-1- يبدو أن هناك جيلا شبابيا في طور النشوء، يسعى “من جديد” إلى القيام بطبعة جديدة من طبعات “الإصــــلاح الفكري”. الطبعات القديمة كانت قد اتخذت طابعا تحـــــقيـــقــــيّا على أساس اعتقادٍ مفاده أن الفكر “الصحيح السليم” قد كان هناك يوما، وأن النسيان قد لفّه بسبب سنّة استحالةِ الأمور بطبيعتها إلى فســـــــــاد عبر الزمن؛ فسميت تلك الحركة الفكرية بـ”الإصلاح الســـــــلفـــــي” بجميع أوجهه التي تشترك في منهج “التحـــــقيــــــق”، وذلك عن طريق انتــــــــقــــــاء أصناف من الأقوال والروايات، منذ بدايات الاصطدام التراجيدي بأوجه المدنية الحديثة (حملة نابوليون، الانتداب، الاستعمار، الامبريالية الرأسمالية، النظام العالمي الجديد).
.
-2- الطبعة الثانية الحالية من طبعات “الإصلاح الفكري” تبدو مختلفة عن الأولى؛ ولكنها ليست كذلك في جوهرها. فأقصى ما تتمثل فيه هو التجـــــــــريـــــــح، تجريح نصوصٍ ورواياتٍ، بما في ذلك بعض المدونات “المؤسّسة” (أبو هريرة، البخاري، المناقبيات، الخ.) التي عرّى الولوج الشبكي المعمّم الحديث اليومَ عن كثير من أوجهها الغريبة، التي ما كان يالإمكان المقابلةُ بينها بالسهولة المتاحة اليوم لكافة “أيها الناس”. وعن طريق أسلوب التجـــــــــــــريح ذاك، وهو أسلوب قديم/حديث، يستمر “الإصلاح” الجديد على شكل تـــــحقـيــــــق دائما، أي التحــــقيــــــق الفيلولوجي قصد بيانِ فســــــادِ مُعتمَدِ المنظومة الفكرية السائدة المراد إصلاحها. ثم إن القضايا المتناولة في أبواب العلم والمعرفة والفلسفة والاجتماع والتربية والسياسة لا يتمّ تناولها تناولا وضعـــــــــــيا موجـــــــبا في حدّ ذاتها. إنما تتمّ مقاربتها من حيث ما قيـــــــــــل حولــــــــها قصد الرد عليه وبيان عدم تماسكه، أي أسلوب الجدال والسجال، الذي هو تقليد من تقاليد ما عرف بالــــفِـــرَق والمــــــــــذاهب، التي يصبح التدافع بينها صلبَ الرهان، وتُتخَذ القضايا عبارة عن ذرائــــــــــــع ظرفية طارئة لكسب ذلك الرهان.
وفي هذا الإطار الأخير، وكعينة ملموسة لهذا الأسلوب الجديد من أساليب نيّة “الإصلاح”، أسوق نص تدوينة أخيرة من تدوينات الأستاذ عادل الحساني (مدوّنة بالعربية الدارجة):
[[سفير رائع لدى الإخوة السلفيين
صديقي الوفيّ، علي، أطـّر لينا جلسة سلفية تحاور أفكار متنورة … اليوم ناقشنا ما يسمى الــــــــــــــرقيـــــــــــة الشرعية بكل وضوح؛ ومن خلالها، معنى العِلم؛ وكانت النتيجة زويّنة…
الطرف الآخر كا يستامع بنوع من حسن الظن وهذا مهمّ … وعجبني فاش ختم الحوار … “واش فاش كا يمرض ليك الدرّي كا تجري بيه للطبيب ماشي كاتقرا عليه؟” … سالينااااا]]
-3- لو أن المرء عثر على مثل هذا الكلام وهو يجول بنظره في حوليات ومناقبيات القرون الوسطى لابتسم وقال مثلا:
“ما أطرف هذا القبيل من النقاش كعينة من عينات هموم الفكر العتيق؛ وعلى كل حال فقد سميت العصور الوسطى بالعصور الوسطى فكريا، بالرغم من كل ما يتخللها من مظاهر اعتزاز من يعتز بالفتوحات والانتصارات وإقامة الدول وقرض الشعر وتأليف المؤلفات … بل كان سيبتسم حتى لو عثر على ذلك القبيل من النقاش في القرنين 18 و19 لما أمضى المغاربة أكثر من قرن من الزمن في الإفتاء والإفتاء المضادّ في قضية عشبة الشاي والسكّر الأبيض، أهما حرامٌ بسبب علة “إفشال الباءة واللهو عن ذكر الله” أم حلالٌ بفضل مزية “تقوية الباءة التي ثبت أنها من مزاياهما (انظر كتاب “من الشاي إلى لأتاي”)”.
لكن أن يعلم المرء أن نقاشا يخصّص للـــــــــــــرقية الشـــــــــرعيّــــة، كوجه من أوجه حركة الإصلاح الفكري في مغرب اليوم، يولّد لدى العالِم به شعورَ الإحباط والإشفاق من معاينة استمرار الرسوخ الجمعي في هموم القرون الوسطى رغم كل المظاهر الخدّاعة. فمثل تلك الأمور لا تقوم وتستمرّ أو تتلاشى وتختفي بمفعول حُجّة من الحُجج أو قول فصل من الأقوال المحرجة، من قبيل “واش فاش كا يمرض ليك الدرّي كا تجري بيه للطبيب ماشي كا تقرا عليه؟” تماما كما أن مسألة الإفتاء في تحليل وتحريم الشاي مثلا لم يوضع لها حد بحجة من الحجج أو قول فصل في الموضوع، وإنما ينتهي القول في مثل تلك الثيمات بفضل قوة الواقع من جهة، وبسبب تقادم الثيمة وفقدانها لقوة استقطابها الخطابي كذريعة من ذرائع التدافع المقصود لذاته، وحلول ثيمات أخرى محلها في سوق الخطاب من جهة ثانية.
.
-4- الإصلاح من أجل التأهّل لولوج الفكر الحديث في المجتمع الحدث يتمّ على مستويات متعددة، ومنها بطيعة الحال مستوى التيسيـــــــــر العــــــام (vulgarisation) في اتجاه الجمهور ومن على منابر الجمهور؛ كل حسب كفاءته ومدى تخصّصه في ميادين العلوم والمعارف الفلسفية والاجتماعية والسياسية والتربوية … وبأساليب بيداغوجية مناسبة للجمهور على قدر المهارات البيداغوجية لصاحب التبسيط والتيسير، التي هي مهارات لا تتفرع بشكل آلي عن كمية ونوعية زاده المعرفي الصرف؛ وبطرحِ وقصدِ القضايا والمواضيع الصميميّة (thèmes pertinents) في حـــــــــدّ ذواتـــــها، وليس انطلاقا ممّا قال المُخالِف عنها.
.
-5- أذكر في هذا الاتجاه الأخير، أن الأستاذ عادل الحساني بالضبط قد دشن قبل أسابيع سلسلة من التدوينات يبسّط من خلالها مفاهيم وأفكار نظرية “التحليل النفسي”. لا يسوق تلك المضامين في إطار تفنيد زعمِ مَن زعمَ من الزاعمين و/أو الزعماء. وإنما يسوقها مبسطة كعناصر نظرية معرفية خاصة في الباب، تهدف إلى وصف وتفسير وتعليل البنية النفسية للكائن، وتبقى قابلة لمقارعة مضامينها بالمعطيات الميدانية التجريبية. كما أن هناك أناسا آخرين يقومون بنفس المهمة التيسيرية في حقول أخرى كالسياسة والتاريخ والتربية واللغة وغير ذلك من الأمور الصميمية في المجتمع القائم الحيّ.