التشيؤ فلسفياً : هو تحويل الظاهرة الإنسانية (الإنسان) إلى شيئ, ليس له أي دور في تأكيد ذاته الإنسانية بعد أن استلبت منه قدراته العقلية وإرادته وأصبح في حالة صنمية أو سلعية.. أو تحول إلى ذرة اجتماعية ليس لها لون أو طعم أو رائحة. إلا لون وطعم ورائعة تلك الذرة الاجتماعية التي يريدها عليها من عمل على تشيئها, وهي هنا الأنظمة الاستغلالية الاستبدادية مهما كانت أشكالها. هذه الأنظمة التي تعمل دائماً على خلق أو (تحديد) جوهر هذا الإنسان سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً, بحيث يُشعرها هذا الإنسان المشيء بوجودها وقوتها وهيمنتها واستمرارية سلطتها من جهة. ويَشعر بالمقابل رعاياها بضعفهم وقلة حيلتهم ورضوخهم لقادة هذه الأنظمة من جهة ثانية.

     يقول “هيجل” : (التحديد يعني السكون), والسكون برأيي يعني التحجر والصنمية. وبالتالي فالسكون بالنسبة لحالات استلاب الأفراد من حريتهم وإرادتهم ولقمة عيشهم يعني (التشيؤ). وهذا “كيكغارد” له رأي في التشيؤ يقول فيه أيضاً: ( إنك تلغيني إذا وضعتني في نظام ), ويقصد هنا النظام الذي تُسلب فيه حرية الإنسان أي كان نوع هذا النظام الذي يمارسالقهر والظلم على رعاياه. وهو ما ذهب إليه “ماركوز” عند حديثه عن النزعة التشيئية للإنسان قائلا : (إن هذه الذات تسلب من دورها الأخلاقي والسياسي والجمالي حيث يختصر دورها على الملاحظة الخالصة والقياس والحساب الخالصين). (1)

    فالتشيؤ إذن ظاهرة يصبح في ظلها الناس مجرد موضوعات تُسيرهم ميولات تكنولوجية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية في آن معاً. وتحدد سلوكهم مصالح اجتماعية محددة يفرضها النظام السياسي الاستبدادي القائم على السلطة ممثلاً بحوامله لاجتماعية.

     إن الفرد في النظام الرأسمالي على سبيل المثال, وهو النظام الأكثر تعبيراً عن حالات التشيؤ التي تصيب الفرد والمجتمع تحت مظلته التقنية التكنولوجية, هذه المظلة التي تفرض علاقات إنسانية مشوهة, تنهض على الكم والتراكم الإنتاجي والاستهلاك المنتزع من صلته العضوية بالمجتمع. أو بتعبير آخر, إن العلاقات الإنسانية في هذا النظام الرأسمالي, تُحددها روح المقايضة والمنفعة الخاصة. وبالتالي فإن روح المقايضة والتملك اللامشروط, والتشبث بالأشياء المصنوعة, ونشوة الاستهلاك, ستعمل بالضرورة على تغريب الإنسان واستلابه وتشيئه.

    إن تحول جميع النشاطات الإنسانية والأشياء إلى سلع يعتبر أساس حالة التشيؤ. هذا وتظهر ظاهرة التشيؤ على عدة مستويات أهمها:

أولا: على مستوى المجتمع الاستهلاكي:

     إن المجتمع الاستهلاكي ينزع على الدوام إلى خلق واستنباط رغبات جديدة. وذلك لأن الإنسان مركب حاجات, وحاجاته لا تنضب, وبالتالي فالاستهلاك يشكل هنا حجر الزاوية في تشييئ الإنسان وتركه يلهث وراء تامين حاجاته الروحية والمادية والمعنوية. ولتحقيق هذه الحالة من الاستهلاك تُوظف الدعاية بكل أشكالها وفي أعلى مستوياتها من أجل تغيير البنية العقلية والسلوكية للفرد والمجتمع وفق توجهات المجتمع الاستهلاكي ورغبات القائمين عليه.

ثانيا: على مستوى حب التملك أو الحيازة:

     إن حب التملك للأشياء يصبح الحافز الرئيس للأفراد, وهو ما يجعل الأشياء تتحكم في الإنسان. ومن هنا تصبح قيمة الإنسان ومكانته في هذه الأنظمة مرتبطة بقدراته على تملك الأشياء وجديدها.

    إن مقدرة الإنسان وقيمته ومكانته الإنسانية تكمن في قيمة الأشياء التي في حوزته, والتي يرى فيها قيمته الذاتية المتوارية. فاللوحة الفنية مثلاً لم تعد تقدر بقيمتها الفنية الجمالية والابداعية ودورها في تغيير وعي وأحاسيس الإنسان نحو جوهر إنسانيته, وإنما قيمتها تُحدد بسعرها الذي يصل إلى ملايين الدولارات, وقيمة الإنسان فيها هي قيمة من يشتريها.

    إن هذا التشيؤ الذي يقع فيه الإنسان تحاول الفلسفة البرجوازية ان ترده كما هو الحال عند  “ماركوز” في (كتابه الإنسان ذو البعد الواحد), إلى التكنولوجية العلمية التي تميل حسب رأيه إلى دراسة الأفراد بطريقة موضوعية علمية تبرر ما هو قائم. (2). أي تبرر هذه الفلسفة كل حالات قهر الناس وظلمهم واستلابهم وتشيئهم, مدعية أن التطور التكنولوجي هو السبب الرئيس وراء ذلك وليست التناقضات والصراعات الطبقية القائمة على الاستغلال هي السبب. وهذا برايي ما تعول عليه كل نظرية ما بعد الحداثة في علم الاجتماع بشكل خاص, فالتجريبية في ميدان العلوم الاجتماعية تعمل على طمس طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة على التناقض والصراع بين المالك والمنتج في الأنظمة الاستغلالية ومنها النظام الرأسمالي, فالذين يشتغلون على علم الاجتماع الرأسمالي يحاولون إبعاد القوى الفاعلة في النظام الرأسمالي وهي الطبقة الملكة للمال والسلطة, عن المسؤولية وتحميلها للتكنولوجيا, وكأن التكنولوجيا هنا مجردة عن حواملها الاجتماعيين الذين يسخرونها لمصلحتهم. وعلى هذا الأساس لم يعد مهماً دراسة تكون المجتمعات البرجوازية وآلية عملها والقوى التي تتحكم في آلية هذا العمل ومسألة التناقض والصراع الطبقي القائم في هذه المجتمعات, بقدر ما يهم دارس علم الاجتماع عرض مكونات وموجودات هذه المجتمعات بما فيها أفراد المجتمع, بوصفهم أشياء ووقائع وأرقام وبيانات ومعادلات وتروس في آلات التكنولوجيا.  

    إن النظرة (المجهرية) العلمويّة لعلم الاجتماع البرجوازي, التي تكشف الظواهر الإنسانية كظواهر منظمة ودقيقة متكيفة ومندمجة في محيطها الاجتماعي بعيداً عن أي قيم إنسانية يمارسها أناس من لحم ودم, لهم مصالحهم وعواطفهم ورغباتهم إلخ, هي ليست أكثر من محاولات مشبوهة باسم العلم يمارسها علماء اجتماع تهدف إلى حجب الصورة الحقيقية لمجتمع قائم على صنمية السلعة وتسييد النزعة الاستهلاكية التي ستغير مفهوم الإنسان من ذات تفكر في ذاتها وبالآخرين وبكل ما يحيط بها, إلى ذات تستهلك فقط ما يقدمها لها سوق الإنتاج من أجل الاستهلاك. لقد انقلب العقل في أنماط الاستهلاك هذه من عقل ناقد للأشياء إلى عقل أداتي تسيره وتحدد دوره الأشياء المصنوعة للاستهلاك. لقد تغير العقل بتعبير آخر من أداة للتفكير إلى أداة للاستهلاك.

    إن أي وعي مشروط بمدى تلبيته للحاجات الاستهلاكية, هو بلغة هيجل مجرد “وعي شقي” أي هو وجود مُغترب مُشيئ”.

(***)

د.عدنان عويد :  كاتب وباحث من سورية
1 –  للاستزادة في هذا الموضوع راجع دراسة : سلمى بالحاج مبروك الخويلدي – المواطن والإنسان ذو البعد الواحد – موقع حــركـــة التـجـــديـــد – تـونـس – الصفحة الاساسية – ثقافـة و فـنون – الاربعاء 9 نيسان (أبريل) 2008 .
2- المرجع نفسه.
الخميس: 18 أكتوبر 2018.

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …