يلاحظ الباحثون في شؤون الشرق الأوسط أن هناك انهيارا لبعض بلدان هذه المنطقة، حيث لا تستطيع البلدان المنهارة التي شكلت قاعدة للقومية العربية إعادة توحيد نفسها كما كانت في السابق باعتبارها دولا ذات سيادة. ويبدو أن الصراع في هذه البلدان أصبح السمة الرئيسة لظاهرة غير محدودة العواقب. ومن هناك، فقد تفتت الدول إلى وحدات طائفية وقَبَلِية تعيش في حالة نزاع عنيف فيما بينها، وتتلاعب بها قوى إقليمية وخارجية، فلا تعرف غير استخدام القوة، ما أدى إلى انهيار الدولة، وبقاء هذه البلدان بدون سلطة جديدة تمنحها لها الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع. كما ظلت هذه الفصائل المتنوعة تخوض نزاعا مفتوحا مع القوى الأخرى داخل البلد الواحد، مما حول أجزاء من البلد إلى مناطق عنف وفوضى، بشكل لا تستطيع معه الحكومة المركزية بسط سيطرتها على الحدود الوطنية لبلادها. وقد تنفلت منها بعض الفصائل المقاتلة كما حدث مع حزب الله، والقاعدة،
وطالبان وداعش. كما حدث هذا في العراق وليبيا وإلى حد خطير في باكستان.
يرى هنري كيسنجر في كتابه “النظام الدولي” أنه عندما تعجز الدولة عن بسط سلطتها على مجموع أنحاء بلدها، فهو ينهار، وقد يؤدي انهياره إلى تفكك النظام الإقليمي والدولي، فتصبح بعض المناطق خارجة على القانون والنظام. ومن ثمة، يمكن أن يفضي انهيار الدولة إلى تحويل أراضيها إلى قاعدة للإرهاب وتهريب السلاح وتفريغ الحقد الطائفي والقَبَلِي، وتصبح المحاور الخارجة عن سلطة الدولة ممتدة على مساحة واسعة من العالم الإسلامي، كما يلاحَظُ اليوم حيث خرجت مناطق عن سيطرة الدولة المركزية في ليبيا، واليمن، وغزة، وأفغانستان، وسوريا، والعراق، ونيجيريا، ومالي، والسودان، والصومال. وقد تتسع رقعة النزاعات فنتقل إلى بلدان الجوار، مثل ما يجري في جمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، وجنوب السودان. وفِي ظل هذا الفراغ، يبدو العالم الإسلامي وسط نزاع شبيه بما عرفته أوروبا في القرن السابع عشر من حروب دينية…
يؤدي انهيار الدولة إلى انهيار مؤسساتها، وتفكك بنيات المجتمع، فتفشل الدولة في تدبير علاقتها مع المواطنين وتعجز عن تلبية حاجاتهم والاستجابة لتطلعاتهم، وإدارة شؤون حياتهم اليومية، ما يعني الانهيار التام للدولة، كما يحدث اليوم في بعض بلدان الشرق الأوسط، ويدل أيضا على انهيار المجتمع في كليته.
ويترتب عما سبق أيضا انهيار مفهوم الوطن، ونهاية فكرته، كما كان يتم التغني بها من قبل، فتحل محلها فكرة الطائفة أو القبيلة، ولا يعود المواطن مواطن الوطن بقدر ما يصبح مواطن القبيلة أو العشيرة، أو العائلة، أو الطائفة.
بناء على ذلك، يبدو أن الشرق الأوسط قد أصبح جزءا من لعبة الأمم، ومرحلة من مخطط دولي كبير، وجزءا من مستقبل العالم. وأخشى أن تدخل هذه المنطقة في حرب طويلة تنشب بين المسلمين والمسلمين بتحريك من قوى غربية وشرقية. وإذا ما حدث ذلك، فسنكون أمام وضعية مخالفة لمنطق التاريخ الحديث، بما أن الحرب التي كانت بين بني هاشم ومعاوية في القرن الأول ستكون ما تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وهو ما يشكل نكوصا يتعارض مع العقل، ويُظهر أننا لا نعيش في التاريخ، بل أصبحنا مجرد ألفاظ لا علاقة لنا بالتاريخ أصلا؛ نكتفي بالتفرج على مجرياته تمر أمام أعيننا ونحن جالسون في شُرفة، أو نتحرك في رقعته، لكن باعتبارنا بيادق يحركها غيرنا من خارجها، ولا نتحرك من تلقاء أنفسنا.