قراءة في ديوان ” لامةْ لحْرُوفْ ” للشاعر عبدو سلطان كاسمي – الجزء الأول .
صدر هذا الديوان البكر عن مطبعة بوجو برانت بالدارالبيضاء في رمضان 2018
(***)
تسطير منهجي لابد منه :
إن اشتغالنا على المتون الزجلية من خلال منظورات نقدية لا يقصي من اعتبارنا الاعتماد على الانطباع والقراءات العاشقة والقراءات المنهجية الغارفة تصوراتها من مدارس النقد العالِم ، سواء ما تعلق برصيدنا المتواضع في النقد العربي قديمه و حديثه ، أو ما تعلق باجتهاداتنا في الاستئناس بالتيارات الغربية المتقدمة شأواً بعيدا في هذا المجال ، ندخله لا من باب الانبهار والدهشة المستلبة و إنما من باب الاشتغال الحواري التواصلي مع العقل الغربي في سجالية مجادلة منتفعة بعيدا عن الهضم البليد والاجترار الكسول .
كما أن اشتغالنا على المتون الزجلية بمنظورات عالمة تستأنس بأعلام النقد الغربي لا يمس في الزجل أصالته ولا يعيب فيه خصوصيته ولا ينقص منها ، على اعتبار أن هذه المنظورات الحداثية تعالج كل الأنساق الدّالة ، والزجل نسق دالّ بعلاماته الملفوظة و يستدعي بفعل تراكماته النوعية مقاربته من هذه الزاوية ، التي تخدم صيرورته المتحركة والمتغيرة باستمرار .
النقطة الثالثة في هذا التسطير المنهجي ترتبط بعلاقة النص مع المنهج ، فنحن لا نختار للمتن الزجلي عباءته المناسبة و كأننا نمتلك دولابا من المقاسات النقدية القابلة للتنميط و التطبيق المبتسر ، و إنما ، و أساسا ، نترك للنص حرية اختيار المنظور الذي يناسبه ويقرأه في توجهاته الموضوعية حتى تخرج النتائج انسيابية لا نحس فيها ليّاً لأعناق المتن و لا قسرا و لا إكراها .
(***)
يفرض ديوان ” لامةْ لحْرُوفْ ” للشاعر ” عبدو سلطان كاسمي ” على القارئ هيبة نوعية لا نجد لها تفسيرا إلا عبر الدخول في غضون تشكلاته القوية لفظاً و معنىً ، دلالةَ و أنساقاَ ، حضورا و غيابا ، تصريحا و تلميحا … حيث تفرض علينا مساحات النص المرفولوجية المتسمة بالطول الزئبقي قراءات دقيقة و متأنية و حذرة ، حتى لا نقوّل المتكلم ما لم يقله أو يريد قوله . ناهيك عن العمق الدلالي القابع بذكاء خلف أسوار الحرف المنيعة … لهذا اختارتنا متون الديوان أن نقاربها عبر مجموعة من التيمات هي في آخر المطاف أشكال من التأويل القابل للأخذ والرد و التصويب .
1 – تيمة الشك : منظورا إليه لا من زاوية فلسفية ترتبط بتفكير الشاعر في الموجودات ، و إنما من زاوية الحيرة كعلامة سيميائية تمتح مادتها من فكرة الاستهواء بتعبير ” غريماس ” ، وهي حيرة المبدع في تشكيل هوية الآخر ، المخاطب ، الداخل في علاقة تفاعل غير متوازنة مع الذات ، وهو تفاعل يقضي افتراضا بحدّ أدنى من التعادلية في الفهم وفي الإيصال ، إلأ أن الشاعر اختار موضعة هذا الآخر في ذلكم المخاطب النوعي الذي يمارس على الذات المتكلمة – و من باب الاستهواء أيضا – ضغطا ناعما يستمد قسوته و قوّته معاً من شرط المحبّة التي اقتضت في المتكلّم رصيداً من الوفاء ، في حين استدعت في الآخر تحدّياً زئبقيّاً ، مادته أنثى موصوفة حاذقة في فعل الغواية و في فعل الصدّ .
و القارئ للمتن الشعري الزجلي عند الشاعر ” عبدو سلطان كاسمي ” تصدمه في إدهاش قدرة البوح على فعل الرسم ، لا بالكلمات وحدها ، و إنما بالفونيمات أيضا ، في تناغم جناسي واضح يحمله الشاعر ما أمكنه الحمل بعيدا عن عمليات الإثارة القريبة و المتكئة على وظيفة التحقق الجمالي ، إلى وظيفة أخرى أكثر تبئيرا و عمقا ، تزوبع دَعَة المتلقي وتخلخل راحته المستهلكة في استرخاء الاستمتاع و الأنس ، إلى إحداث نوع من التشويش المولّد لدينامية النص … لننظر معاً إلى اختياره هذا المقطع للتعبير عن حيرته تجاه الآخر ، قال الشاعر في قصيدته ” طريق الضحكة ” ما يلي :
ولّيتْ نشكْ فْ شكّي
و شكّي عادْ
يشكْ فْ شكّو
يومْ شافتكْ
ودْنِي لْعَمْيَة …
و هو التشويش الجميل الباعث على استكمال دورة القراءة ، سواء تعلق الأمر بقارئ عادي يستمتع بفن الزجل مع هذا العَلَم المتميّز ، أو تعلّق الأمر بقارئ دارس لهذا المتن … و هو التشويش الحامل لمجموعة من الأسئلة التي لا ترتبط بعتبات الاستفهام الراغبة في المعرفة ، و إنما الأسئلة المعالم ، باعتبارها محطات ضوئية تكشف عن طبيعة هذه الحيرة التي تأخذ من الذات كل مأخذ ، و تحرك فيها الرغبة الاستهوائية في تعرية العلاقة بين الذات و الآخر … من هنا جاءت ممارسة الشاعر للعبة الجناس في اختياره لصوتي الشين والكاف المتكررين باطّراد في المقطع أعلاه ، و هو المقطع المتجاوز لفعل المعنى المباشر المرتبط بشك الذات في الماحول ، إلى الرغبة في تحجيم هذا الآخر باعتباره مصدر انكواء و مصدر إلهام في آن .
تقدّم لنا النصوص اللاحقة مزيدا من الضوء على فكرة الاستهواء عبر مقولة الحيرة أو الشك ، منها قول الشاعر في قصيدة ” نترجّاكْ تْكُونِينِي ” ما يلي :
حِينْ تْكلّمتْ مْعَ سْكاتِي
باغِي نعْرَفْ منّو جْوابْ
أو ما يشابه ذلك في قوله من نفس القصيدة :
لْقِيتِينِي حايرْ
ما عْرَفتْشْ إمْتَى
تْخَونتْ منّي رُوحِي
و منه قوله في قصيدة أخرى بعنوان ” عَاهَدْ لحْرُوفْ ” :
الخطْوَة تالْفَة
فْ كُدْيةْ لكْلامْ
من هنا ، تدرّج الشاعر في رسم معالم هذه الحيرة ، والانتقال بها من دوائر الحواسّ إلى آفاق أكثر سديمية ، بل أكثر تعاليا ، وهو التعالي الفلسفي في غير قصد من المتكلم ، يدفع بالحيرة عبر مقولة الاستهواء إلى أقصى حالات التجلي و هي الدرجة القصوى من التوحد مع الآخر عبر الرضى بنتيجة هذا الشك و هذه الحيرة ، من خلال القناعة بأن الآخر هو الذات عينها في تعبير جمالي يدلّل تدليلا على أن الزجل قوة تعبيرية ضاربة في الجمالية : لم يعرف الشاعر متى سُرقت منه روحه { ما عرفتش إمتى تخونت مني روحي } و هي قمّة التسليم للآخر في غير مقاومة ، وفي لذّة ” بارتية ” .
عرف الشاعر كيف بتلاعب بعواطف القارئ و هو ينقله من وضعية القلق إلى وضعية الانفجار الأقصى ، ولقد رأيتموه تجليا واضحا في عملية السطو على الروح . إنها وضعية مفارقة و وحدها قادرة على توضيح خصوصية هذا الخطاب الزجلي القائم على خلق مسافات من التوتر الدلالي العامر …
2 – فوضى الحواس :
يختار الشاعر ” عبدو ” زاوية نظر شعرية خاصة في علاقته بالمحسوسات ، يبنيها على مقولة ” الوثوب الحيوي ” والقفز على الأشياء من حيث هي أشياء ، إلى استنطاقها داخل رؤية شعرية وجودية تتعامل معها من باب الإثارة الحيوية أيضا . و هي الإثارة الْمُشركة للمتلقي في استبطان المقول لا في مرفولوجيا الكلام و إنما في حفريات الكلام . من هنا مارس الشاعر عملية البصر بواسطة حاسة السمع ، في قلبٍ وظيفيٍّ للأدوار … قال من قصيدته ” طريق الضّحْكة ” :
يومْ شافتكْ
ودْنِي لْعمْيَة
بْ مُومّو لڭـرُوحْ
مضاتْ شُوكْ الرّمشْ
و طاحتْ عيْنِي
عْلى عينْ ڭْـفَاهَا
هكذا ، فالشاعر ليس ناقلا ناسخا صادقا مرآتيا للمألوف الذي تبنيه تمثّلاتنا للقضايا و للأشياء ، بقدر ما هو كائن غريب غرابة استثنائية تمجّ التسجيل و ترحب بالانبثاق ، لهذا اختار اللعب السيميائي على وظائف الحواس ، فالأذن تحلّ محلّ العين ، و الأذن في عُرف الشاعر عمياءُ ، في إطار إسناد لغوي عامر بالانزياح ، لأن العمى مكوّن حسّي لا ينسجم إلا مع مسند إليه من جنسه في تمثلنا البسيط ، لكنه في قنوات الشاعر التخييلية هو إسناد شائك متوثّب و حيوي ، يخترم توقعات المتلقي بصناعته للدهشة النوعية عبر تسطير زجلي محمّل ب ” الشعرية ” و محمّل بالضوء .
يسير الشاعر في هذا المسار الفوضوي الباني و العامر ب ” الشعرية ” الزجلية عبر اخترامات أخرى لمألوف الحواس ، في محطات أخرى من قصائد أخرى مخلصا لنسغ الرؤيا التخييلية ، ماضيا فيها إلى أقصى حدود الإبهار ، نذكر من ذلك أمثلة لا حصرية من متون مختلفة داخل الديوان :
1 – العين حمرة جمرة
2 – و عْقَلْ ضحْكِي يفكْ عڭادْها المعڭودْ
3 – ساعةْ شفتكْ يا فاكْيةْ الرّوح
4 – هتهت لڭلب لمضيوم ، طلق ودانو ، رْخا الطانڭة ، يتصنت لدقاتو
5 – بغيتْ نشُوفْ حدّ الشّوفْ
6 – لحرام ف يّامنا زْيانتْ لِيهْ البنّة ، و لحْلال مْرارْ لِيه الذوقْ
7 – شوْفتْنا وجهْنا فْ مْرايةْ لْبَاطلْ شُوفانْ
8 – نْشُوفْ حلْمات ، مرّة عڭاربْ ، مرّة حيّاتْ
9 – تْهتْهِيتْ لْڭانَة
10 – شمّيتْ رِيحةْ لْمَاضِي
من هذا الفيض كثير من الاستهواءات المرتبطة بفوضى الحواس ، يؤرجحها الشاعر بين سمع وبصر وشم وتذوق للماحول من زوايا إغرائية مستفزّة ، بجمالية زجلية نوعية ، قادرة على التشويش الجمالي لبرنامج المتلقي التذوقي والتمثلي والقرائي البعيد ، و نقله من برنامج استهلاكي استمتاعي إلى خطط مشاركة في عمليات الإنتاج لدلالات و أبعاد المتن الشعري الزجلي ، من خلال حزمة من التأويلات البانية لنسقين في آن : نسق الذات المتكلمة وهي تباشر فعل الانزياح في وظائف الحواس من الحالة المتشيئة إلى حالة المعنى ، و منه ، إلى حالة المعرفة … ونسق المتلقي الباني لمضمرات القول ” السلطاني ” خارج البداهة الحسية لتتشكل هذه المتون الشعرية الزجلية في آخر المطاف عقدا فريدا تنتظم داخله كثير من الصدف الدلالية المتشعبة و تنسجم .
يبغي الشاعر من محمولاته المقولية إغراءنا بجمالية الخروج عن طبيعة النص النمطي الماثل أمامنا بفعل العقد المشترك الذي تبنيه الثقافة المشتركة بين المبدع والمتلقي ، ولتوضيح ذلك نأخذ مثالا يرتبط بحاسة الشم ، قال الشاعر ” شميتْ رِيحةْ لْماضِي ” ، و هو تركيب استعاري ” ينقل العبارة في مكان غيرها و ملاكها تقريب الشبه ، ومناسبة المستعار له للمستعار منه ، وامتزاج اللفظ بالمعنى ، حتى لا يوجد بينهما منافرة ” على حد تعبير ” الجرجاني ” … فالشاعر ” عبدو ” جعل للماضي جسداً ترشح مسامه رائحة ، حتى يستقيم فعل ” الشمّ ” مع المسند إليه الموسوم بطبيعة التجريد والهيولى ، و نقصد الماضي المؤطر داخل عملية التحييز الزمني ، وحتى يتحقق انسجام الصورة البيانية في أطرافها ، رام الشاعر إلى خلق هذه الفوضى الجميلة في ترتيب الحواس وفي توظيفها خارج المألوف ، من زاوية استبدالية تعتمد عنصر المقارنة والمشابهة بين الماضي والجسد ، بين المستعار له والمستعار منه … كما يمكن قراءة فوضى الحواس داخل إطار استعاري تفاعلي قائم على خلق عوالم لغوية جديدة داخل اللغة العادية لأنها تبني علاقات جديدة بين الكلمات وهي تذوّب عناصر الواقع في بؤر أكثر توليدا وتناسلا للدلالات .
و من ثمّة فالسياق هو الضامن لتأويل عملية شمّ الماضي عبر استحضار مؤشر الذاكرة المسافرة في استجلاب صور هذا الماضي من خلال توظيف حاسة الشم توظيفا ماكرا ، و لذيذا ، في آن … و بالتالي لا تقتصر الانزياحات في مقام الحواس على الهدف الجمالي و القصد التشخيصي فحسب ولكنها تتجاوز ذلك إلى القيمة العاطفية والوصفية والمعرفية على اعتبار أننا نحيا بهذه الاستعارات ، و تدخل نسغنا الجمعي أبينا أم شئنا …
يتميز توظيف الشاعر لشبكة الحواس في ديوانه ، باعتماده على الاستبدال والتفاعل وخلق المسافة بين المفردة و حياتها المعجمية ، لإدراكه ان الشعر رؤيا ، وأن الشاعر كائن رائي ، موسوم بأنفاس النبوّة ، مخترم للمألوف ، وحامل للدهشة في تعابيره ، و مغرم بالتغيير سواء في الحساسية الشعرية أو في المنظورات الابداعية … ولإدراكه أيضا أنه يمتلك رؤية مختلفة تمام الاختلاف عن الناس ، و لإدراكه أن بصره ينبغي أن يمتد قامات عالية فوق هامات الناس ، لهذا جاءت همسته واضحة أن الرؤية المقيدة لا تصنع شاعرا ، و هي الهمسة التي لخصها ” عبدو سلطان كاسمي ” في قوله ” بْغِيتْ نْشُوفْ حدْ الشّوفْ ” … رغبة دفينة في تجاوز المرئيات والموجودات .
3 – تيمة الكتابَة أو لْكتْبَة في ” لامةْ لحْرُوفْ “ :
يبدو لقارئ الظاهر في كلام ديوان ” لامةْ لحروفْ ” أن الشاعر يكرر موضوعة العرب القدامى في شيطان الشعر . قال ” عبدو ” من قصيدته ” طريق الضّحْكة ” :
و كلْ ما زفْ
شيطانْ لكْلامْ و تْسَلطْ
يبُوحْ بْ قْصِيدَة
و الأمر هنا لا يتعلق بالنقل الحرفي لطبخة تراثية مستهلكة بقدر ما يرتبطُ ، و أساساً ، بقناعة ” سلطانية ” أن المبدع هو من لا يمتلك ناصية حرفه ، بل حرفه هو المالك ، و هو المادة الزئبقية التي لا تستأذن و لا تستشير إلا وفق مزاجها الخاص … و من ثمّة فهي ما يُملي شروط الكتابة و زمن الكتابة و شكل الكتابة أيضا . قال الشاعر من نفس القصيدة :
{ تارة يعف ، تارة يتلف } إشارة إلى شيطان الشعر الذي يتجلى في حالات متعددة ومختلفة ، قد يكون في مستوى اللحظة وقد لا يكون ، وقد يصيب المعنى في مقتل وقد لا يصيب .
ينظر الشاعر ، من جهة ثانية ، إلى الإبداع نظرة شعبية يبنيها التمثل الشعبي الموروث ، حيث القريحة التي ترتبط بالسديم المتعالي و غير القابل للقبض ، يحولها الشاعر في استعارة قوية إلى متعيّن { لقْرِيحَة بنتْ لجْوادْ } تنرسم معالمه في الثقافة الشعبية و يتجسّد في هذه الوحدة اللسنية المحمّلة بكثير من الدلالات { لجْوادْ } المرتبطة بقيمة الكرم ، أو المرتبطة بالقوى الغيبية الماتحة مادتها من الاعتقاد الشعبي في كلمة { لجواد } .
الكتابة في منظور الشاعر ” عبدو ” مادة نارية ترفض أن تتشيّأ على مستوى الحضور والغياب { حتى لقْرِيحة بنت لجوادْ ، مرّة شاعْلة عْوادْ ، مرّة طافية رْمادْ }… هي ما يتحكم في سيرورة البوح بمزاجها الخاص إلى درجة الغلبة والقهر ، تمارسهما على المبدع في صلف { ويا لطيفْ ، ملّي تْغوبشْ ، و تعْطِي بالظْهَرْ ، يعودْ لْخاطرْ مكْسُورْ } .
تتظمهر تيمة الكتابة أو ” لْكتْبَة ” في الديوان بشكل ملفت ، يمثّل كثافة نوعية ينبغي الوقوف عند تراكماتها لاستيعاب آليات اشتغال هذا المفهوم الشعري في لاوعي المبدع . نذكر من هذه التجليات على سبيل الحصر ما يلي مع العلم أنالديوان عامر بهذه التيمة في انسجام دلالي مع عتبة العنوان ” لامةْ لحْرُوفْ ” :
{ نْسڭِّيوْ قصْرِيةْ لكْلامْ – كُلّا يلڭّـمْ لْڭِـيمَة – مْسلّحْ بْ خطْ الزْناتِي – نتْهَجّانِي بْ حْرُوفْ لْمَكْتابْ – مدْ ڭوڭَة فْ لْواحْ لقْدَرْ – تْعالى نْكتْبُو خُطْبَة – نفْتِيوْ لمْحَبة – نقْراوْهَا فْ مَحْرابْ لْعشْقْ – نْفِيدُو بْ خُطْبتْنَا لعْبَادْ – نكتَبْنِي صَفْحاتْ بْ مْدادْ الصْبَرْ – كتْبِينِي كلْماتْ تْكونْ واضْحَة – نكْتبْ سْكاتِي – لكْلامْ دَاوي – رْكبْ رِيحْ لقْوافِي – يا مْدادِي و لْحكْمَة حْلُوفْ – لْوَرْقَة زْرِيبَة و لْحرْفْ شْرِيفْ … } و مثل هذا فيضٌ ثَرّ في الديوان و حسبنا منه أمثلة للاستئناس قبل التحليل .
ما هو إذن مسار تكوين الكتابة في لاوعي الشاعر ” عبدو ” و كيف تتفاعل هذه التيمة مع بنيات المتن الشعري الأخرى ؟
بدايةَ يُمثّل الشاعر ” عبدو ” حساسية شعرية فطرية تشحذها الدّربةُ و التجربة والرؤية الواضحة للذات وللماحول وللعلاقة بينهما ، من ثمّة تنبني مفاهيم الكتابة عنده باعتبارها سيرورة فنية ترفض شرنقات النسخ و الإعادة والتكرار والشبه … و تصنع لنفسها نسغها الخاص الذي تتشربه كل حين ، و في كل حين تؤتي أكلها بإذن ربّها .
وهذه زاوية حتمية للنظر إلى اشتغال المفهوم ، وهو يسير عبر هذه الخطاطة :
التكوّن —- الاستعداد —- البلورة
ويتعلق الأمر بتكون جينات الكتابة أو ” لْكتْبَة ” في لاوعي المبدع خارج شرط الإرادة وخارج شرط الحضور الذاتي المالك لناصية القول ، حيث الكتابة سلطان مهيمن في صورته التقليدية المرتبطة بشيطان الشعر و في صورته الشخصية المرتبطة بلحظات الانبثاق . و التكون مرحلة تتجلي في حضورين : الأول حضور قدري لا طاقة للمبدع فيه ولا يد ، والثاني حضور إرادي لا يتجاوز عتبة التفاعل مع هذه الهيمنة مع التوق لمعانقتها في تجلياتها الواعية ، وهذه المرحلة غالبا ما يتم التفاعل معها من باب التسليم .
أما العنصر الثاني من الخطاطة ، والمرتبط بالاستعداد ، ففيه تبدأ الذات المبدعة في وعي تجربتها ، واكتشاف منظورات بوحها الخارجة عن شرط الإرادة ، و تتميز مرحلة الاستعداد بتفوق جانب الوعي بالموجودات وكيف تتم عمليات استيعاب اللحظتين ، لحظة الداخل القارع بيت المبدع في غير استئذان ، ثم لحظة الخارج المشرئب إلى دمغ الوجود الشعري بخاتم الإرادة النوعية ، ولما كانت سلطة الداخل الهيولى غالبة ، فإن الذات تكتفي بمعاينة البوح في حذر لذيذ وفي استعداد لمرحلة البلورة .
تأتي أخيرا مرحلة البلورة ، و المتعلقة بصناعة قرار التفاعل الايجابي مع سيرورة الشيطان الملهم أم الإلهام الشيطاني ، و فيه تربح ذات المبدع رهانا جيدا و هي تختار الدخول مع الآخر في تقاسم إيثاري لثمرات الكتابة بما هي كشف شخصي وفتح خاص لا تريد الذات المبدعة أن تحتكره { تْعالى نْكتْبُو خُطْبَة – نفْتِيوْ لمْحَبة – نْسڭِّيوْ قصْرِيةْ لكْلامْ – نقْراوْهَا فْ مَحْرابْ لْعشقْ … } و هنا تنبلج الدرجة الصفر من الكتابة وهي درجة سابقة في العطاء ولا تحتكر ما تجنيه من جمال في دروب الحرف الطائر في المخيال الفردي وفي المخيال الجمعي … و كأني بالشاعر يمارس شعرا تعليميا يدعو فيه المتلقي النوعي إلى معانقة قضية الابداع من بابها المتسامح والواعد بالعطاء عبر التفاعل الإنساني المغيب للامتلاك الرخيص لمتون الزجل و للامتلاك الواهم لمقولة التفوق الادبي .