اعتاد دارسو العولمة، من الباحثين الغربيين والعرب، وخاصة من حلّلوا آليات اشتغالها التدميرية، أن يُطلّوا على وجوه ذلك التدمير في تجلياته الاقتصادية، والتجارية، والسيادية، والأمنية، والثقافية، والاجتماعية -القيمية. هكذا سلّطوا الضوء على ظاهرة تفكيك الاقتصادات الوطنية وهدر استقلاليتها، وإلحاقها بالمنظومة الرأسمالية العولمية؛ وعلى الإطاحة بالنظام الحمائي التجاري وأحكامه وترسيخ نظام التجارة الحرّة، غير المتكافئة، العابرة للحدود؛ وعلى استباحة السيادات والمنظومات القانونية الوطنيّة ب« توحيد» التشريع الدولي؛ واستباحة الدفاع الوطني في كل البلدان؛ وإصابة الأمن الثقافي الوطني في مقتلٍ من طريق تحطيم السيادات الثقافية، وفرض التوحيد القسري للقيم الثقافية العولمية الغالبة بدعوى الكونية الثقافية؛ وتمزيق النُّظُم الاجتماعية – القيمية في المجتمعات المغلوبة، التي يقع عليها فعلُ العولمة، من طريق تحديد القيم على أساس معياري وتنميط السلوك والذوق… إلخ.

 

والحقّ أن الآثار التدميرية للعولمة في مجال العمل السياسي والحزبي، في العالم وفي ديارنا العربية، بادية للعيان ولا تحتاج إلى قرائن كثيرة عليها. يكفي أن صورة الحياة السياسية في كل بلد في العالم، بما فيها بلدان الغرب ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، هي صورة حياة مضطربة، مشتتة، تتبدل فيها الأوزان والمقاييس والولاءات وأسماء الكيانات الحزبية. وهل قليل أن تختفي أحزاب كبرى في الغرب نهضت بأضخم الأدوار في تاريخ بلدانها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (وبعضها منذ القرن التاسع عشر)، وأن تظهر أخرى غير ذات تمثيل اجتماعي شعبي لتحتل الصدارة ؟ وهل قليل أن يتحول رجال مال وأعمال، مثل برلوسكوني أو ترامب، إلى قادة سياسيين ورؤساء لمجرد أنهم يملكون المال؟ وهل قليل أن نشهد على صعود تيارات اليمين المتطرف والنازي، في قسم من بلدان أوروبا، وعلى احتلالها مراكز متقدمة في التمثيل السياسي ؟ ثم هل قليل أن ينحط مستوى القيادات والنخب السياسية في الغرب إلى هذا الحد الذي يُذْهِل كل من عرفوا كيف كان مستواها قبل ثلاثين عاما ؟ إن هذه الأمثلة، وغيرها كثير، إنما تدلنا على أن انحطاط الحزبية السياسية ليس حالة خاصة بنا، نحن العرب وأبناء الجنوب، وإنما هو حال كونية تولدت من التغيرات الدراماتيكية الهائلة التي أحدثتها العولمة في العالم برمته.

قد تكون الحال عندنا أسوأ؛ وقد تتدهور الثقافة السياسية إلى حيث تصير كليشيهات من شعارات جوفاء؛ وقد يتبرم الناس بالعمل الحزبي فيهجروه، ليتركوا مؤسساته خرائب ينعق فيها البوم… إلخ، لكن الحال هذه، على بالغ سوئها، لن تختلف كثيرا عما هي عليه عند غيرنا من شعوب الغرب، اللهم في أن لهذه الشعوب ما ليس لنا: الثقافة المدنية الحديثة وقيم المواطنة؛ وهي قد تكفي لامتصاص الآثار السيئة التي تتولد من تشويه خِلْقَة العمل الحزبي وخُلُقه.

كيف أوصلت العولمة الحياة السياسية إلى هذه الحال، وأي أدوات هي تلك أعملتْها معاول هدم لصرح العمل الحزبي؟ لزمن طويل كان الناس يُخاطَبون من مصدرين رئيسيين للخطاب: أجهزة الدولة (المدرسة، الصحافة، الإعلام، الكنيسة، المسجد…) وأجهزة الأحزاب السياسية. اليوم، في عصر العولمة الجاري، تعددت مصادر الخطاب، وتعددت معها أشكال وعي السياسة. لم تعد أجهزة الدولة الوطنية وحدها تتكلم وتصنع الرأي، وإنما شاركتها في ذلك، وتفوقت عليها، مراكز أخرى لإنتاج الخطاب وتوزيعه، هي المراكز العولمية ذات القدرة الضاربة في المخاطبة والتأثير.

وكما أنّ العولمة وفرت لمتلقي خطابها موارد «معرفية» أخرى غير سياسية، وكما هي أوهمت المتلقي ذاك بإشباعه حاجته «المعرفيّة» ممّا يتلقاه منها، كذلك هي خلقت جمهورها الذي تخاطبه، والذي يختلف عن جمهور السياسة والعمل الحزبي. إذا كان جمهور الأخير جماعياً، أي جمهوراً تسكنه فكرة الانتماء المشترك إلى قضية، ويؤمن كل فردٍ فيه بأنه جزء من كل، وبأن السياسةَ سبيله إلى الالتزام الجماعي؛ وإذا كان العمل السياسي للسلطة أو للأحزاب يخاطب هذه الروح الجماعية في الأفراد/المواطنين، فإن جمهور العولمة مختلف تماما: إنها تخاطب أفراداً خالصين من روابطهم، معزولين من بعضهم مشتَّتين أو متناثرين، مرسِّخة فيهم، بخطابها ذاك، الشعور بالاستقلالية الفردية الخالصة عن كل رابط؛ وهذا الجمهور، الذي أنجبته العولمة، لا يمكنه قطعاً أن يكون جمهوراً للسياسة وللعمل الحزبي، لأن مبنى السياسة على الجمهور المنظم، بفكرة جامعة، لا على الجمهور الفوضوي المدفوع إلى حالة جامحة. أما حين يحصل أن يتحرك هذا الجمهور، الخارج من العالم الإلكتروني الافتراضي، كما تحرك في أحداث «الربيع العربي»، فإن حراكه ينتهي إلى الفوضى. وهل حصل غيرُ ذلك؟!

 

الجمعة :26 أكتوبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …