يلاحظ السيكولوجيون أن الأطفال يطرحون في سنّ مبكرة أسئلة كثيرة على ذويهم بدافع رغبتهم الفطرية المُلِحَّة في المعرفة.
لكن غالبا ما تنطفئ هذه الجذوة بسرعة نتيجة ردود الفعل السلبية لمحيطهم على أسئلتهم.
لذلك، عندما لا يستجيب المجتمع لرغبة أطفاله في المعرفة فلا يشجعها، عبر إثارتها باستمرار، يتوقف أطفاله عن التلهف على طرح الأسئلة، ويفقدون الرغبة في المعرفة، فتنشأ أجياله على عدم الاهتمام بها…
التفكير العلمي نشاط عقلي خاص، لكن العقل لا يتجه نحو الاهتمام بشيء معين إلا إذا كان يُشبع إحدى رغباته أو حاجاته، ما يجعله ينجذب إليه ويولع به…
كما أن الروح العلمية ليست معلومات تُحفظ، وإنما هي روح تنبثق من أعماق الذات فيصبح البحث عن معاني الحياة مطلبا نابعا من الذات يتم إنجازه عبر اكتساب القدرة على استعمال الخيال وبناء المعارف…، لذلك يرى الشاعر الألماني “جوته” أن حب المعرفة شرط لتحصيلها، وأن الفرد لا ينخرط في معرفة شيء مَّا عمقا واتساعا إلا بقدر حبِّه لها وانفعاله من أجلها…
لا يدَّعي”جوته” أن معارفه العميقة والمتنوعة هي نتيجة لموهبته الكبيرة أو ذكائه الخارق، بل يرى انها تعود إلى اهتمامه بالمعرفة بسبب حبِّه العميق لها… لذلك فالحب عنده لازم لامتلاك القدرة على الإبداع والتفكير والعمل…
ليس “جوته” هو الوحيد الذي يربط بين الحب والمعرفة؛ فقد توصل “ماكس فيبر” إلى المعنى ذاته، حيث يرى أن الانفعال من أجل المعرفة وممارستها عن هوى وتفان مُتحمِّسين هما شرطان لتحصيلها…
لا ينخرط في مجال العلم والمعرفة سوى الذين يعون معناها، ويصيروا شغوفين بها، تحركهم في ذلك رغبة كبيرة نابعة من أعماق ذواتهم.
لكننا نلاحظ اليوم أن هناك نسبة من الشباب يلتحقون بمختلف مؤسسات التعليم العالي دون أن تربطهم بالمعرفة أدنى علاقة حب، بل إن صلتهم بها تكون اضطرارية لأن الظروف المحيطة بهم هي التي تسوقهم إلى ولوج جامعات لا تهتم بهم، مما يجعلهم مجرد طالبي شهادات وليسوا طلاب علم.
لذلك، لا يدرك هؤلاء أن الأفكار بمثابة ثمار لا يتأتى قطافها إلا للذين ولهوا بها، وتفاعلوا معها بحوافز داخلية…
يعتقد المسؤولون عن المنظومة التربوية في بلادنا أنَّ العِلم أصبح اليوم مجرد مسألة إنجاز عمليات حسابية يتم إجراؤها داخل مختبرات، كما هو الشأن تماما داخل المعامل أو المصانع، حيث يتطلب هذا الحساب عملا عقليا تقنيا شكليا لا علاقة له بالقلب والوجدان. لكن ما يغيب عن ذهن هؤلاء المسؤولين هو أن اعتقادهم هذا يٌغَيِّب الحدس الذي لا تجمعه قطعا أيّة صلة بأيِّ حساب آلي ساكن ومُمِلّ، لأنه يسعى بطبيعته إلى تجاوز ما هو قائم بغية استشراف أفكار وآفاق جديدة.
وعندما ينعدم الحدس يغيب الأفق وتخمد شعلة الحماس والعمل الدؤوبين المؤديين إلى اكتشاف الأفكار الجديدة واجتذابها والوقوع في أسر غوايتها.. فالولع بالمعرفة يُوَلِّد التفاني في ملاحقتها والبحث عنها باستمرار، ما يجعل هذا الولع شرطا لكل نجاح في مجال التعلُّم والعلم والمعرفة…
يؤكد “ماكس فيبر” أن نشوة المعرفة هي منبع العلم والفن، وأنها حافز للكشف والإبداع…
وما لم يبلغ الشغف بالمعرفة لدى المرء درجة الاندماج فيها والهوس بها، فإنه لا يتأتـى له التعلُّق بها ولا بناؤها… لذلك يرى هذا السوسيولوجي أنه ليس معقولا الاعتقاد بأنه يكفي الباحث في الرياضيات أن يجلس خلف مكتبه وينجز معادلاته وحساباته بمختلف أجهزته ليتوصل إلى نتائج ذات قيمة.
فبدون استعماله للمُخَيِّلة قد لا يتوصل إلى شيء يُذكَر. أضف إلى ذلك أنَّ المُخَيِّلَة الرياضية تختلف من حيث المعنى والنتائج عن مُخَيِّلَة الفنان، لكنهما لا تختلفان من حيث العمليات النفسية وما ينجم عنها من نشوة وهوس بالتعلٌّم والمعرفة…
لذا، عندما نقرأ تاريخ العلم والفكر والفن نجد تلازما بين تحصيل المعرفة والولع بها، ما يعني أن الابتهاج بالعلم والتفرغ له شرطان لبنائه وتحصيله. فلا يمكن للعقل البشري أن ينفذ إلى أعماق الأشياء إلا باستمرار التركيز بعمق على موضوع معرفته الذي يقتضي حُبَّ الفرد لها. وبدون ذلك تبقى معرفته سطحية، حيث لن تندمج في التكوين الذهني للإنسان. وبذلك لن يستطيع هذا الأخير أن يشتغل بها ليُنتجَ معرفة أخرى حول ظواهر أخرى، كما لن يعرف حدودها، ما يعني عدم قدرته على مجاوزتها في أفق البحث عن معرفة أعمق وأوسع منها…
يشكل حب المعرفة والشعور بالحاجة إليها وإدراك قيمتها حافزا قويا يجعل الإنسان يجد لذَّة غامرة ومستمرة في عناء البحث وبناء المعرفة… ويعي الذين يدركون قيمة العلم أن الجهل مفترس للإنسان يجب الخلاص منه، ما يجعلهم يسترخصون ملذّات الحياة ويفضلون لذة المعرفة، لأن هذه الأخيرة تمنح للوجود معنى وتُثري الروح والوجدان… لذلك، ليس هناك تعلُّم فعلي بدون أن يعيش الإنسان نشوة المعرفة…
وإذا كان الابتهاج بالعلم شرطا لبنائه وتحصيله، فالعلمُ لا يُظهر جماله وفتنته لأيٍّ كان، ما يفرض البحث عنها في أعماق ما ينتجه من معارف حتى يتسنى لنا التلذُّذ بها… وإذا لم تنجح المدرسة في تمكين المتعلمين من تذوق مباهج المعرفة والشعور بالقيمة الذاتية للعلم والفن، فهي تكون قد فشلت في أداء مهمتها…
ليس المنهج العلمي مجرد عملية حسابية بحتة، أو تطبيق آلي لبعض المفاهيم والنماذج، أو سلسلة ميكانيكية من الأسباب والنتائج؛ فهو يأخذ بعين الاعتبار أولا العامل الإنساني لكونه يحمل شحنات الانفعال التي لا تترك مجالا لليأس وتساعد على انطلاق الفكر والخيال…
فقد يستطيع باحث بارع تطبيق ما يملكه من معارف، لكنه قد لا يستطيع التوصل إلى فكرة جديدة، ما يعني افتقاره إلى الحدس والوجدان المتحمِّس والمنفعل للمعرفة، إذ يساعد هذا الأخير على ابتكار معارف جديدة…
فالمعرفة تشبه امرأة رائعة الجمال، شديدة التمنُّع، وهي لا تمنح ذاتها إلا لمن يعشقها بشغف ويداوم على ذلك…
يرى “فليب ميريو” أنه عندما تتوفر الشروط التي تمكِّن التلميذ من أن يفهم معنى ما هو مطلوب منه، ويشعر أن المدرس مرافق له، وأنه موجود معه لمساعدته لا لمراقبته وتَصَيُّد أخطائه، فإنه يرغب في التعلُّم.
وتنبثق الرغبة في المعرفة لدى المتعلم إذا أتيحت له فرصة الالتقاء براشدين يجسدون أمامه الرغبة في المعرفة، حيث لا يمكن أن يرغب في التعلُّم من لا يعرف أنه من المفيد أن يعرف، ومن لم يكتشف لذة اكتشاف أسرار الطبيعة والإنسان وفهم رهانات ما يعيشه المجتمع…
عندما نتأمل ما يجري في مجتمعنا ومدرستنا نجد أنهما لا ينشغلان بالعلم والمعرفة بمعناهما المعاصر، ولا يعيان أهميتهما من أجل النفاذ إلى جوهرهما، ما يفيد أننا لسنا متشبعين بمنطقهما الداخلي ولا نفهم معناهما، وبالتالي فنحنُ لا ندرك إمكاناتهما ولا نكتسب القدرة على استخدام مناهجهما ولا على التعامل مع ابتكاراتهما… بالتالي، فالتفكير العلمي ما زال غريبا عن حياتنا ولم نستطع إدماجه في أنشطتنا التربوية والعلمية…
نتيجة لذلك، فعلاقة مجتمعنا ومدارسنا بالمعرفة والعمل لا تقومُ على الحب والاقتناع والشعور بأهميتهما، وإنما تقوم على العداء معهما والنفور منهما في آن. وهذا ما يفسر عدم إدراكنا لقيمتهما واستخفافنا بهما… ما ينجم عنه عدم إتقاننا للعمل…!
هكذا صارت علاقة مجتمعنا ومدرستنا بالتعلم والعلم والعمل باردة وقائمة على العداء والاضطراب بدل الحب والولع والانتشاء، ما يفسر عدم تعطشنا للعلم والمعرفة والفن…
لقد أصبح واجبا أن تهتم مدرستنا بالتدبير البيداغوجي للرغبة في التعلم، لكن قد يعترض على هذه الفكرة معترض بحجة أنها تطرح سؤالا قديما هو: كيف يمكن أن نجعل حيوانا يشرب دون أن تكون له رغبة في الشرب؟. يكشف هذا السؤال القديم أن واضعه لا يميز بين الإنسان المتعلّم والحيوان؛ حيث إنه إذا أردنا أن نجعل الحيوان يحس بالعطش، علينا أن نحرمه من الماء لجعله يحس به، ويطلب الماء بعد مضي فترة. وفِي مقابل ذلك، ليس مؤكدا أن حرمان التلميذ من الأدب أو التاريخ… سيدفعه إلى المطالبة بضرورة قراءة بروست أو كافكا أو جاك لوغوف أو العروي… بعبارة أخرى، عندما يتعلق الأمر يدفع الإنسان إلى الشرب، يجب الاكتفاء بالانتظار، لكن عندما يتعلق الأمر بانخراط التلاميذ في اكتساب المعارف عبر بنائها،فإن هذا يفرض علينا أن نّحٓوٌِلهم إلى طلاب demandeurs معرفة.
من الأكيد أن المشكل ديداكتيكي، لكنه ليس فقط كذلك، وإنما هو أساسا إيروتيكي érotique ، حيث يتعلق الأمر أساسا بالمساهمة في انبثاق الرغبة في التعلٌّم لدى المتعلِّم ونموها. وتجدر الإشارة إلى أن نقل الرغبة في التعلٌّم إلى التلميذ لا يمكن أن تتم بشكل ميكانيكي. وفِي هذا المجال يجب البحث باستمرار عن توفير الشروط التي تمكن من انبثاق رغبة في التعلٌّم لدى المتعلِّم لا يمكن أن يتحكم فيها المدرس كلية، كما أنها لا تحدث عفويا كلما اقتضى الأمر ذلك. ويبدو لي أنه من المستحيل أن يحس المتعلِّم برغبة في التعلٌّم دون أن تتاح له فرصة للالتقاء براشدين يجسدون أما مه الرغبة في المعرفة. فكيف يمكن أن نرغب في التعلٌّم إذا كنّا لا نعي أنه من الجيد أن نعرف، وأن هناك لذة في اكتشاف الإنسان لأسرار الطبيعة واللغة والجتمع ورهاناته؟… وإذا كان الكبار لا يقدمون الدليل على ذلك، فكيف يمكن أن نأمل من الصغار والشباب ركوب هذه المغامرة؟….
لتجاو هذه الوضعية القاتمة، ينبغي كذلك الحفر في بنيتنا الثقافية لممارسة القطيعة مع كل التصورات والخرافات التي تحول دون انخراطنا في روح العصر، وتعوق قدرتنا على الإنتاج والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية. وبدون ذلك سنغامر بالبقاء على هامش العصر…