في الوقت الذي تتطلع فيه بعض شعوب العالم إلى أن تنعم بلدانها بمزيد من الرقي والازدهار، والأمن والاستقرار، نجد كثير من أبناء الشعب المغربي لايخفون ابتهاجهم لارتفاع منسوب الاحتقان، تعدد الأزمات، تصاعد وتيرة الإضرابات، اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية بجميع الجهات والانفلاتات الأمنية، جراء ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من تدهور صارخ، في ظل حكومة تساهم في تعقيد الأمور أكثر من البحث عن حلول لها، وتتخذ من القرارات الجائرة ما يعاكس إرادة المواطنين ويؤجج نيران الغضب في صدورهم.
فقد نتفهم أحيانا على مضض فقدان بعض المواطنين في لحظات ضعف وسخط، ذلك الشعور النبيل بانتمائهم إلى الوطن والاعتزاز به، وصبهم جام غضبهم على الحكومات المتعاقبة، متمنين انتشار الفوضى وانفجار الأوضاع انتقاما من أصحاب القرار. ونتفهم لجوء الكثيرين إلى مقاطعة منتوجات استهلاكية، كما نتفهم تنامي الوقفات والمسيرات الاحتجاجية والإضرابات الوطنية والقطاعية، بالنسبة للأساتذة المتعاقدين ومهنيي النقل الطرقي للبضائع وغيرهم، بسبب تجاهل حكومة العثماني لمطالبهم المشروعة. ونتفهم أيضا وضع طبيب استقالته احتجاجا على المضايقات وسوء المعاملة، لكن يصعب استساغة موجة الاستقالات الجماعية المباغتة، التي همت إلى الآن حوالي 180 طبيبا من القطاع العام.
والاستقالة في سائر القوانين الدولية، هي أحد أسباب انقضاء العقد الرابط بين الموظف والإدارة قبل الآجال المحددة. وتخضع لعدد الموظفين الراغبين في تقديمها. إذ يمكن أن تكون فردية أو جماعية متى ما قدمت من طرف مجموعة موظفين، كما هو الشأن بالنسبة للأطباء الذين نحن بصدد الحديث عنهم. علما أن الأصل في الاستقالة، هو أن تقدم بشكل منفرد من قبل موظف/طبيب بطلب خطي وموقع. وبإمكان عدد من الموظفين الاتفاق فيما بينهم لأسباب مشتركة أو بإيعاز من النقابة المنضوين تحت لوائها، والتي ليست هنا سوى النقابة المستقلة لأطباء القطاع العام، التي تسعى إلى ممارسة الضغط على الوزارة الوصية بهدف جرها إلى الحوار، والاستجابة الفورية إلى ملفها المطلبي العادل.
والاستقالة الجماعية تعد الأكثر ضررا بين الاستقالات الوظيفية، لما لها من آثار سلبية على سير المرافق العامة، وانعكاس ذلك على حياة المواطنين. وقد انتبه المشرع في عديد البلدان إلى مدى خطورتها، وما عساه أن يترتب عنها من عواقب وخيمة، فسارع إلى منعها معتبرا أنها جرم يعاقب عليه القانون، فضلا عن أنها أمر فردي وحق من حقوق الموظف، إلا أن لها حدودا وقيودا تنظمها ولا يجوز تجاوزها، كأن تتحول إلى سلوك جماعي بغرض خوض معركة كسر العظم ضد الإدارة والإساءة إلى صورة البلاد…
فلا أحد بمقدوره أن ينفي الوضع الكارثي الذي آلت إليه منظومتنا الصحية، وجعل الأطباء يفقدون حماسهم والقدرة على مواصلة العمل في ظروف سيئة، ويلوذون بالاستقالة الجماعية بعد أن ضاقت بهم السبل في إيجاد حلول لما تراكم من مشاكل، حتى وإن كانوا يعلمون أن الوزارة الوصية ستضع أمامهم من العراقيل ما يحول دون قبولها. إذ صار الجميع مقتنعا بما يعتور القطاع من أعطاب واختلالات بنيوية وهيكلية عميقة ومزمنة، فحالة المستشفيات ما فتئت تتفاقم بشكل رهيب نتيجة تظافر عدة عوامل مادية وبشرية ولوجستيكية، رغم أنها تستنزف أزيد من ثلثي ميزانية الوزارة. حيث تحول معظمها إلى بنايات بدون روح وذات آليات طبية معطلة، منشآت وبنايات تفتقر إلى أدنى مواصفات المراكز والمؤسسات الصحية الإنسانية والاجتماعية، وتعوزها أبسط شروط الصحة والسلامة المهنية وسلامة المرضى، مما أدى إلى تدني مستوى الخدمات وضعف جودتها.
وللأطباء أن يتذمروا ليس فقط من أوضاعهم المادية غير المتناسبة مع ما يبذلونه من جهود مضنية ويقدمونه من خدمات جليلة وتضحيات نبيلة، إذ يتقاضون راتبا لا يزيد كثيرا عن معاش برلماني يقضي خمس سنوات “مسافرا”، بل من غياب الشروط المعمول بها في الدول المتقدمة، من حيث النقص الحاد في الموارد البشرية وقلة التجهيزات اللازمة، وما يتعرضون إليه من استفزازات واعتداءات لفظية وجسدية يومية، علاوة على صعوبات ولوج العلاج للمستفيدين من نظام المساعدة الطبية “راميد”، وظاهرة الاكتظاظ بالمستعجلات وانعدام المستلزمات الطبية والجراحية. ولهم أن يستاؤوا من سوء التدبير والتسيير وضعف الحكامة، والتجاوزات الخطيرة في التدبير المالي للمراكز الاستشفائية، تفشي الفساد وانتشار الفضائح المدوية، وما يصاحب الصفقات العمومية من خروقات على مستوى الأدوية واللقاحات والتجهيزات الطبية، في غياب نظام إدارة الجودة والتتبع والتقييم للخدمات الصحية وتحاليل المختبر وتدبير الأدوية، التي تنتهي صلاحيتها بالمستودعات…
بيد أن هذه الحقائق عن الوضع الكارثي لقطاع الصحة لا تشفع للأطباء تقديم استقالات جماعية، حيث لا يجوز لهم أخلاقيا التخلي عن واجبهم الإنساني تجاه آلاف المرضى، لاسيما أن مهنتهم من أرقى وأشرف المهن وأكثرها رحمة. والطبيب شخص يغرس معاني الإنسانية بين أفراد المجتمع، ويشكل القدوة الحسنة في التحلي بالقيم الأخلاقية ونكران الذات والتضحية والتكافل ومساعدة الآخرين، وتحمل الصعاب من أجل راحتهم وإسعادهم، وهو المؤهل لتشخيص الأمراض وعلاجها، والقادر على إسعاف المصابين وإنقاذ أرواح بشرية، شريطة توفر الظروف الملائمة…
نحن لسنا ضد المعارك النضالية التي يخوضها أصحابها قصد تحسين أوضاعهم لمواجهة تكاليف الحياة الصعبة، وتهييء الظروف المناسبة للرفع من مردوديتهم المهنية والارتقاء بجودة الخدمات في الصحة والتعليم والقضاء والأمن… لكننا نرفض المزايدات والإضرار بالمصلحة العليا للوطن وأبنائه، وندين بشدة تعنت الحكومة وعدم الاستجابة للمطالب العادلة للأطباء وغيرهم في باقي القطاعات.