( ليس الالتزام التثبت من حقيقة وجدنا في العالم فحسب وإنما هو قاعدة لحياة صحية)

“عمونيال مونييه”

 

يطرح التزام المثقف بقضايا مجتمعه مسألة بناء روابط عضوية بين الشخصية الاستثنائية والشرط البشري وحيازته على درجة مقبولة من الثقافة الراقية واقتداره تحويل كمية المعارف المكتسبة إلى فعل حضاري.

ظهرت كلمة الالتزام الثقافي ضمن رؤية وجودية للكائن البشري تمنحه كامل الحرية والقدرة على المبادأة والفعل ضمن مسار تاريخي ووضعية اجتماعية تتميز بالمكابدة والنضال والتأثير على مجرى الأحداث .

يفيد لفظ الالتزام engagement في اللغة الفرنسية وضع المرء نفسه على ذمة مهمة معينة يجب عليه أن ينجزها ولذلك يحمل الفعل بصمة من يوقعه وبالخصوص حينما يتعلق الأمر بتكريس شخص نفسه بغية الانتماء إلى مجموعة سياسية والانحياز إلى القضايا العادلة أثناء النزاعات التي تشهدها الحياة العامة .

الالتزام موقف يتخذه المثقف يخرج به من وضعية الحياد وعدم الاكتراث ويؤكد به حضوره في الصراع الاجتماعي وانحيازه إلى جانب الحقيقة وقيامه بالواجب تجاه المظلومين وإنقاذه لأفكار التضحية والوفاء.

إن اندراج الشخصية الملتزمة في العالم عن طريق الموقف المبدئي والاشتباك الدائم مع الواقع الاجتماعي هو محاولة فصد بناء ثقافة رافضة للسائد وسعي متواصل للتغيير عن طريق الإصلاح الذي يمتد للثورة.

بهذا المعنى يتطلب الالتزام الانتماء والمشاركة والمساهمة في العمل النافع وتحمل المسؤولية تجاه الذات والغير ورسم المشروع والذهاب الميداني نحو بلورته وتحقيقه وذلك بالعزم والتصميم والإتمام والإكمال.

لقد دافعت عدة اتجاهات فلسفية معاصرة على الالتزام ونخص بالذكر الماركسية والوجودية واللبيرالية والشخصانية وطالبت بنزول الفيلسوف من برجه العاجي وخروجه من حال النخبة إلى الفضاء العمومي بغية تنبيه الغافلين وتحرير الناس من الوهم والتصدي للنزعات العنيفة والتيارات الهدامة ونشر التسامح.

غير أن البعض من الفلاسفة يفهمون الالتزام بشكل مختلف ويقتصرون على تأويل العالم بالمعنى الهيجلي بدل تغييره بالمعنى الماركسي ويبررون ذلك بالحاجة إلى التعبير عن الموجود والاكتفاء بتفسير الواقع. فالفيلسوف حسب موريس مرلوبونتي لا يمكنه المشاركة في الشأن العمومي سوى بالكلام والتعبير بشكل سلمي وعلني ولا يحصل على نصيبه من التأثير في الناس والفعل في التاريخ مثل غيره من الفاعلين ولذلك يكتفي بتسجيل الوقائع والتعليق على الأحداث وممارسة القراءة والغوص في التفكير من أجل الغد.

من جهة مقابلة تلعب الثقافة دورا بارزا في التقدم بالشعوب وتطوير المجتمعات وذلك عندما تقوم بتأطير النشاط الغرائزي ضمن أهداف حضارية باتباع جملة من القواعد الأخلاقية واحترام منظومة قيمية نافعة.

إن التثقيف هو حراثة الأرض وفلاحة الإنسان بدفعه نحو تحصيل جملة من المعارف وتكوينه وتدريبه على اكتساب منزلة متقدمة في الآداب والفنون والعلوم وقبول رؤى مختلفة والنقد الذاتي ونسبية المعرفة.

علاوة على ذلك تشير الثقافة إلى التعلم الذاتي الذي تحرص عليه الإنسانية بالانتقال من وضع الخصوصية إلى رحاب الكونية بالتزود بالقيم والتقنيات والمؤلفات التي تشجع على الانفتاح والشراكة وتقاسم التحضر.

إن الوسط الحضاري يشهد ازدهار في الخيرات الثقافية وكثرة التأليف والقص وتزايد تنظيم المهرجانات والعروض والتدوين والتوثيق والكتابة والمطالعة والقراءة وتطور حركة النقد والشعر والمثاقفة والترجمة.

يمكن للثقافة أن تصير حضارة عن طريق الانتقال من جيل إلى آخر وتكثيف التهذيب والتربية الفنية وتأهيل الناس من اجل الاقتدار على الحكم والتمييز بين الصواب والخطأ والتمرين الحر للتفكير دون قبول أي سلطة خارجية متعارضة مع العقل وتمجيد السيادة على الذات والروح العلمية ونبذ الوصاية والتبعية.

تخرج الثقافة الإنسان من مملكة الطبيعة إلى مملكة الحرية ومن النظرة المادية للأشياء إلى النظرة الذوقية للأفكار وترفعه من المستوى الغرائزي والقطيع الحيواني إلى الدائرة الاجتماعية وبراديغم القاعدة الكلية. من هذا المنطلق تفضي الثورة الثقافية الدائمة التي تعيشها المجتمعات والدول إلى التحضر الإنسي بالقطع التام مع التوحش والهمجية والبداوة والقبول الطوعي والرضا التام بالتنظيم الذاتي والتقدم التاريخي والانفتاح على الجديد. فإذا كانت الثقافة تتجدد ضمن دائرة اللغة والتاريخ والذوق وتنمو عن طريق الإحساس والوعي والتخيل فإن الحضارة المضي بالتثقيف إلى درجة عالية وممارسة الدمج والصهر والتشبيك والتجميع والرفض.إذا كانت الثقافة مكتسبة ومتعددة ونسبية وتراكمية وتظل في صراع مع الطبيعة والبداوة والتوحش فإن الحضارة تقوم على التنوع والإدماج والتوحيد وتشهد فترات تشكل وصعود وأوقات من التدهور والهبوط.كما تسافر الثقافات من مجتمع إلى آخر عبر التبادل والاستفادة والاقتباس وتتميز بالخصوصية والاختلاف وتشهد الانفصال والقطائع والإضافات والحذف بينما تنتشر الحضارة في العالم بالهيمنة وتفرض معاييرها على بقية الشعوب بالتقنيات المبتكرة والاختراعات العلمية والنفوذ الثقافي والسيطرة الأدبية ومعالم الحياة. بيد أن الثقافة تمتلك قيمة ثورية حينما تمارس دور ثوريا في تغيير الذهنيات الجمعية وفي تطوير العقول وتتمكن من زرع عادة العمل في النفوس وتقديس الوقت وتثمين الثروة والكسب والإنتاج وتهذيب الذوق. فماهي الشروط التي يجدر بالثقافة الملتزمة الحصول عليها لكي تستكمل مشروع التحضر الإنسي؟

الإحالات والهوامش:
[1] Sartre Jean Paul, l’être et le néant, partie 4, Chapitre III, p612.
Qu’est-ce que la littérature ?, chapitre II, p82.
Situations, II, pp27-28.
[2] Merleau-Ponty M, Sens et non sens, édition Nagel, p125.

 

الخميس: 11 أكتوبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …