يعتبر المنهج الإسقاطي آخر مناهج الاستشراق، بعد المنهج التاريخي، ثم المنهج التحليلي، ومنهج الأثر والتأثر.. وهي المناهج التي تم تناولها في مقالات الأسابيع السابقة. والمنهج الإسقاطي هو المنهج الذي يسقط فيه المستشرق من ذاته على الموضوع. فتتحول ذاته إلى موضوع، كما هو الحال في النرجسية. وتتحول الموضوعية الخالصة إلى ذاتية خالصة. فيسمى الإسلام مثلا «المحمدية»، كما فعل «جِبْ» قياسا على المسيحية نسبة إلى المسيح أو البوذية نسبة إلى بوذا أو الكونفوشوسية نسبة إلى كونفوشيوس أو التاوية نسبة إلى تاو.. مع أن الإسلام غير مشتق من اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بل من لفظ «سلم»، أي الاستسلام لله أو السلام في العالم أو المصالحة مع النفس. ويُقال إن الإسلام يخلط بين الدين والدولة، بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.. لذلك فقد استحالت العلمانية من هذا المنظور. وهو إسقاط من ذهنية المستشرق وتجربته الحضارية في بداية العصور الحديثة في الغرب، التجربة التي قامت على فصل الكنيسة عن الدولة بعد أن كانت الكنيسة مانعا لحرية الفكر باسم الإيمان، وحرية الاختيار باسم السلطة الدينية.
ما في ذهن المستشرق هو أحكام مسبقة من ثقافته ودينه وتحيزاته الخاصة، يتم إسقاطها على الموضوع، فتغطيه وتكون بديلا عنه. وقد يصل الأمر إلى حد التعصب لهذه الأحكام الإسقاطية الخاصة.
وأشهر دراسة عربية ذاع صيتها وأثّرت في الغرب أكثر مما أثرت في الشرق، هي كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، الأستاذ والمفكر الفلسطيني الذي تخرج من كلية فيكتوريا بالإسكندرية في مصر، ثم أصبح أستاذاً بجامعة كولومبيا بولاية نيويورك. وهو الذي حوّل نقد الاستشراق من مستوى الخطابة والدفاع عن الإسلام، إلى مستوى المنهج العلمي الرصين، خاصة نقده المنهج الإسقاطي وبيانه كيف يسقط المستشرق من نفسه تصوراتٍ تعبر عن ذاته أكثر مما تعبر عن الموضوع المدروس. كما أن هناك دراسات أخرى لرضوان السيد، ومحمود حمدي زقزوق في ذات الاتجاه. وأفضل دراسة هي ما يختبره الباحث ذاته الذي عاش مع المستشرقين، أي درس معهم وقرأ لهم وعرفهم من الداخل والخارج على حد سواء.
كان الهدف من الاستشراق التعرف على الشرق، حيث تمت شرقنة الشرق، أي تخيله شرقاً بفعل التخيل وليس بفعل الإدراك. وهناك بُنى استشراقية في وعي المستشرق أعادت خلق بنى جديدة في ذهن القراء. وهناك دراسات عربية عديدة عن الاستشراق باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، يمكن تصنيفها في نوعين، أولهما الدراسات العربية العلمية الجادة التي تحلل الخطاب الاستشراقي وتكشف المسكوت عنه في هذا الخطاب، بالاستناد إلى مناهج تحليل الخطاب، وبأسلوب علمي هادئ لا انفعال فيه، ولا هجومَ على الآخرين من أجل الدفاع عن الذات. أما النوع الثاني من هذه الدراسات فهو دراسات خطابية دفاعية عن الإسلام وهجومية على المستشرقين، ينقصها التحليل العلمي الدقيق. وهي ترد على الشبهات المثارة استشراقياً حول الإسلام بالاعتماد على نصوص الكتاب والسنة، التي لا يؤمن بها المستشرق أصلا، وكأنها تخاطب المسلمين وليس الغربيين، الجمهور وليس العلماء.. وهي بالعربية رغم أن المستشرقين يكتبون باللغات الأجنبية. وهي دراسات لا يعتد بها، لا عند المستشرقين ولا عند الباحثين العرب. إنها نوع من إبراء الذمة من خلال القول بأن العرب والمسلمين قد قاموا بواجبهم، وردوا الصاع صاعين، وفضحوا نوايا المستشرقين السيئة وأغراضهم غير الشريفة، وكأن الدارس قد دخل في قلب المستشرق وعرف نواياه!