مرّ حينٌ من الزمن اعتقدنا فيه، وكتبْنا، أن موجة انبثاق كيانات المجتمع المدني، في البلاد العربية، بدءاً من النصف الثاني من عقد السبعينات، أتت ثمرة للتأزم الحاد الذي أصاب مؤسسات العمل السياسي ، وأفضى بها إلى الإخفاق؛ وأن في جملة أسباب ذلك الانبثاق، أو الميلاد، تجاهُل مؤسسات العمل الحزبي طويلاً لقضايا اجتماعية عدة، ذات كثافة وضغط في يوميات الاجتماع الوطني، مثل حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، والمخاطر التي تهدد البيئة، وحقوق المستهلك، والأقليات… إلخ، وهي القضايا التي سيتولى حملها والتعبير عنها ما سيُسمى بمنظمات المجتمع المدني. وإِذِ انصرفنا – في جملة من انصرفوا- في هذه القراءة، لحدث تكوُّنِ مؤسسات المجتمع المدني، إلى محاولة فهم عوامل التكوين و«أسباب النزول» الاجتماعية، لم نكن نمنع أنفسنا، في الوقت عينه، من الانتقال السلس من التحليل والبرهنة إلى التبرير والشرعنة.

ولا يشفع لمثل تلك القراءة أن الفترة، التي أفصحت فيها عن نفسها، شهدت على حالٍ حادّة من العياء الذي دبَّ في أوصال الحزبية السياسية العربية، وحَمَلتنا على التمسك بأدوات أخرى لممارسة الفعالية الاجتماعية بديلاً من المهترئة؛ كما لا يشفع لها أن تكون منظمات المجتمع المدني قد أصابت حظاً من النجاح في قيادة التغيير السياسي في بلدان عدة ؛ ذلك أن موجة العداء للحزبية كانت رومانسية في الغالب ولم تَعْقِل نفسها بلجام من العقل يعيد فهم مركزية العمل السياسي المنظم في أي تغيير .

ناهيك عن أنّ البصمات الأمريكية – الغربية في الصراع ضد الأنظمة الشيوعية لتحريض قوى المجتمع المدني، في شرق أوروبا، ضد أنظمتها واضحة، على أن منظمات المجتمع المدني إن لم تكن قد تخلَّقت من بيْضة فشل العمل الحزبي، كما اعتقدنا في ما مضى، شهدت على أبهى فترات عنفوانها وازدهارها بعد كبوة العمل السياسي ودخولِه طور أفوله التدريجي؛ فهي، تغذت من وهْنه وانسداد آفاقه، وقدمت نفسها للرأي العام بما هي البديلُ التاريخي منه. ولقد زاد من حظوظها في الاستيلاء على الانتباه العمومي أن القضايا التي طرحتها، ونشطت في الدفاع عنها، وُضِعت على جدول أعمال السياسات الدولية، ومُكِّن لترسيخها في الأذهان بواسطة النظام الامبراطوري السمعي – البصريّ الضّارب، ومثيله الإلكترونيّ – المعلوماتي الهائل، اللذيْن أرستْهُما العولمة وحملتْهُما إلى الآفاق، وأصبحتِ الحال أنّ حركة هذه المنظمات باتت كلما أحرزت مساحة من التقدم، تهالك معها العمل السياسي وفقد المزيد من قواه وموارده البشرية.

وحين اندلعت انتفاضات « الربيع العربيّ»، تبيَّنَّا أنّ الفراغ الحزبيَّ (في الانتفاضات تلك) طُبِخ على نارٍ هادئة لحقبة طويلة، وأنّ قوى المجتمع المدني كانت من جمْرات نارِ الطبخِ تلك ، وأنّ الذي هندسَ الداخل العربي من خارجٍ إنما أراد أن تصل الأوضاع إلى حال الفراغ؛ التي تتيح للهندسة السياسية الخارجية أن تُعْمِل أدواتها من غير مقاومة. أما منظمات المجتمع المدني العربية، التي تغذى أكثرُهَا من الدعم الخارجي، وارتبط بجدول أعمال مراكز العولمة وهيئات التمويل، فلم يكن المطلوب منها أن تبني شيئاً على أنقاض ما تهدم، بل أن تُحْدِث الهزات المطلوبة في الاجتماع العربي وتنسحب إلى الخلف تاركةً لِمن يملك رؤيةً ومشروعاً أن يقوم بإنجاز تركيب ما تفكَّك على منوال ما شاء. ومن أسفٍ أنّ الوحيد الذي كان، ومازال، يملك ذلك هو الأجنبيّ!

لقد اقترن تلميع العمل المدني بحملة دعائية ضد العمل السياسي، والمنتسبين إليه؛ حيث قدّم في صورة عمل إيديولوجي تمارسه نخبةٌ معزولة، ولا يتناول «قضايا الناس» اليومية والمصيرية، بقدر ما يعلّقها على حلول سياسية مُرْجَأة أو مُرحَّلة إلى حين تغيير الأوضاع السياسيّة. وهو، إلى ذلك، (أي العمل السياسي) اتُّهم بتجاهُله للقضايا الاجتماعية الأساس، أو بتسييسه للاجتماعي Le social ،وبالتالي، تغييبِه من خلل ذلك التسييس. ولكن، من الحقّ أن يقال إنّ الحملة الشنعاء تلك ما حظيَت بالنجاح، وما انطلت حيلتُها على الجمهور العريض، إلاّ لأنّ العمل الحزبي كان في حال من التأزُّم الذاتي، والموضوعي، ولم يكن يسعه – لهذا السبب- أن يرد عنه غائلة تلك الحملات الهجومية، ويحمي صورته وسمعته من إرادة التشويه؛ فهو وإن كان يتميز من العمل المدني بكونه لا يُجزّئ قضايا النضال فيتناولها معزولة عن بعضها بعضاً، كما يفعل العمل المدني، بل ينظر إليها في كلّيتها المتصلة بالسياسة والسلطة، إلاّ أنه، في الوقت عينه، سقط في النظرة الاختزالية-الإلحاقية إلى القضايا الاجتماعية، فلم يُفرِد لها مساحة من الاستقلال النسبي عن السياسي ؛ وذلك كان مقْتلُه.

 

الثلاثاء : 16 أكتوبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …