طبيعة المنهج القرآني : (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).
يعتبر المنهج القرآني عند سيد قطب قد حقق وجوده الفعلي لأول مرة في المرحة “المكية” من تاريخ حياة المسلمين كما بينا سابقاً. هذا المنهج الذي جاء أساساً لمعالجة قضية أولى وكبرى وأساسية في هذا الدين الجديد, هي قضية (العقيدة), ممثلة في قاعدتها الرئيسة (الإلوهية والعبودية وما بينهما من علاقة). (1)
إن الله وفقاً لهذا المنهج, كان يخاطب الإنسان بما أنه إنسان يستوي فيه العربي مع العربي في كل زمان ومكان, كما يستوي فيه العربي مع غيره في كل زمان ومكان أيضاً. إنه إنسان “العقيدة” بغض النظر عن مرجعيته العرقية أو الوطنية. والعقيدة عنده قضية وجود الإنسان التي لا تتغير في هذا الكون, وقضية مصيره, وعلاقته بالكون وبهؤلاء الأحياء, وكذلك قضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء.
يقول سيد قطب : عن هذا القرآن (المكي): بأنه كان يفسر للإنسان سر وجوده, ووجود الكون من حوله, كان يقول له من هو؟, ومن أين جاء؟, ولماذا جاء؟, وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟, ومن ذا الذي جاء به من العدم المجهول؟, ومن ذا الذي يذهب به, وما مصيره هناك؟.
كما كان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه, والذي يحس وراءه غيباً يستشرفه ولا يراه؟. ثم من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟, ومن ذا الذي يدبره ويجدد فيه ويغيره على النحو الذي يراه؟. وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع عباد الله من أمثاله.
إذاً هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها الوجود الإنساني, والتي حدد المنهج القرآني مساراتها كلها لهذا الإنسان الذي لم يعد له أي دور في كشفها أو كيف يتعامل معها, لأن كل شيء قد حُدد له بشكل مسبق وما عليه إلا الاستسلام والامتثال والتنفيذ لأوامر هذا المنهج.
بيد أن المسألة الأكثر أهمية عند “قطب” هي, أن الجيل الأول (المكي) قد استوعب هذه القضية الكبرى بكل معطياتها التي جئنا عليها, واستقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان التي قدر الله أن يقوم هذا الدين آنذاك عليها وبها, وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين. متناسياً قطب هنا بطبيعة الحال أن هذا الإنسان المثالي الذي جرده من كل خصائص الإنسان الواعي والحائز على حريته, هو ذاته من كان وراء الفتنة الأولى في الإسلام (مقتل عثمان), و كان وراء الفتنة الثانية (حرب الجمل). وكان وراء حرب صفين وظهور الصراعات الدامية على السلطة, كما نسي تلك الاختلافات بين أفراد ذاك الجيل حول تفسير القرآن وحتى خروج بعض الصحابة أو التردد عن طاعة الرسول, وغير ذلك من خلافات في قضايا العقيدة ذاتها التي اعتبرها “قطب” ذاك الدليل الذي على الإنسان أن يستسلم له كلياً, ناسياً أو متجاهلاً أيضاً مسألةعلى درجة عالية من الأهمية هنا, وهي ذاك الصراع الدامي بين أفراد هذه العصبة بسبب الخلاف بينهم حول جوهر العقيدة في مسائل مثل: هل الإنسان مسير كما قال القدرية المعتزلة, أم مخير كما قال الجبرية؟, وهل هناك تجسيد للصفات أم ليس كمثله شيء؟, وهل الخلافة بالوصية أم بالانتخاب.؟. وغير ذلك من قضايا خلافية ورثها لنا الجيل الأول لم نزل نعيش نتائجها الوخيمة حتى هذا التاريخ.
مسألة “الألوهية”:
ثم ينتقل سيد قطب في هذا السياق إلى مسألة “الإلوهية” حيث يرى بأن حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تشتغل عليها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة, وأن يبدأ الرسول منذ خطواته الأولى بدعوى الناس أن يشهدوا : ( أن لا إله إلا الله), وهو بدعوته هذه يريد إقناعهم أو ترسيخ فكرة أن الإلوهية تعني ” حاكميه الله”, التي تعني كما أشرنا في موقع سابق أنها نزع السلطة أو السلطان الذي يزاوله الكهان ومشايخ القبائل والأمراء والحكام, وإقرارها لله وحده, كونه السلطان الوحيد على ضمائر الناس وشعائرهم وواقعيات حياتهم ومالهم وقضائهم وأرواحهم وابدأنهم. أو بتعبير آخر إن (الألوهية ) ودور الرسول محمد (ص) في تطبيق دلالاتها ممثلة بـ (لا إله إلا الله), كما يراد لها, بان لا حاكميه إلا لله, ولا شريعة إلا لله, ولا سلطان لأحد على أحد إلا سلطان الله, وأن ما يقوله الرسول هو ما يريده الله ويأمر به: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}).- الحشر – 7. وأن الجنسية الخاضعة لهذه الحاكمية هي (جنسية العقيدة), التي يتساوى فيها البشر جميعاً تحت راية:(لا إله إلا الله).
إن الدعوة الإسلامية بصيغتها التي جئنا عليها كما يراها قطب, ليست دعوة اجتماعية ترمي إلى نشر العدالة فحسب, أو هي دعوة أخلاقية ترمي إلى الخلاص من الأخلاق الجاهلية أيضاً, وإنما هي دعوة دينية تتولى شؤون الحياة الإنسانية كبيرها وصغيرها, وهي تنظم حياة الإنسان في الدنيا والآخرة وعالم الغيب. ولقد جاءت هذه الدعوة لتتعامل مع عالمه المادي وأعماق ضميره ودنيا السرائر والنوايا عنده .. إنها مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية كما يراها قطب.(3) .
إن هكذا عقيدة تقوم على مقولة (لا إله إلا الله), وتمتاز بهذه السمات والخصائص, لا يمكن أن تتحقق عبر الواقع ما لم تستقر في أعماق نفس وعقل الإنسان المعتنق لها, وهذا الاستقرار لا يأتي إلا مع استسلام النفوس لنظامها, وحتى قبل أن تمر عليه تفصيلاتها وتشريعاتها. فالاستسلام أو الامتثال والتسليم المطلقين ابتداءً هما مقتضى الإيمان.. وبمثل هذا الاستسلام تتلقى النفوس فيما بعد كل تلك التفصيلات والتشريعات بالرضا والقبول, دون اعتراض أو تلكؤ عن أي شيء عند صدورها إلى المسلم .
أما القضية الأخرى من جانب هذا الدين كما يراها سيد قطب, فهي اعتبار المنهج الديني منهجاً حركياً, حيث يرى: ( بأن هذا الدين جاء ليحكم الحياة في واقعها ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره…ويقره ..أو يعدله.. أو يغيره من أساسه.. ومن ثم فهو لا يُشرع إلا لحالات واقعة فعلاً, في مجتمع يعترف ابتداءً بحاكميه الله وحده.). (5).
فالدين عند قطب إذاً ليس نظرية تتعامل مع “فروض” كما يقول سيد قطب, بل هو منهج يتعامل مع “واقع” وفقاً لحاكميه الله, وهذا يعني أن الدين يرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه الحاكمية أو يعتمد على أوامرها الواردة في (القرآن). وبهذا تُلخص مسألة الحاكمية هنا تطبيقاً وفقا للواقع الملموس المتحرك والمتبدل الذي وجدت حلوله بشكل مسبق في هذه العقيدة (الواقع للدين وليس الدين للواقع) . فالمجتمع عندما يقوم فعلاً كمجتمع إسلامي تكون له حياته الواقعية, وهذه الحياة تحتاج إلى تنظيم وتشريع, عندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وسن الشرائع لقوم مستسلمين أصلاً للنظم والشرائع المقررة بشكل مسبق في القرآن, ورافضين لغيرها من النظم. أما السلطان الذي يفرض تطبيق هذه الشرائع فهو العقيدة التي استقرت في قلبه وضميره ووجدانه واستسلم لها أصلاً . لذلك نرى سيد قطب في هذا الاتجاه يعيب على الذين يريدون من المسلمين أو غيرهم من الكفار أن يغيروا أو يجعلوا من العقيدة ومنهجها ما يداري أو يناقش أو يقارن معرفياً ما بينها وبين النظريات الوضعية (الجاهلية), كي تلبي هذه العقيدة رغبات وقتيه لديهم أو في نفوسهم. فهذه الرغبات عند قطب, تشكل في حال قبولها هزيمة داخلية روحية أمام أنظمة بشرية صغيرة, يريدون منها صياغة نظريات وفروض تواجه مستقبلاً غير موجود. (6) . وبالتالي فإن الدعوة لإنشاء هذا الدين وفقاً لسيرته الأولى النقية, يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين, وتشهد لهم شهادة الميلاد بأنهم مسلمين, يجب أن يعلموا أن الإسلام هو ( أولاً ) إقرار عقيدة: (لا إله إلا الله), بمدلولها الحقيقي, وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله, وطرد المعتدين على سلطان الله بإدعاء الحق لأنفسهم, وإقرارها في ضمائرهم وشعائرهم وأوضاعهم وواقعهم. (7 ) .
يقول سيد قطب في مسألة نشأة المجتمع المسلم وخصائصه معتمداً في ذلك عل كتاب “مبادئ الإسلام” لأبي الأعلى المودودي: إن الناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم وحياتهم وموتهم, كما أنهم حتى في فطريتهم هذه محكومون بالقوانين الإلهية في حياتهم الاجتماعية, و كذلك عواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية. أي هم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه,. وبالتالي عليهم أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمية في كل شأن من شؤون حياتهم, تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري. وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني. (8).
إن موقف سيد قطب من قضية حرية الإرادة كما جاءت هنا تذكرنا بموقف الأشاعرة من هذه المسألة في نظرية (الكسب), التي تقول إن الله قد أعطى الإنسان حرية الاختيار والممارسة, إلا أن هذه الحرية مقدرة من عند الله بشكل مسبق في اللوح المحفوظ. وهذا هو الجبر بذاته وإقصاء حرية وعقل الإنسان.
يقول سيد قطب أخيرا في مسألة طبيعة المنهج القرآني: ( إن التصور الإسلامي للإلوهية , وللوجود الكوني, ولحياة الإنسان, هو تصور شامل كامل, ولكنه تصور واقعي إيجابي, وهو يكره – بطبيعته – أن يمثل في تصور ذهني معرفي, لأن هذا يخالف طبيعته وغايته, ويجب أن يتمثل وينمو في بيئة (طليعة), وفي تنظيم حي, وفي حركة واقعية.. وطريقة في التكوين..) (9) .
إذاً إن ما يرمي إليه هنا سيد قطب هو وجود تنظيم (حزب) له حوامله الاجتماعية (الصفوة) المؤمنة إيماناً مطلقاً بالحاكمية, وتعمل على تطبيقها وتحمل مشاقها وعنائها وكل ما يمكن أن تتعرض له من الطاغوت وحياة الجاهلية المترسبة في نفوس الناس. وهذا التنظيم وصفوته هو حزب (الإخوان المسلمون). الذي يعوّل عليه سيد قطب بناء الدولة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي الذي أجد في توصيفه من قبل سيد قطب توصيفاً يقترب كثيراً من توصيف الشيوعيين لمجتمعهم الذي يحلمون بإقامته.. فسيد قطب يجد أن المجتمع الإسلامي المتفوق (الأممي), الذي لا يميز بين العربي والفارسي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والاندونيسي والأفريقي.. هؤلاء الذين سيجتمعون كلهم على قدر المساواة وبآصرة الحب, وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فسيبذلون جميعهم أقصى كفاياتهم, ويبرزون خصائص جنسهم, ويصبون خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة, وتجمع بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد, وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق, وهذا ما لم يجتمع قط لأي مجتمع آخر على مدار التاريخ.
أما الفرق بين هذا المجتمع الإسلامي المثالي المتصور من قبل سيد قطب والمجتمع الشيوعي المتصور من قبل الشيوعيين فهو المجتمع الذي يختلف فقط عدند سيد قطب بأن (الشيوعية تريد إقامة مجتمعها على أسس طبقية من جهة. ومن جهة ثانية هو مجتمع لا يبحث إلا عن الطعام والمسكن والجنس).. (10) وسيد قطب هنا في مسألة رفضه للمجتمع النظيف طبقياً – بغض النظر عن إمكانية إقامته أو عدمها – فهو ممن يؤمن بوجود الطبقات في المجتمع, وبوجود العبودية وما ملكت أيمانكم, وفرض الجزية على الموالي واعتبار المرأة ضلعاً قاصراً وغير ذلك من قضايا لا تتفق مع مفهوم العدالة والمساوة التي ينادي بها. إنه يتناقض في طرحه مع مسألة العدالة والمساواة المطلقة التي ينادي بها, أو إقراره بأن هناك عدلاً آخر في المنهج الإلهي الذي يطالب به يختلف عن عدل مجتمعات الجاهلية. أما قضية أن المجتمع الشيوعي الذي يقول عنه بأنه مجتمع لا يبحث إلا عن (الطعام والملبس والجنس), فهذه مسألة فيها الكثير من التجني على التصور الشيوعي وما يريده من قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية, بغض النظر عن فشل هذه التجربة في التاريخ.
هكذا نجد عند قطب هنا, التنظير المجرد لبناء دولة فاضلة, لا ينتمي شعبها لأي مرجعية قومية أو وطنية أو فكرية وضعية كانت… التنظير لبناء دولة لم يزل شعبها أو إنسانها برأيه يعيش حالات من الجاهلية المشبعة بظلم الإنسان واستلابه وضياعه, تقوده سلطات جاهلية ظالمة, تحكم بأنظمة ونظريات تشرع لقوانين وتشريعات جاهلية. والحل الوحيد عند قطب كما بينا أعلاه, لخروجها من هذه المتاهة هو العودة إلى التمسك من جديد بالنهج الإلهي القائم على إلوهية الله (لا إله إلا الله), الذي أقره القرآن في المرحلة المكية من حياة الإسلام, وبالركن الثاني من أركان الإسلام وهو شهادة ( أن محمداً رسول الله), المعني بتبليغ هذه الحاكمية.
إن مرحلة الصحابة من الجيل الأول الذي اعتقد قطب ومن سار على نهجه وهماً, بأنهم قد تمثلوا هذا المنهج القرآني فكراً وممارسة بعد أن استلهموه واستسلموا له كلياً برضا, وتخلوا عن جاهليتهم وكل ما يتعلق بحياتهم المادية والفكرية السابقة, وجذروه في أعماق ضميرهم ووجدانهم وفكرهم, وجعلوا من حاكميه الله المصدر الوحيد الذي سيحدد لهم كل مسار حياتهم حاضراً ومستقبلاً, وما تتخلله شؤون حياتهم الإنسانية كبيرها وصغيرها.. إن المنهج ذاته, أي – الحاكمية – هو ذاته سيظل قائماً إلى أبد الآبدين ينظم حياتهم في الدنيا والآخرة وعالم الغيب, وذلك عبر قيادة صفوة ممن وجدوا في أنفسهم القدرة على تمثل قيم الحاكمية والصبر على نشرها وتحمل تجسيدها في الواقع, وهم طليعة (الأخوان المسلمون).
يتبع في الحلقة التالية.
* د .عدنان عويد كاتب وباحث من ديرالزور- سورية
الهوامش
1- – سيد قطب – معالم في الطريق – مكتبة وهبة – القاهرة – دون تاريخ نشر. – ص 20
2- المرجع السابق-ص 32
3- المرجع السابق ص 33
4- المرجع السابق ص 35
5- المرجع السابق ص 35
6- المرجع السابق ص 47
7- المرجع السابق ص41
8- المرجع نفسه ص 41
10- المرجع السابق –ص 54