أسس التفكير الفاشي:

    يقول “فلا ديمير جابو تنسكي” حول طبيعة الفاشية  ومواقفها من الآخر: ( كل إنسان آخر على خطأ وأنت وحدك على صواب, لا تحاول أن تجد عذراً من أجل ذلك, فالأعذار غير ضرورية وغير صحيحة, بوسعك ان تعتقد أي شيء في العالم, إذا اعترفت ولو لمرة واحدة أنه ربما يكون خصومك على صواب, لا توجد في الواقع إلا حقيقة واحدة, وهي بكاملها ملكك أنت, وإذا لم تكن واثقاً فابق في بيتك, وإذا كنت واثقاً لا تتطلع إلى الوراء هي ستأتي في اتجاهك).(1)

مقدمات  في العنف والعنف المضاد في الدولة الاسلامية:

  لم يأخذ المسلمون بحديث الغدير الذي اختلف انصار علي ومعارضيه على دلالات مفردة الموالاة, (اللهم والي من والاه), حيث فسرها أنصار علي بـ (الولاية – الخلافة), بينما فسرها معارضو علي بـ (المحبة والمودة). كما لم يقتنع معارضو علي بالدليل النصي المقدس الذي قال أنصار علي بأن الله قد أمر الرسول آنذاك أن يبلغ المسلمين ممن كانوا معه رسالته بشأن علي, وهي الآية التي على أساسها تمت خطبة أو حديث الغدير : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). (المائدة – 67).

    كان الرسول على فراش الموت… والأنصار والمهاجرون في السقيفة يتداولون في أمر الخلافة. بينما علي كان إلى جوار الرسول, وبقربه أبو سفيان يؤلب العصبيات القبليات, محرضاً علي على أخذ الخلافة, وطالباً منه أن يمد يده ليبايعه, فكان رد علي عليه 🙁 إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة)… ودعوة علي لأخذ الخلافة جاءت في الوقت نفسه, وفي المكان نفسه من عمه العباس, فشعر بأن دعوة عمه ستشكل موقفاً قبلياً, فرد على عمه قائلاً: إني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج).

    لم يُبَايَعْ علي الخلافة, لا عن طريق الشورى (وأمرهم شورى بينهم), ولا حسب وصية الغدير. بل بُويع أبو بكر بعد سجال حاد بين المهاجرين والأنصار:

  قال الأنصار: (نحن أحق بها, لأنا من أوائل الذين آمنوا بالرسول ونصره.).

    فرد المهاجرون: (نحن أحق بها, لأننا أسبق في الإسلام ومن هجر أهله وماله في سبيله , ونحن قرابته أيضاً.).

    قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير).

    رد المهاجرون: (منا الأمراء ومنكم الوزراء.).

    وهنا وضُع لأول مرة حديث على لسان الرسول من قبل دعاة السلطة ومريديها من القريشين لتثبيت أمرهم وشرعنته: (الخلافة في قريش ما بقي من الناس إثنان.). عن الصحيحين. (مسلم والبخاري).

    لم يبايع “سعد بن عبادة وعشيرته, وتركوا السقيفة ليشكلوا أول معارضة للسلطة في الإسلام, وليكون سعد بن عبادة بعد أن رفض بيعة أبي بكر وعمر, أول قتيل في المعارضة أيضاً, وكانت طريقة قتله أول وسيلة تمارسها السلطة وينطبق عليها المثل الشعبي القائل: (تقتل القتيل وتمشي في جنازته). حيث شُيع بين الناس بأن من قتل سعد بن عبادة هو الشيطان كونه بال واقفاً, أو بال في حفرة.

    أما معارضة علي, فقد تصدرت لها “فاطمة” زوجة علي وبنت رسول الله, إذ امتطت ظهر جملها وراحت تطوف في شوارع المدينة وأسواقها تطالب الناس البيعة لعلي, وتطعن ببيعة أبي بكر, فكان رد من صادفها من المهاجرين والأنصار بقولتهم الشهيرة: (لقد بايعنا الرجل). وانتهى الأمر.

    من هنا ابتدأت مأساة العنف في الخطاب الإسلامي والدولة الإسلامية معاً, ومن هذا المنطلق الغائم لمفهوم السلطة وآلية الوصول إليها, وبالتالي حتى آلية عملها وغنيمتها, اندفع المتنافسون عليها إلى العنف, وتسخير النص الديني المقدس تفسيراً وتأويلاً ووضعاً أو انتحالاً خدمة لشرعنة هذه السلطة والحفاظ عليها, وبإسم ذلك رفع السيف وانتُهكت الأعراض وحُرقت المقدسات.   

    استلم أبو بكر الخلافة, فكانت الردّة عن الإسلام من بعض القبائل التي دخلت الإسلام بحد السيف, حيث كانت العصبية القبلية وروح الزعامة في أوجها, ولم يستطع الإسلام  حتى التخفيف من غلوائها (ولن يستطع) رغم محاربته لها, فراحت هذه القبائل بزعمائها يحسدون قريش على زعامتها الدينية, هذا اضافة للخلافات بين المهاجرين والأنصار على هذه الخلافة, ثم لموقف اليهود وتحريضهم على الخلافة الإسلامية. هذا مع ظهور عدد ممن ادعى النبوة بعد وفاة الرسول وراحوا يبشرون بدعواتهم مثل: مسيلمة الكذاب, والأسود العنسي في اليمن, وطليحة بن خويلد في غطفان.

    إن الملفت في أمر السلطة هنا, أن أبا بكر قد أرسل كُتباً للقبائل المرتدة يطالبهم بالعودة إلى الإسلام, وإن رفضوا العودة, سيمارس بحقهم  كل أساليب ( العنف) من قتل وحرق وسبي لنسائهم وذراريهم, وأنه سيجبرهم على دفع ما كانوا يؤدونه للرسول من (ضريبة), حتى ولو كان ثمن عقال بعير. والمؤسف أن هذا الوعد نفذ, وكان من أبز ضحاياه مقتل (مالك بن نمير) وأخذ زوجته زوجة لخالد بن الوليد (سيف الله المسلول), بعد أن أغراه جمالها, فكان هذا الجمال بقعة سوداء في تاريخ حروب الردّة.

    انتقل أبو بكر إلى جوار ربه, وتذكر بعض المصادر أنه مات مسموماً, وبموت أو مقتل أبي بكر استلم عمر الخلافة بأمر من الخليفة أبي بكر قبل رحيله, دون قيد أو شرط. كان رجلاً عادلاً أعز الله به الإسلام, وكان أول خليفة يستخدم العقل في فتح النص الديني على كل مقاصده ونظمه وأحكامه, فقرأه قراءة تعمل على مجاراة الواقع ومستجداته, فكان له مواقف عقلانية مشرفة في ذلك, كموقفه من السرقة في عام الرمادة, وكذلك موقفه من المؤلفة قلوبهم, وأراض سواد العراق. ونتيجة مواقفه هذه وخاصة الايجابية منها تجاه الفقراء والمحرومين, وحرمان المؤلفة قلوبهم من الزعماء وشيوخ القبائل من حصتهم في الغنائم التي كانت تعطى لهم لشراء ضمائرهم حتى لا يرتدوا عن الإسلام, ثم لعدم توزيع أراضي سواد العراق المفتوحة على المقاتلين وتجار الحروب, وغيرها من مواقف اتخذها عمر ضد حركة وتنقل أغنياء قريش, ألب عليه المؤلفة قلوبهم وتجار الحروب الذين شكلوا طبقة غنية واسعة الثراء, فكانت النتيجة قتله على يد رجل مستعبد لاحول له. وقبل موته كلف ستة من الصحابة في اختيار الخليفة بعده, وبعد أن رفض تكليف ابنه عندما أشار إليه بعض انتهازي السياسة تكليفه إذ رد عليهم قائلاً: (يكفي آل الخطاب واحد يتحمل وزر هذه الأمة).

    استلم عثمان بن عفان الخلافة, فقرب من حاربهم عمر ومنع مغادرتهم المدينة.. ووزع الأطيان والأموال على أهله وأصحابه, وتصرف ببيت مال المسلمين على هواه, حتى وصُف في كتب التاريخ بأنه (وضع أسناناً من ذهب) كناية على ثرائه, (وهو ثري في الأصل), ولتبذيره وتصرفه بأموال المسلمين, الأمر الذي أغضب الفقراء والمحرومين, ومن وجد في غضبهم من المعارضة مصلحة سياسية… فطلبوا منه التخلي عن الخلافة أو القتل.. فقال رافضاً طلبهم : (هذا قميص ألبسني الله لي فلن أتخلى عنه), وهو بذلك أول من جعل من السلطة تفويضاً إلهياً … حُوصر في منزله وراح يقرأ القرآن.. لم تنفعه قراءته له ولم تحميه… قتله الفقراء ومن كان يقودهم من المعارضة.

    بُويع علي بن ابي طالب, فوجد في المعارضة بعض المتطرفين ممن حرضوا على عثمان  وراح يقول بأحقية علي بها, بل تجاوز الأمر ذلك مع “عبد الله بن سبأ” الذي راح يبشر بمذهب الوصاية, أي أن علي وصي محمد, وأنه خاتم الأوصياء بعد محمد خاتم النبيين, واتهم أبا بكر وعمر وعثمان بالتعدي على حق علي بالخلافة, كما روج بين المسلمين يومها نظرية (الحق الإلهي) التي أخذها عن الفرس, والتي تعني في هذا الموضع أن علياً يستمد حكمه من الله. (2). وهذا ما ألب خصوم علي عليه فوجدوا في هذا القول كفراً وخروجاً عن الدين الذي بشر به محمد, بل هذا الموقف ذاته من السبئي أغضب علي نفسه وأمر بقتله.

    ابتدأت المعارضة المسلحة لخلافة علي مع عائشة وحرب الجمل, حيث كان طموح الزبيرين في هذه الخلافة, وتحريض آل الحكم من البيت الأموي وراء قيامها.. انتصر علي وصحبه في هذه الحرب, وإن كان طموح الزبيرين في الخلافة قد هدأ قليلاً بعد صفين, إلا أن طموح البيت الأموي صعد مع معاوية.   

    كان معاوية والياً على الشام, وقد حركته شهوة البيت السفياني للسلطة التي لم تطفئها عقيدة الإسلام, فالدماء الزقاء لم تزل تتدفق بقوة في عروقه وعروق البيت السفياني.. وقف معاوية ضد خلافة علي ورفض مبايعته, متهماً إياه بدم عثمان الذي تحول قميصه الملطخ بالدماء إلى راية للمعارضة الأموية, هذه المعارضة التي وجدت في قول علي ووعيده بحق من استفاد من خلافة عثمان, تهديداً لها, حيث جاء في تهديده: (ألا أن كل قطعة اقتطها عثمان, وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال, فإن الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء وفُرق في البلدان, لرددته إلى حاله, فإن في العدل سعة, ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.). (3). أمام هذا القول لعلي كان الضيق أولاً على معاوية الذي وجد في علي تهديداً مباشراً له ولكل من حاباه عثمان من الأمويين. فكانت صفين ولعبة التحكيم بين أبي موسى الأشعري  في سذاجته, أو موالاته لمعاوية غير المعلنة, وبين عمر بن العاص بحنكته ودهائه, وبعورته التي لم تزل تقبح وجه التاريخ… رفعت المصاحف, فكانت الطامة الكبرى على الإسلام والمسلمين معاً, حيث شُرعنة السياسية, وراح يُؤكد من جديدي هنا توظف الدين فيها كما وظفت في السقيفة. فقال علي قولته المشهورة : (القرآن حمال أوجه.).

    مع صفين انفصل قسم من المقاتلين عن علي ومعاوية, وكانوا الخوارج, الذين وجدوا في صراع علي وماوية صراع بيوت قبيلة قرشي بين بعضهم على السلطة, وبالتالي هي حرب ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل.

   ومع ظهور الخوارج قُتل علي, واستلم معاوية السلطة, وأكدها ثانية بعد عثمان كحق إلهي يمنحه الله لمن يشاء ويمنعه عن من يشاء. وقبل موته وهو على فرش الموت اجتمع حوله الولاة, فوقف أول انتهازي سياسي في الدولة الإسلامي وهو “يزيد بن المقفع” وكان والياً على شرق الأردن ليقول للولاة بحضور معاوية: (أمير المؤمنين هذا,- وأشار إلى معاوية- وإن مات هذا فهذا- وأشار إلى يزيد- وإن مات هذا فهذا, – وأشار إلى السيف.). فُسر معاوية من قوله وقال له: ( تعال واجلس إلى جانبي فإنك والله خير المتكلمين ). ويكون يزيد بن المقفع بقوله هذا قد أسس ومعاوية معاً للحكم الوراثي, واستخدام العنف بحق كل معارض. وهذا ما كان فعلاً بعد تولي يزيد السلطة حيث سالت الدماء دون حساب في عاشوراء, حيث نكل بالحسين وآل البيت العلوي من بعده, كما سالت الدماء وانتهكت بكارات العذارى في حراء, تلك المعركة التي نال فيها أهل المدينة الذين عارضوا خلافته وخلافة أبيه قبله, مالم تنله معارضة في تاريخ الدولة الإسلامية, حيث تذكر المصادر بأن آلاف النساء العذارى قد فكت بكارتهن, وقتل آلاف الرجال وسلبت أموالهم ودمرت بيوتهم, وقد تجلت في هذه المعركة الروح القبلية الثأرية التي دعا الإسلام إلى تجاوزها, فهذا قائد يزيد بن معاوية “مسلم بن قبة”  في حملة (حراء) ينشد بعد انتصاره على أهل المدينة من الأنصار قائلاً:

    ليت أشياخي ببدر شهدوا     جزع الخزرج من وقع السل

   ثم جاءت بعد ذلك غزوة مكة في عهد عبد الملك بن مروان, ضد معارضي حكمه وعلى رأسهم  “عبد الله بن الزبير” الذي قام بصلبه وحرق الكعبة ذاتها. ثم استوى بعد قتل الزبير على عرش الخلافة وقال: (من يقل لي بعد اليوم اتق الله سأقطع رأسه بهذا السيف.).

    من هنا ابتدأ العنف المسلح بين السلطة والمعارضة, ومن هنا راح الطرفان يتخذان من الدين ونصه المقدس (القرآن والحديث) ذريعة أو حجة لشرعنة ما يمارسونه من عنف بحق بعضهم البعض. ومن هنا انشق الإسلام عقيدة وتشريعا بين إسلام جبري وآخر قدري, وعادت القبلية وعصبياتها تظهر على الساحة السياسية بين الأمويين والهاشميين (العلويين والعباسيين) من البيت القرشي بكل عنفها وجبروتها. ومن هناك تَدخل الأعاجم في السلطة وكانت الفرق والطوائف والمذاهب التي تقول كل واحدة منها بأنها وحدها الفرقة الناجية وما عداها كفرة وزنادقة, وراحت تشكل محاكم التفتيش وما يرافقها من عنف لقتل الناس على الهوية السياسية أو المذهبية أو الطائفية.

 

التأصيل التاريخي للفاشية في الدولة الإسلامية:

ظهور الخوارج:

بعد التحكيم في صفين, انشق فريق من المقاتلين الذين وجدوا في الصراع بين علي ومعاوية صراع عشيرة وقبيلة على السلطة, وهم ليسوا أكثر من أدوات فيها, واعتصموا بعد انشقاقهم في منطقة (حروراء) قرب الكوفة ونادوا بأن تكون الخلافة شورى, والبيعة لله, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وسموا منذ ذلك اليوم بالخوارج.(4). وبناءً على هذا الموقف السياسي والعقيدي راح الخوارج بعد أن استفحل أمرهم وتبلور موقفهم السياسي والعقيدي ينظرون إلى غيرهم من المسلمين كفاراً تُستحل دماؤهم وأموالهم معتمدين في موقفهم هذا على الكثير من الآيات المدنيات والأحاديث  التي تبرر قتل الكفار. وهم هنا يتطابقون في الحقيقة مع العقلية اليهودية التي رسمتها مبادئ (التلموذ).(5). أما أهم هذه الآيات والأحاديث التي اعتمدوا عليها في موقفهم هذا فهي, كقوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ). (النساء- 89). وقوله تعالى: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27). (سورة نوح). وقوله تعالى:  (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). البقرة – 39).

    أما في الحديث فقد اعتمدوا على قول الرسول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .).رواه أبو هريرة. عن الصحيحين – مسلم والبخاري.

    وقبل أن نناقش دلالات وأبعاد هذه النصوص المقدسة الداعية للقتال, دعونا نقف عند هؤلاء الخوارج كأول فرقة إسلامية مارست القتل بطريقة فاشية على المختلف معها فكراً وممارسة من خلال اعتمادهم على النص المقدس, ووفقاً لما فسروه أو أولوه لهذا النص. هذا وقد تفرق الخوارج إلى فرق وشيع كان أهمها:  الأزارقة, نسبة إلى عبد الله بن الأزرق- والصفوية- نسبة إلى عبد الله بن الصفار السعدي- والإباضية – نسبة إلى عبد الله بن إباض- والبيهسية- نسبة إلى حنظلة بن بهيس- والرسيّة- نسبة إلى عبد الله بن وهب الرسي. وهناك أيضاً النجدية نسبة إلى نجت بن عامر…

    أما أهم أهدافهم ومبادئهم  بعد أن نصبوا من أنفسهم دعاة حق وعدل, ومدافعين عن الفقراء والمستضعفين, وحرباً على المستبدين الطاغين.

   أولاً: اعتبار الخلافة حق لكل عربي حر, ثم تجاوزوا هذا الشرط وقالوا هي حق لكل مسلم , وإذا جار استحلوا عزله أو قتله عند اقتضاء الضرورة ذلك.

    ثانياً: رسموا الدور الذي يحب أن يقوم به الحاكم وهو إقامة العدل بين الناس, وتقسيم الفيء على الرعية حتى لا يستأثر به أحد, والمساواة بين الناس في الأرزاق, وتأمين حاجات العامة, وإفداء الأسير ومجاهدة العدو.

    ثالثاً: أما بالنسبة لرؤيتهم في مسأة الايمان, فقد قالوا بأن العمل بأوامر الدين من صلاة وصوم وصدق وعدل تعتبر جزءاً من الإيمان, وليس الإيمان الاعتقاد بالله ورسوله ورسالته, فمن اعتقد أن لا إله إلا الله ثم لم يعمل بما فرضه الدين وارتكب الكبائر فهو كافر.

    رابعاً: لقد كانوا قساة مع من يخالفهم رؤيتهم في العقيدة وأمر السياسة, ورحماء مع المشركين. لقد كانوا يأتون أفظع المنكرات وأكبر الكبائر كأنهم لا يدينون بإله ولا يعرفون شفقة. لقد قال صاحب أحد فرقهم وهو نافع: بأنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يجيبوا أحدا من غيرهم إذا دعاهم للصلاة, ولا أن يأكلوا ذبائحهم, ولا يتزوجوا منهم, وهم في نظره مثل كفار العرب وعبدة الأوثان. وقال عن بلادهم هي بلاد حرب ويحل قتالهم وقتل أطفالهم ونسائهم لأنهم كانوا يعتقدون أن أطفال مخالفيهم مشركون, وأنهم مخلدون في النار.

    خامساً: كما كان الأزارقة لا يجيزون التقية, وكانوا يستحلون الغدر بمن خالفهم, ويكفرون القعدة عن القتال ممن هم على رأيهم, وأوجبوا امتحان  من ينضمون إليهم بتكليفهم بقتل أحد أسراهم, فإن قتله صدقوه, وإن مانع قالوا عنه منافقاً وقتلوه.

    سادساً: أسقطوا الرجم عن الزاني المحصن لعدم ورود نص, وكذلك على من قذف الرجل المحصن, ولكنهم أقاموا الحد على المحصنات من النساء. (6).

    تعتبر بقية تياراتهم تنوس بين قبول هذه المبادئ أو رفضها أو تعديلها أو الإضافة إليها.

    إن مشكلة الخوارج وكل من آمن بهذه الدرجة من العنف سابقاً ولاحقاً, هي اعتمادهم على الآيات القرآنية والأحاديث المتعلقة بجهاد الكفار التي جئنا على بعضها في موقع سابق, حيث اعتمدوا هنا في تفسيرهم أو تأويلهم لهذه الآيات ثم العمل على تطبيقها بناء على القاعدة الفقهية التي تقول بضرورة الأخذ بعموم اللفظ بدل النظر بخصوص السبب. وهذا ما أدخلهم كما أدخل غيرهم ممن آمن بالعنف ضد المختلف/ الكافر, منطلقين من فهمهم الخاص لطبيعة الكافر وماهيته. أي منطلقين من فهمهم هم لمعنى الكفر الذي راحت تهمته تنال كل مخالف لهم أو لمصالحهم تحت ذريعة أنهم يخالفون تعاليم الدين الصحيح, بالرغم من اختلاف الأولين من الصحابة أنفسهم في تفسيره أو تأويله أو حتى الخوض فيه. لا سيما وأن هذا النص المقدس, أي النص القرآني قد جمع بعد أربعة عقود ونيف من وفاة الرسول. وإن الرسول نفسه لم يأمر بجمعه, وكان يقول في تعدد وجوه آيات القرآن : (القرآن ذلول ذو وجوه محتملة, فاحملوه على أحسن وجه).(7). وهذا الحديث يأتي مستنداً إلى الآية القرآنية التي تقول: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.). (آل عمران- 7).

    ومن الآيات المتشابهات التي بررت مسألة القتل, نأخذ مثالاً على ذلك الآية التي ذكرناها اعلاه وهي : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا .) النساء- 89. في الوقت الذي نجد فيه آيات تقول عكس ذلك تماماً, كالآية التالية التي تقول دلالاتها إن من يحاسب الكافر هو الله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.). التوبة -129. أو الآية القائلة : (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.). النحل -101.

    ربما يعلق البعض ويقول إن هناك آيات نسخت كقولهم في الآية الخامسة من صورة التوبة : (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). التوبة – 5). إذ أن هذه الآية قد نسخت برأيهم خمس مائة آية من الآيات المكيات. وهذا القول أي قول الناسخ والمنسوخ قضية إشكالية لا يحق لأي كان أن ينسخ على هواه ويقول كما يقول أبو حامد الغزالي إن الحديث ينسخ القرآن والقرآن ينسخ الحديث. علماً أن هناك مئات الآلاف من الأحاديث الموضوعة, وأبو حامد نفسه اعتمد على أكثر من ألف حديث ضعيف. إن النسخ يتم من قبل الله وحده وهو القائل: ((وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مقتر بل أكثرهم لا يعلمون.). النحل-111. لذلك نؤكد بأن النسخ من حق الله وحده, والله أكد في القرآن ورود الآيات المتشابهات, وقال إن من في قلوبهم زيغ هم من يفسروها ويؤولوها كما يشتهون خدمة لمصالحهم الأنانية الضيقة. وبالتالي فإن كل الأحاديث اتي تقر بالقتال الواردة على لسان الرسول إن لم ينظر في خصوصية سببها, فهي موضوعة وتناقض قول الرسول ذاته وهو من قال : كما جاء عند مسلم والبخاري والترمذي : (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن, ومن كتب عني غير ذلك فاليمحه.). وهو القائل أيضاً : (“كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف”.). (من كتاب روضة الواعظين).

    على العموم نود أن نقف هنا في ختام حديثنا عن هذه المسألة وخاصة فيما يتعلق بالتفسير والتأويل عند آراء بعض المشايخ وهي على درجة عالية من الأهمية.

    ذكر القاضي أبو بكر العربي في كتابه (قانون التأويل): (إن علوم القرآن خمسون علماً وأربعمائة وسبعة وسبعين ألف علم, على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة ثم يتابع حديثه: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي منها أكثر. فلكل كلمة حد وظاهر وباطن ومطلع.). (9). هذا مع تأكيدنا هنا أن هذا القول سلاح ذو حدين, ففي الوقت الذي نستطيع توظيفه ضد من يحاول أن يفسر النص أو يؤوله على هواه, هو سلاح أيضاً بيد القوى السلفية التي تريد إيقاف باب الاجتهاد, وإيقاف حركة الزمن عند القرون الهجرية الثلاثة الأولى. كما نود أن نذكر هنا قول عبيدة بن قيس الكوفي المتوفى سنة اثنان وسبعون للهجرة من أصحاب ابن مسعود عن سبب نزول بعض آيات القرآن حيث قال :

(عليك باتقاء الله والسداد, فقد ذهب الذين كانوا يعلمون فيما نزل القرآن.). (10). وقد روي عن أحمد بن حنبل قوله: (ثلاثة أشياء لا أصل لها, التفسير والملاحم والمغازي.(11). وإذا كان ابن حنبل لا يعتبر للمغازي أصلاً وهي جرت في زمن الرسول, فكيف يقول إن (الحديث الضعيف عندي أهم من الرأي.)؟. أعتقد أن هذه المسألة فيها نظر. وهذا الشعيبي يقول في الاتجاه نفسه : ( ثلاثة لا أقول فيهن حتى أموت, القرآن والروح, والرأي.).(12). أما الأصمعي فكان شديد الاحتراز في تفسير القرآن والسنة, وإذا سئل قال: (قالت العرب معنى هذا كذا ولا أعلم المراد منه في الكتاب والسنة أي شيء. ). (13.).

    وبناءً على كل ذلك, فإن اعتماد حاكمية الخوارج ومن جاء بعدهم من القوى السلفية الجهادية المعاصرة على الآيات والأحاديث الدالة على القتل وتقطيع الأوصال للمختلف تحت ذريعة الفرقة الناجية, ومصادرة حق تفسير وتأويل القرآن كما يريدون, هو أمر يخالف قول نص الآية التي تقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). الأنبياء- 107). ويخالف نص الآية القائلة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.). سبأ 28. وغير ذلك من الآيات التي تقف ضد العنف وإجبار الناس على اتخاذ الدين بالقوة. كما يدخل في هذا الاتجاه قول الرسول نفسه في حديثه المشهور : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فالرحمة والقيم الأخلاقية النبيلة لا تفرض بقوة السيف ولا بتكفير الآخر وقطع الرؤوس.

الحاكمية في الخطاب السلفي الجهادي المعاصر:

    تُعتبر السلفية الجهادية المعاصرة فكراً وممارسة, امتداداً طبيعياً لتيار الخوارج, من حيث تفسيرهم للنص المقدس واتخاذهم هذا النص مرجعاً تشريعياً وحيداً في إدارة حياة الفرد والمجتمع والدولة, مع اختلاف ظرفي الزمان والمكان لوجود كل منهما. فالعقلية التي  تقوم بتفسير النص المقدس وتأويله بروح وثوقيه جامدة تؤمن بتكفير المختلف ومحاربته, وبالتالي العمل على لي عنق الواقع بحد السيف كي ينسجم مع رؤيتهم الدينية التي ترفض الاجتهاد, والبحث في النص المقدس عن المخزون الدلالي ونظمه ومقاصده وأهدافه الإنسانية الداعية إلى الرحمة والمحبة وتنمية حياة الإنسان, والسعي لتحقيق مقاصد الرسالة الدينة الحقيقية التي أرادها الله وبشر بها الرسول. بل إن هذه السلفية المعاصرة أمام مفاسد الواقع المتنامية ازدادت تمسكاً في وثوقيتها  وسكونتيها, الأمر الذي ساهم بدوره في زيادة التحدي لهذا الواقع من قبل هذه القوى السلفية التكفيرية وتمسكها أكثر بالنص المقدس وتفسيره وتأويله كما قدمه لنا السلف في القرون الهجرية الثلاثة الأولى, أو بتعبير آخر رفضها الشديد للآخر المختلف وزندقته وتكفيره, واستخدام كل الوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة في محاربته وتدميره أو التنكيل به, كما نرى اليوم على يد فصائل القاعدة مثل داعش والنصرة وغيرهما. واعتبار الواقع المعيش واقعاً كافراً لابد من تدميره وإعادة بنائه من جديد وفقاً لمتطلبات فهمهم وتفسيرهم للنص المقدس وحاكميته.

    يعتبر “أبو الأعلى المودودي” المؤسس الرئيس لفكرة الحاكمية بصيغتها المعاصرة التي تمثلها الحركات الإسلامية الأصولية الجهادية, والمؤسس أيضاً للممارسة العنف ضد المختلف أفراداً ومؤسسات, وخاصة بعد أن وجد دعاة هذا التيار الجهادي السلفي في الدول العربية والإسلامية أنظمة شمولية وضعية استبدادية تدعي العلمانية, في الوقت الذي  تنافق فيه كثيراً للدين والمتدينين, كما تدعي هذه الأنظمة بأنها هي وحدها من يمثل الدين الصحيح, في الوقت الذي تقوم فيه بممارسة الفساد من القاعدة على القمة, وتعمل على ظلم الرعية الذين لم يصلوا بعد إلى درجة المواطنين في دولهم, تحت شعارات دستورية براقة تقول بدولة المؤسسات والمواطنة ودولة القانون والديمقراطية وحرية الرأي والصحافة وتحرير المرأة وغير ذلك. الأمر الذي وجدت فيه هذه القوى السلفية الجهادية المجال الواسع للتبشير بأفكارها واستقطاب الأعداد الكبيرة من الناس الذين لم يزل الوعي الديني الفقهي الشفهي يهيمن على حيز واسع من تفكرهم, وذلك عبر التبشير من قبل دعاة راحوا يستخدمون كل الوسائل المتاحة من تلفاز وصحافة ومواقع الكترونية وأشرطة تسجيل, بساعدهم في هذا العمل التبشيري القوى والأنظمة السياسية الشمولية, كونها وجدت في هذا العمل التبشيري خير وسيلة لتجهل الناس وإقصاء عقولهم عن مشاكلهم الأساسية ومعاناتهم, بغية إقناعهم بأن كل ما يعيشونه من قهر وظلم واستلاب وجهل وتخلف, لا دخل للأنظمة الحاكمة به, وإنما مرده إلى قدر محتوم لا مناص لهم منه إلا بالعودة إلى الدين والدعاء لله كيف يرفع الغمة عنهم. هذا في الوقت الذي راحت فيه هذه القوى السلفية الجهادية تعمل في التوازي سراً على التبشير أيضاً بدولة الخلافة وحاكميتها التي ستحقق العدل والمساواة بين الرعية.

    يقول أبو الأعلى المودودي في معرض تعريفه للجهاد: (الجهاد كلمة تشمل جميع أنواع السعي وبذل الجهد من أجل تغيير وجهات نظر الناس وتبديل ميولهم ونزعاتهم, وإحداث انقلاب عقلي وفكري بواسطة الكلمة وحد السيف من أجل القضاء على الحياة القائمة .. على نظام الحكم السابق الذي أسس نظام حكمه على غير قواعد الإسلام واستئصال شأفتها, وتأسيس نظام جديد على قواعد العدل, وهذه أصناف الجهاد.). (14). أما فهمه للحاكمية التي بنت عليها كل التيارات السلفية الإسلامية ومنها الجهادية مشروعها فهو: (ليس لفرد أو أسرة أو لطبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية, فالحاكم الحقيقي هو الله. وليس لأحد من دون الله حق التشريع, والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرعوا قانوناً أو تغيير شيئاً من شرع الله. إن الدولة الإسلامية لا يُؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون الذي جاء به النبي من عند ربه, مهما تغيرت الظروف والأحوال والحكومات. لأن الدستور الإلهي سرمدي لا تغيير فيه ولا تبديل, فقد كتب له أن يبقى ثابتاً واضحاً إلى يوم القيامة.).(15). ثم يقول في موقع آخر عن الدولة غير الإسلامية: (كل دولة مؤسسة على فكرة غير فكرة الإسلام, يقاومها الإسلام ويريد القضاء عليها قضاءً مبرماً, ولا يعنيه الإسلام في شيء بهذا الصدد أمر البلاد التي قامت بها الحكومة غير المرضية أو الأمة التي ينتمي إليها القائمون بأمرها.).(16). وهذا الموقف ذاته نجده عند كل القوى الجهادية في عالمنا العربي وخاصة تنظيم (الإخوان المسلمون). ويأتي هذا الموقف المشدد تجاه الفرد والمجتمع والدولة واضحاً لدى سيد قطب في كتابه (معالم على الطريق), الذي يعتر الكتاب المؤصل للسلفية الجهادية في عالمنا العربي بعد كتابات المودودي, كما نجده عند مؤسس حركة الإخوان حسن البنا الذي يقول : (علينا ان نقف عند هذه الحدود الربانية, حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله. ولا يكون عصرنا بلون لا يتفق معه. ). (17).

    يستوقفني هنا موقف فكري للحاخام اليهودي المقتول “مئير سهاته”, يشير فيه إلى تلك العقلية الوثوقية اليهودية تجاه مستجدات الحياة المدنية المعاصرة بما تحمله هذه الحياة من مشاريع تدعوا إلى حرية الإنسان وامتلاكه مصير نفسه, وتحديد أسس مشاركته في بناء دولته ومجتمعه على الطريقة التي تؤمن له إنسانيته, وخاصة موقفه من الديمقراطية والعلمانية ودولة المؤسسات: حيث يقول “سهاته”: (لا حاجة لوجود دستور لأن التوراة هي الدستور, ولا حاجة لوجود برلمان لأن السلطة العليا هي للحاخامية, ويجب أن يهتم البرلمان بالسجون والجيش. – ثم يتابع – في دولة التوراة لاوجود لحرية الكلام , ولا حرية للفرد في مخالفة تعاليم (الهالاخاه – الشريعة الدينية المتعلقة بالأحوال الشخصية.). إن الديمقراطية تغذي الكذب والغش وكل ما هو خاطئ ومريض في الطبيعة الإنسانية.).(18).

    إن هذا الموقف السلفي الوثوقي المعادي لحرية الإنسان يتمثله أيضاً التيار الإسلامي الجهادي السلفي المعاصر, كما تمثل الخوارج قواعد التلمود. لقد جاء في المنطلقات الفكرية لحزب التحرير الإسلامي السوداني ما يؤكد هذه النظرة التي أدلى بها الحاخام “سهاته): ( لا يسمح بمفهوم الديمقراطية في الدولة الإسلامية لأنه غير منبثق عنها.. ولا حمل للبشر في وضع أحكام لتنظيم علاقات الناس أو تخييرهم على اتباع قواعد أو أحكام غير ما تبناه الخليفة أو الإمام, فهو نافذ ويرفع الخلاف.). (19). أما موقف “سيد قطب” من العلمانية فقد جاء فيه:( إن العلمانية تسعى إلى حصر الدين الإسلامي في دائرة الاعتقاد الوجداني والشعائر التعبدية, وكفه عن التدخل في الحياة الواقعية, ومنعه من الهيمنة على كل نشاط واقعي للحياة البشرية كما هي طبيعته, هذه الطبيعة التي تمتاز بخصائص تغضب الصليبية العالمية والصهيونية العالمية وتدفع كل المعسكرات المتخاصمة للالتقاء على الخوف من البعث الإسلامي الوشيك الذي تحميه طبيعة الإسلام …إن الجماهير تنظر إلى الإسلام كمخلص لها على قاعدة المنهج الرباني, عن علم بدل الجهل, وكمال بدل النقص, وقدرة بدل الضعف, وحكمة بدل الهوى.).(20). أما الشيخ القرضاوي أحد أعمدة تنظير الفكر السلفي الإخواني حيث يقول عن العلمانية: (إن الدعوة إلى العلمانية بين المسلمين معناها الالحاد والمروق على الإسلام.).(21).

    هكذا إذا يفهم الدين بنصوصه المقدسة عند هذه القوى السلفية الجهادية, على أن “الواقع للدين وليس الدين للواقع” كما يقول سيد قطب في كتابه معالم في الطريق. وعلى هذا الفهم يجب أن يتهيكل الواقع دائماً بكل ما فيه من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفقاً لمفهوم التيارات الإسلامية الجهادية, أو الفرقة الناجية كما تفهم الدين وتفسره أو تؤوله.

    ملاك القول : إن التيارات الجهادية السلفية التكفيرية المعاصرة في موقفها هذا من الدين والدنيا , ترتكز على جملة من المعطيات الفكرية والمنهجية أهمها:

1- العودة دائما إلى الأصول كما حددها فقهاء السلف الصالح حتى القرن الثالث للهجرة, حيث تعتبر هذه الأصول هي النبع الصافي الذي علينا دائماً أن نستقي منه طريقة حياتنا وسبل نجاتنا.

2- النظر إلى البيئة الاجتماعية وفق منظور ديني عقيدي “(مؤمن كافر زنديق .. مع غياب كامل لمفهوم المواطنة.

3- النظرة الريبة دائماً لأصاحب الديانات الأخرى, ولكل الفرق والمذاهب الإسلامية المختلفة معها في الفهم الديني, على أنهم كفار.

4- احتقار المرأة وعملها, واعتبارها ضلعاً قاصراً وكلها عورة, وقد خلقها الله لتربية الأولاد وتامين حاجات الرجل الغريزية والبيتية.

5- رفض كل الفكر الوضعي الذي تتبناه الدولة الحديثة وكل قوانين مؤسساتها الوضعية, واعتبارها مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه, وبالتالي فأي دولة لا تتبنى حاكمية الإسلام (تشريعه), هي دولة كافرة يجب ان تقاتل وتدمر.

6- التمسك بسلوكيات السلف الصالح بكل تفاصيلها, من حيث اللباس للرجل والمرأة, مثل تطويل الدقن وحف الشارب, ولبس الدرع والجلباب للمرأة,  وتصل مسألة التمسك بقيم السلف حتى إلى رفض استخدام التكنولوجيا الحديثة كالتلفاز وغيره.

    في مواجهة هذه القوى السلفية الجهادية الوثوقية التكفيرية, تقف أنظمة شمولية أصولية بلبوس معاصر, بغض النظر عما تحمل هذه الأنظمة أو أحزابها  من أيديولوجيات ليبرالية أو اشتراكية أو قومية تدعي العلمانية والديمقراطية ودولة المواطنة والمؤسسات أو القانون, وهي بعيدة من الناحية العملية عن كل هذه القيم والمبادئ التي تدعيها. وغالباً ما تزايد هذه الأنظمة أيضاً على القوى الإسلامية ذاتها في تبنيها للدين الذي تعتبر نفسها هي الوحيدة التي تمثل وجهه الدين الصحيح من جهة, مثلما تعتبر نفسها وهي وحدها من يمثل العلمانية والديمقراطية من جهة اخرى,  في الوقت الذي نجدها فيه تمارس العنف والقمع والعنف تجاه المختلف معها من يمين ويسار ومعتدل, تحت ذريعة الخيانة للوطن والارتباط بالمستعمر والصهيونية والتآمر على سلامة الوطن والمواطن.

 

د. عدنان عويد كاتب وباحت من –ديرالزور- سورية

 

المراجع:
 1- حمد سعيد الموعد- الأسلمة المعاصرة – قضايا وآفاق- دمشق- دار حطين – 1994- ص153 وما بعد.
 2-حسن ابراهيم حسن- تاريخ الإسلام-  دار الجيل- بيروت- 1991- ج1- ص 294و295. باعتماده على الطبري ج5-ص 70و71و72.
3-  الدين في المجتمع العربي – (ندوة) – مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت – 1990- ص 208
 4- – حسن ابراهيم حسن- تاريخ الإسلام- دار الجيل- بيروت- 1991- ج1- ص307.
5 – حسن ابراهيم حسن- المرجع نفسه- ص- 309.
6-   – للاستزادة في هذا الموضوع يراجع –حسن ابراهيم حسن –المرجع السابق –ص 317 وما بعذ. كذلك يراجع أيضاً- أحمد أمين فجر الإسلام –  دار الكتاب العربي- بيروت – 1969 -ص256 وما بعد.
7-   – النهج – مركز الدراسات والأبحاث الاشتراكية في العالم العربي- دمشق- العدد 9- لعام – 1997- ص-177.
8-   عن الزركشي- النهج – المرجع السابق- ص-177
9 – النهج – المرجع السابق- ص- 179
 10- حسن ابراهيم حسن- المرجع السابق- ص41
  11- حسن ابراهيم حسن- المرجع نفسه- 410.
 12- ضحى الإسلام- ص144.
13- ضحى الإسلام –ص 144.
 14- أحمد سعيد الموعد- الأسلمة المعاصرة قضايا وآفاق- دار حطين- دمشق- 1994- ص174.
 15- الأسلمة المعاصرة – مرجع سابق. ص 189.
 16- الأسلمة المعاصرة- المرجع نفسه- ص 193.
 17- الأسلمة المعاصرة. ص161.
 18- الأسلمة المعاصرة – مرجع سابق. ص – 188.
19- الأسلمة المعاصرة- المرجع نفسه- ص 189.
 20- الأسلمة المعاصرة- المرجع نفسه- ص 299.
 21- الأسلمة المعاصرة- المرجع نفسه –ص 199.
  الخميس : 20 شتنبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …