منذ أن بدأ الإنسان يعي ذاته كإنسان, بعد أن أغوى الشيطان أو الثعبان (لا فرق) آدام وحواء, وأكلا من شجرة المعرفة كما تقول (القصة الدينية), وعرفا بأن لهما (عورة) لا يسترها شيء, هذه المعرفة التي كلفتهما غضب (الله) الذي وجد في معرفتهما تحد لأوامره وخروجاً عن طاعته, فأمر بطردهما من الجنة وإرسالهما إلى الأرض عقاباً لهما بعد أن حازا على معرفة ما هما عليه من عري, ومن يومها فُرض الشقاء والتعب والألم على بني آدم وحواء على الأرض حتى اليوم.
فالمعرفة في هذه القصة إذاً, هي سبب غضب الرب على الإنسان وشقائه كما تقول الرواية الدينية, وهي ذاتها التي ستفرض عليه بعد نزوله إلى الأرض أن يسعى في مناكبها لمعرفة أسرارها, وما يحيط بها من ظواهر طبيعة واجتماعية, وكيفية التعامل مع قوانينها العمياء والتغلب عليها وتسخيرها لمصلحته, بعد أن كان في الجنة يعيش عيشة رغد جراء جهله وطاعته العمياء. هذا في الوقت الذي ظل فيه هذا الإنسان حتى بعد طرده من الجنة إلى الأرض, حائزاً على الحظوة الخاصة عند “الله” الذي جعله (خليفة له على الأرض) بالرغم من ممارسته للفساد وسفكه للدماء حتى قبل ان ينزل إلى الأرض كما تذكر الحوارية التي جرت بين الله والملائكة!!. لقد فضله الله على الملائكة الذين خلقهم من نور ونار, وخلقه هو من طين… وهم العابدون له والمسبحون بحمده ليل نهار, والمقدسون له, والخاضعون لإرادته وتعاليمه, وهو الجاحد بنعمة الله والعاصي لأوامره والعارف بعد إغوائه حقيقة نفسه.
منذ ذاك التاريخ و(الإنسان وأخلاقه), كانا ولم يزالا محط اهتمام الديانات السماوية والوضعية فيما بعد, وكل ما يتعلق بهذه الديانات من تفريعات فكرية وفقهية, جاد بها الفقهاء والحكماء والفلاسفة. والهدف من ذلك, هو, تنبيه الإنسان إلى ما يمارسه من فساد بحق نفسه وأخيه الإنسان والطبيعة, ثم العمل على إصلاحه وتطهيره من سوء خلقه, وإعادة أنسنته بما يرضي الله وتعاليمه من جهة, وما يرضي الحالة الإنسانية التي يطمح إلى تحقيقها على أرض الواقع هؤلاء الفقهاء والفلاسفة والمفكرين والحكماء من جهة ثانية.
على العموم, تعتبر هذه الدراسة كما أشرت في البداية, محاولة أولية للنظر في ممارسات فساد هذا الإنسان كما تراها الديانات السماوي, وبشكل خاص, الدين الإسلامي وفقاً للنص القرآني أولاً, وكذلك وفقاً للرؤية الفلسفية العقلانية الوضعية لتطور الإنسان وارتقائه ثانياً, مع اعتقادي سلفاً, بأن ما سأقوله هنا أو أطرحه من حقائق تتعلق بالنص الديني المقدس تجاه قضية الفساد, لن يعجب المتزمتين, أو الجموديين من الإسلامويين الذين يرفضون العقل أو النظر العقلي في الحكم على النص المقدس, ويقرون بضرورة الاستسلام لهذا النص والامتثال لما فسره الأولون من السلف الصالح, دون البحث عن ما هو مسكوت عنه في مضمون هذا النص المقدس من دلالات من جهة, ثم رفضهم للرأي والرأي الأخر من جهة أخرى, متكئين في فهمهم للنص الديني على ما قاله فقهاء الفكر السلفي السابقين الذين اعتبروا أن كل رأي جديد لا يتفق مع ما قاله أو فسره الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين حتى القرن الثالث للهجرة, بدعة, وكل بدعة عندهم ضلالة, وكل ضلالة في النار.
الفساد كما يراه النص الديني المقدس (القرآن):
نقول: منذ البدء كان موضوع الإنسان وفساده محط اهتمام الخالق عز وجل وملائكته, وما تلك الحوارية الرائعة بين الخالق وملائكته عن أخلاق الإنسان وفساده وخلافته على الأرض, إلا دليلاً على أن هناك مشكلة كبرى ستواجه الإنسان ذاته, تتعلق بمدى التزامه بأوامر الله وتعاليمه التي جاء التأكيد في القرآن على ضرورة التزام بها وتنفيذها حتى يحقق الفوز العظيم, وهو رضا الله ودخول من يطيع تعاليمه الجنة . وما الحوارية التي دارت بين الله وملائكته حول خلافة آدم على الأرض برأي إلا تأكيداً على أن الله عز وجل يقر بضرورة الحوار وأهميته من أجل الوصول إلى الحقيقة, ثم الوصول إلى قرار نهائي في خلافة هذا الإنسان على الأرض, وبحث مشكلة الفساد التي يتمتع بها هذا الإنسان منذ البدء, أي قبل تكليفه بالخلافة, أو بعدها لا فرق هنا طالما أنه أعلن معصيته لأوامر الخالق بحصوله على معرفة ذاته العارية, والمعصية شكل من أشكال الفساد أيضاً, ولن تنفع تغطيتها لا بورق التين أو التوت أو غيرهما.
تقول الحوارية:
(وإذ قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة.
قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء, ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال: إني أعلم ما لا تعلمون. ” وعلم آدام الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة”.
فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم. “فلما أنبأهم بأسمائهم”
قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
وهنا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم,(…. فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.) . (البقرة = 30-31-32- 33- 34 ).
(قال لا بليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك.
قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال: فهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها, فاخرج إنك من الصاغرين.
قال إبليس: أنظرني إلى يوم يبعثون.
قال: إنك من المنظرين.
قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
قال: أخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين. ( الأعراف – 12-13- 14- 15- 16- 17- 18.).
بغض النظر هنا عما جاء في هذه الحوارية الرائعة بين الله جل جلاله وملائكته ومنهم (إبليس), من تأكيد واعتراف بفساد الإنسان وفسقه, إلا أن ما تطرحه هذه الحواريات, يفرض علينا جملة من التساؤلات المشروعة مثل: لماذا اختار الله الإنسان (آدم) ليكون خليفة له على الأرض وهو الفاسد والسفاك للدماء, بينما يبعد الملائكة الذين يسبحون بحمده ويقدسون له؟. ثم ما هي الدلالات المسوغة لتكليفه في الخلافة من خلال الاختلاء به وتعليمه الأسماء كلها دون علم الملائكة, ثم اعتبار عجز الملائكة عن معرفتها هي دليل على صلاحية أدام لهذه المهمة؟. ثم ما هي هذه الأسماء؟. وأخيراً كيف مارس أدام الفساد وسفك الدماء في الجنة ومع من كما اشار الملائكة؟. أما مسألة الحوار مع ابليس فلها أسئلتها المشروعة أيضاً مثل: كيف يسمح الله عز وجل لإبليس أن يتحداه بهذه الطريقة وهو من خلقه, وهو القادر على الغاء وجوده أصلاً؟. ثم ما ذنب الإنسان أن يحاسب عن فساده ويوضع في جهنم وقد غض الله النظر عن تحدي إبليس له بأنه سيفسد ويغوي ويبعد الإنسان عن الصراط المستقيم؟.
على العموم إن هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة المشروعة تظل بحاجة لأجوبة عقلانية بعيدة عن الذاتية والرؤية الميتافيزيقية والأسطورية المتبناة من قبل التيار الجبري السلفي الاستسلامي التكفيري. بيد أن المهم في هذه الحوريات هو معرفتنا بأن الإنسان فاسد في طبعه, وأن إبليس قد غُض عنه النظر مع الشياطين لزيادة فساد هذا الإنسان, ومع ذلك كُلف خليفة الله في إدارة أمور الحياة على هذه الأرض؟!.
من هذا المنطلق أصبح الإنسان خليفة على الأرض بأمر الله عز وجل بعد أن تاب عنه أو سامحه على معصيته, بيد أن الفساد بعد خلافته ظل قائما في طبعه, حيث عاث في الأرض بعد نزوله إليها أكثر فساداً وظلما, وفسقاً, وقتلاً وتدميراً, إلى أن (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ…) (الروم = 41). وللقضاء على هذا الفساد كلف الله العديد من الأنبياء والرسل من البشر الصالحين لهداية الناس إلى الصراط المستقيم, وأنزل عليهم الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن, كي يهديهم إلى الخير والمحبة والرحمة فيما بينهم, ويوقفهم عن بغيهم بعد أن نسوا تعاليم الله وخرجوا عن إرادته, ولكنهم لم يستجيبوا, ولم يسمعوا كلام الله ولا تعاليم أنبيائه ورسله وكذبوها,. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.). (الأعراف- 36). ونتيجة لما سار عليه الإنسان من بغي وعدم طاعة تعاليم الله, كان غضب الله علي الإنسان شديداً في الكثير من محطات تاريخه, والتي كان أهمها ما حل بقوم نوح بسبب الطوفان, حيث أصابهم التدمير والهلاك للظالمين. ففي حادثة الطوفان كما تدل الآيات, بأن الله لم ينج من قوم نوح إلا الصالحين: (فكذبوه وأنجينا الذين معه في الفلك واغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عميين..). (الأعراف – 64). ومع ذلك فقد خرج من هؤلاء الصالحين فيما بعد من هو أشد كفراً وفسقاً, وما قصة لوط مع قومه بشأن الملائكة إلا دليلاً على فساد وفسق هذا الإنسان الذي يغلب طبعه التطبع دائماً, حيث تقول الآيات في هذا الشأن: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ﴿80﴾ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ﴿81﴾). الأعراف. ومع ذلك ظل الإنسان أشد ظلما وكذباً على نفسه وعلى الله , حيث راح يبرر فساده وفسقه بانه ليس من عنده, وإنما من عند أبائه, بل إن الله نفسه أمرهم به: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف- 27- (28).
نعم ظل الفساد قائما ومستشريا منذ بدء الخليقة حتى اليوم, ولم تجدِ كل الرسل والأنبياء وما أنزل الله عليهم من كتب, وما مورس بحقهم من دمار وتنكيل بسبب فسادهم, فتيلاً في تخليهم عن هذا الفساد, وإطاعة الخالق , إلا ما شاء ربك.
ففي حوارية أخرى بين الله ونبيه إبراهيم, حول غضب الله على فساد أهل (صادوم وعاموره) من قوم لوط كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم. بأن غضب الله تعالى بلغ حده الأقصى على صادوم وعاموره والقرى المجاورة, الأمر الذي جعل الرب ينزل على الأرض ليمطر المدن الزانية ناراً وكبريتاً تحرقها, ولكن عبده وخليله إبراهيم يلقاه فيخر ساجداً معفراً وجهه بأديم الأرض كي يعفوا عن قومه.
فيقول له الرب: إذهب وآتيني بخمسين من الصالحين كي أعفي عن المدن الفاسد أهلها.
فيقول للرب: مولاي وإذا لم أجد في هذه المدن خمسين باراً.
فيعود إبراهيم برتمي على قدمي الخالق قائلاً: يا مولاي ألا يكفي أربعون؟.
فيرد عليه الخالق: بلى يا إبراهيم.
ويغيب إبراهيم ويعود, مرة بعد أخرى وهو ينقص العدد, والمولى يكتفي أخيراً بخمسة فقط, ولكنهم غير موجودين. وها هو المولى يخرج لوط وزوجه وبناته ويحقق قضاءه في المدن الزانية.
هذا هو موقع الفساد في النص الديني كما جاء في القرآن أو التوراة, فلنحاول أن نتعرف عليه في الفكر الوضعي أيضاً.
الفساد في الفكر الوضعي:
بعيداً عن كل النظريات العلمية التي درست تطور الإنسان وارتقائه بيولوجياً وفيزيولوجياً واجتماعياً, يظل هذا الإنسان في المحصلة أرقى الكائنات الحية على هذه البسيطة لما امتاز به من قدرات عقلية وتوظيف لأعضائه أثناء نشاطه من أجل حصوله على خيراته المادية والروحية التي ساهت كثيراً في بقائه وتطوره وتمايزه.
إن الإنسان في تكوينه الجسمي والنفسي والأخلاقي والاجتماعي يظل مركب حاجات مادية وروحية لا تنضب, وليس لها حدود, وهو يسعى دائما عبر علاقاته مع الطبيعة والمجتمع إلى تحقيقها وإرضاء ذاته, فقسم من هذه الحاجات متوافر أو مؤمن بشكل طبيعي ومباشر في الطبيعة, وقسم آخر بحاجة لجهود أو نشاطات فردية وجماعية لتأمينه, وقسم آخر قد امتلكه بعض الناس وحرموه على الآخرين, بل حازوا عليه وحولوه إلى ملكية لهم وراحوا يستغلون الآخرين لزيادته وكسب الشهرة والقوة والسيطرة على المجتمع من خلاله… وهنا نقف عند مقولة تاريخية تشير إلى هذا الجانب من الحاجات التي تحقق عملية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان بعد أن استأثر بها بعض الناس وحرموها عن الآخرين, قالها (سان سيمون): (عندما قام أول إنسان وسيج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي وصدقه الناس, بدأ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في التاريخ.).
مع ظهور الملكية الخاصة إذاً, ظهر التفاوت والتناقض والصراع الطبقي في المجتمع, وبالتالي ما رافق هذا التفاوت والتناقض من قيم للاستغلال, مادية كانت, أم وروحية أو فكرية عبر التاريخ, راحت تتبلور حالات التمايز بين أفراد المجتمع وكتله الاجتماعية, أي بين من أصبح مالكاً, ومن ظل منتجاً.
إن التفاوت والتمايز ما بين المالك والمنتج, راحا يتجليان على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فساكن القصر ليس كساكن الكوخ كما يقول (فيورباخ), بالرغم من إقرارنا بأن ساكن الكوخ في المراحل العليا من تاريخ التفاوت والتمايز الطبقي, من الممكن أن تصبح لديه القدرة على تغيير وضعه والانتقال من الكوخ إلى القصر بناءً على ما لديه من قدرات ومهارات عقلية تؤهله على المستوى الفردي لهذا الانتقال أو المستوى الجمعي. أو بتعبير آخر عند قيام تحولات بنيوية عميقه على مستوى الطبقات والكتل الاجتماعية, ستعي الطبقات المسحوقة والمستغلة ذاتها وتبدأ تناضل من أجل تغيير واقعها وفقاً لمعطيات سياسية واقتصادية وثقافية تساهم في تحقيق هذا التغيير وتجسيد مجتمع الحرية والعدالة والمساواة. ولكن ما يهما هنا, هو التأكيد على أن الملكية الخاصة التي تجاوزت حدود التوزيع العادل للملكية ساهمت بشكل فاعل – وليس كعامل وحيد – في زرع بذور القهر والاستبداد والظلم والاغتراب والتشييء والاستلاب, وتنميتها في المجتمعات, حيث تُحول الناس بعد استفحالها اجتماعياً إلى سادة وعبيد يباعون في أسواق النخاسة, وأصبح للسادة قوانينهم وعلاقاتهم الخاصة بهم, بل راحوا من خلال سيطرتهم الاقتصادية والاجتماعية, يسيطرون سياسياً وثقافيا أيضاً, ويخلقون على مقاسهم, أو مصالحهم سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية, تعمل على إقناع المضطهدين أو إجبارهم بأن حياتهم وما يحكمها من أنظمة وقوانين وسلطات تشريعية وتنفيذية مقدرة عليهم من قبل الله, وأن لحكامهم دماءً زرقاء تختلف عن دمائهم, تمنحهم الصلاحيات من الناحية الطبيعة والقانونية والدينية في استغلالهم وظلمهم وفسادهم للمجتمع وما عليهم إلا الخضوع لما هم فيه, وبالتالي عليهم أيضا الرضا بواقعهم والعودة إلى الصراط المستقيم الذي رسمه الله لهم كي يفوزوا بالآخرة كون الدنيا ليست إلا متاعاً, وهي فانية لا محال, كما يعلمهم رجال الدين الموالين للسلطان.
تحت مظلة هذه الأجواء التاريخية اللاإنسانية, القائمة على الذل والقهر والظلم والخوف والاستغلال والاستعباد والاستلاب والغربة والجهل… إلخ, التي رافقها بالضرورة نمط من القيم والسلوكيات اللاأخلاقية, مثل الكذب والنميمة والتجسس والمسكنة والمداهنة والخبث والسحر والشعوذة والدعارة والمخدرات والمتاجرة بغرائز الإنسان ومسح العقول للشعوب عبر التجهيل المقصود من قبل السلطات الاستبداية, وغير ذلك من قيم وسلوكيات تعبر عن قيم الفساد, راحت تتحرك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في هذه المجتمعات. وأكثر ما يتجلى هذا الفساد فكراً وممارسة في أوقات الأزمات أو التحولات التاريخية المصيرية التي تمر بها الدول أو المجتمعات.
أمام هذه اللوحة المعقدة والمتشابكة من الظلم والفساد والاستغلال, راحت الشعوب تعي شيئاً فشيئاً مصالحها, وتعرف أن أسباب شقائها ليس سوء أعمالها, أو هو أمر مقدر عليها ومكتوب في لوح محفوظ, بل هو ظلم الإنسان للإنسان, واستحواذ قسم من أبناء المجتمع على كل شيء وحرمان الآخرين من كل شيئي. فراحت الانتفاضات والثورات الجماهيرية على الظلم وعلى مظاهر الفساد التي تعم المجتمعات عبر التاريخ, ممثلة بثورات العبيد والأقنان والعمال, حيث كانت معارك مصير إنساني, منها ما نجح ومنها ما فشل لعدم اكتمال الظروف الموضوعية والذاتية لعوامل النجاح. هذا وقد رافقت هذه الثورات شعارات الحرية والعدالة والمساواة, التي نظر لها الكثير من الكتاب والمفكرين والفلاسفة وبعض رجال الدين العقلانيين التنويرين ممن وقف إلى صف الفقراء والمحرومين, حيث عروا الأسباب الحقيقة لما جرى ويجري من فساد, ويضعون الحلول الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والتربوية والدينية والفنية والثقافية, وغيرها من مفاهيم تتعلق بالدعوة لتطبيق الحقوق الطبيعية والقانونية للإنسان, وهي الحقوق التي سيتجاوز من خلالها الإنسان عالم قهره وظلمه وبالتالي فساده اللامشروع. ومن هذه الحقوق التي تتضمن مبادئ الحرية والعدالة والمساوة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية والثقافية للناس جميعاً, كانت مشاريع المدن الفاضلة, وحقوق الإنسان, والدساتير وما تتضمنه من قيم إنسانية, كتحرير المرأة, والقضاء على الأمية ونشر التعليم, وحق العمل, وتامين الرفاهية للجميع, والمشاركة في السلطة, والتعددية السياسية, وغير ذلك الكثير من المسائل التي تؤسس لبناء مجتمعات الحرية والعدالة والمساوة ونبذ الظلم والاستغلال والفساد, وهي المعركة التي لم تزل قائمة حتى هذا التاريخ, وربما لن يربحها الإنسان كاملة, إلا أنه سيظل يناضل من أجل مكتسباتها الإنسانية كلما ازداد وعيه بواقعه وظروف حياته وما يحيط بها أو يؤثر بها من عوامل تَحِدُ من وعيه وبالتالي حريته… والحرية في التعبير الأخير هي وعي الضرورة وممارستها بعقلانية.
عدنان عويد كاتب وباحث من ديرالزور- سورية
الاربعاء: 31 أكتوبر 2018.