها … على اعتبار أن تأويلي ليس هو التأويل ، و قراءتي ليست هي القراءة …
اختارت هذه الريشة أن تطمس ملامح المكونات الإنسانية في هذا السياق الفني التشكيلي بوعي ، و في مقصدية قوية ، ترغب في مراجعة المنظور العلاقي الإنساني بين الحاضن و المحضون في أفق أسئلة حارقة مارقة : لماذا تغييب الملامح لكل من الأم و الوليد ؟ لماذا ، و أكبر من ذلك ، تغيير ملامح الوجه الإنساني في لبوس بهلواني باعث على أكثر من سؤال … هل الوجه هنا وجه ضاحك ؟ و هل هو ضحك فيزيائي عضلي أم ضحك أسود يمتح مصداقيته من الماحول الباعث على السخرية ؟ و هل هذا الكائن المتغير في ملامح وجهه يمثل ذاته أم يمثل قيمة إنسانية واسعة الامتداد ؟ و هل هذا المحضون القابع الرابض في حجر الأم هو واقع أم مثال ؟ و هل هو إنسان أم رمز ؟ و هل هذا المحضون ملفوف برعاية حميمة ، أم محنط في بكائية سوداء ؟ و هل الموت هنا لغة اللوحة أم الحياة ؟ و إذا كانت الحياة هل هي حياة نكرة كأي حياة هامشية أم حياة بأل معرفة تفيد أنها تستحق أن تكون ؟ و هل العلاقة بين الكائنين علاقة مباشرة أم انزياحية ؟ … أكاد لا أجيب عن هذا التراكم من الأسئلة حتى لا أخترم عنف اللوحة في طرحها الأبعادي الدلالي الموسوم بالانفتاح باعتبارها نسقا فنيا قابلا للتناسل و الولادة السيميائية …
و في سيميائية اللون أكاد أجزم بأن الأزرق سيد الموقف ، في تلاوين داكنة ترسل الرسالة تلو الرسالة ، في أفق تغييب كل ماهو مشرق و شفاف و نوراني … و لو أن البياض حاضر في تشكيل العمق الإنساني للطرفين ، الحاضن و المحضون ، إلا أنه بياض مستفز ، لاختلاطه بعنف الرمادي الموسوم في ثقافة الألوان بالسلب على اعتبار أن المقولة تفيد ” إما أبيض أو أسود ، و لا معنى للرمادي ” … لكنه في سياق هذه اللوحة يحتل بؤرة التشكيل لأنه ناطق بمتاهة الأسئلة الحارقة و الغامضة … الرمادي يفيد هنا تبه التشكيل ، و بامتياز … لأنه احتل موقع التبئير لا لأنه عبر عن المكون البشري و جسد مقولة الإنسان في مواقع غامضة ، فحسب ، و لكن أيضا ، لأنه مشحون بالدلالة الزئبقية الرافضة للقبض على المعنى ، و المتحولة في انسيابية مستفزة للبصر و للمبصر ، في اتجاه خلق تمثل جديد لدي قارئ اللوحة ، في اتجاه مباغتته بضرورة القراءة خارج البداهة و التفسير الجاهز .
في قراءة اللوحة داخل الزمان ، يبخل علينا التشكيل ، بحكم طبيعته الفنية المتعاملة مع القماش ، و لو بمؤشر واحد على سيرورة هذا الزمان ، لكن التأويل السيميائي لعلاقة الأصباغ بعضها ببعض ، في سياق قرائن موضوعية ، يفيدنا في القبض على بؤر هذا الزمان … هل هو الزمن المغربي ؟ لو أجزمتُ بذلك لكذبتني مقولة الأشياء الغائبة هنا ، و يتعلق الأمر بكل مؤشرات الثقافة المغربية ، الدالة على خصوصية اللوحة ، ، ذلك أن الفضاء هنا غير مؤثت بما يدل على هذه الخصوصية ، و بالتالي أمكن القول ، إن اللوحة تتغيى المساءلة في الزمن الكوني الإنساني الواسع ، من هنا خروج الصياغة التشكيلية من المحلي إلى الإنساني في أفق المساءلة العميقة و الحاضنة للإنسان بعيدا عن لونه أو عرقه أو دينه … و بالتالي انسابت ريشة الفنان و مالت إلى التلاعب بالأزرق الضبابي ، و الرمادي الغامض ، و الأصفر الشاحب ، و البنفسجي المتخفي … هكذا نربح مع المبدع قدرتنا على القبض على حقلٍ دلالي تشكيلي يرتبط بطبيعة اللون المائلة إلى الإعتام بدل الإشراق ، في وعي فني يريد أن يقول لنا أشياء دون أن يفرضها علينا ، و يريد أيضا أن يدعونا إلى وليمة الألوان كي نمارس حقنا في التأويل..
الخميس 29 نونبر 2018.