طبعتِ الفترةَ الفاصلة بين نهاية الحرب العالميّة الثانيّة وانطلاق الموجات الأولى للعولمة (مطالع التسعينات من القرن الماضي) حركةٌ متصاعدة من النقد الحادّ للأنظمة الكُلاّنيّة ، وانتهاكاتُها لحقوق الإنسان، في الأوساط السياسيّة والفكريّة في الغرب، لتنتقل تأثيراتُها – بعد ذلك- إلى معظم أنحاء المعمورة؛ أي خارج الرقعة الجغرافيّة التي قامت فيها أنظمة شيوعيّة أو اشتراكيّة. ولئن كان من المشروع والمبرَّر قيام مثل تلك الحملة من النقد في وجه فظاعات الجرائم الرهيبة التي ارتكبها النظامان النازيّ، في ألمانيا، والستالينيّ، في الاتحاد السوفييتيّ؛ سواء داخل البلديْن أو في المدى الأوروبيّ، إبّان احتلاله بدبابات هتلر وستالين، فإنّ من المبرَّر، بالقدر عينه، أن توضَع الحملةُ تلك في ميزانٍ للتقدير يُمَيَّزُ فيه بين الصادق والباطل، بين الصحيح والفاسد، لئلاّ يختلط حابل الواحد منهما بنابل الثاني. أمّا العامل على التحوُّط هذا، فانتماء «النازلة» ( نازلة انتهاكات حقوق الإنسان) إلى السياسة والصراعات السياسيّة وتَنَازُع المصالح بين الحلفاء والنظام النازيّ، من جهة، وداخل الحلفاء: بين المعسكريْن الغربيّ ( الرأسماليّ) والشرقيّ («الاشتراكيّ») من جهة ثانية.
وضْعُ السّرديّة الغربيّة – عن الانتهاكات النازيّة والستالينيّة لحقوق الإنسان – موضعَ تَحرٍّ أو فحصٍ نقديّ لا يقتضي، حكماً، كما لا يعني تكذيبَها جملةً، أو عدَّها تلفيقاً مصطنعاً، وإنما إضفاء الكثير من النسبيّة على مرويّاتها، قبل التفكير في ما تَغْتَرِضُه من أغراض. لا يمكن، مثلاً، تكذيب المحرقة، التي نظمتها الأجهزة النازيّة، ضدّ يهود ألمانيا وأوروبا، ولكن من المشروع الطعن على أرقام الضحايا التي بلغت الملايين في الدّعاوى الغربيّة! نقول هذا على الرغم من أنّ سقوط بضعة آلاف من الضحايا يساوي سقوط بضعة ملايين في أعراف الأخلاق الإنسانيّة. وعلى النحو نفسِه، قد لا يكون مشروعاً تكذيب الرواية عن الإعدامات الجماعيّة التي قام بها نظام ستالين لأطر«الحزب الشيوعي» ومناضليه ( لأنها، أيضاً، رواية الفارّين من المذبحة من الشيوعيّين السوفييت)! على أنّ الأهمّ من الاستفهام حول صحّة المرويّات ودقّتها (وهو الاستفهام الذي لا يمكنه أن يبرِّر، بحالٍ، فظاعات تلك الجرائم الوحشيّة)، معرفة ما إذا كان الغرض من السرديّة الغربيّة، عن محنة حقوق الإنسان في ظل النازيّة والستالينيّة، الدفاع عن حقوق الإنسان فعلاً، ضدّ مطلقِ انتهاكٍ، أم استغلال الارتكابات الألمانيّة والسوفييتيّة لتصفية الحساب مع نظاميْن معاديَيْن؛ أحدُهما اندحر في الحرب الثانيّة وثانيهما كان ما يزال يهدّد الغرب في ذلك الحين من حقبة الحرب الباردة ؟
من النافل القول إنّ شيطنة ألمانيا النازيّة وروسيا الستالينيّة أتت تؤدّي وظائفها الإيديولوجيّة، في خضمّ الصراعات المتفجّرة: حرباً ساخنة وأخرى باردة، في تلك الحقبة من المواجهات الدوليّة الكبرى. وأولى الوظائف تلك، التي صبّت في مصلحة الغرب وسرديّاته، بيان برّانيّة النموذجين النازيّ والشيوعيّ عن نموذج النظام السياسيّ الحرّ والديمقراطيّ: السائد في الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربيّة
وبالتالي، فرادة النموذج الأخير، وتفوّق قيمه، ومضمونه الإنسانويّ. وكان لابدّ لاشتغال الآلة الإيديولوجيّة الدَّعَويّة من مادّةٍ تشتغل بها، كموردِ طاقةٍ، لتصنيع فكرة التفوُّق والفرادة؛ ولم تكن المادّة تلك سوى الانتهاكات الفظيعة للحقوق والحريّات في ظلّ حكم النظامين المومأ إليهما. ولقد كانت ألمانيا أولى ضحايا التلاعب بفكرة حقوق الإنسان حين دفعت ثمناً فادحاً، من حقوقها القوميّة، هو حقّها في وحدتها الكيانيّة التي مزّقها التقسيم، المتواطَؤُ عليه، إلى دولتين! وإذا كانت الأغراض الإيديولوجيّة من فكرة حقوق الإنسان قد استُكْمِلت، في حالة ألمانيا، بدحْر النازيّة عسكريّاً، وتحطيم نظامها- ومعه ألمانيا واقتصادها- وبتقسيم البلاد بين معسكريْن، ثم بإقامة الكيان الصهيونيّ في فلسطين ثمناً، من حقوق العرب، للمحرقة، فإنّ الأغراض عينَها استمرت، في حالة الاتحاد السوفييتيّ والمعسكر «الاشتراكيّ»؛ لسببٍ معلوم هو استمرار هذا في تشكيل خطر استراتيجيّ على مصالح الرأسماليّات الغربيّة، وعلى استقرارها السياسيّ الداخليّ الذي كان يهدِّده اتساعُ نفوذ أحزاب اليسار الشيوعيّ والراديكاليّ. وعليه، لم تنصرف إدانة الغرب لانتهاكات النُّظم الكلاّنية حقوقَ الإنسان والحريّات إلى الدفاع عن حرمة تلك الحقوق والحريات، وإنما هي انصرفت إلى استغلال انتهاك النظاميْن لحقوق الإنسان لتشويه صورتهما وتحريض العالم ضدّهما.
خلال الحقبة الممتدّة بين اندحار النظام النازيّ وانهيار النظام «الشيوعيّ» (1945-1991)، المعروفة في الأدبيّات السياسيّة باسم حقبة الحرب الباردة، اختُزِلت حقوق الإنسان، في الخطاب الغربيّ، في حقوق مَن ينتمون إلى البلدان «الاشتراكيّة»، حصراً، أو مَن ينتمون إلى بلدان قامت فيها نُظْم حكمٍ وطنيّة كالناصريّة. خارج هذا العالم، لا حديث عن محنةٍ لحقوق الإنسان. وليس مهمّاً، عند الغرب، أن تقوم ديكتاتوريّات عسكريّة بغيضة، رَمَزَ إليها أشخاص غلاظ مثل باتيستا، وسوموزا، وپينوشيه، وضياء الحق، وسوهارتو…؛ ولا أن يستتبّ حكمُ استبداديّات تقليديّة عريقة في القهر والقمع والطغيان…؛ ولا أن ترتكب هذه وتلك من أفعال العدوان على الحقوق والحرّيات ما يفوق قدرةَ أيّ لغة على التعيين والوصف. الأهمّ، في عقيدة الغرب، أن قمع تلك الأنظمة وديكتاتوريَّتَها فعلٌ «مشروع»؛ لأنّه يؤدّي وظيفة «مقدّسة»: وقف الخطر الشيوعيّ! لذلك لاحظنا أنه بقدر ما تحدّث الغرب عن حقوق الإنسان، إلى حدّ الإسهال، في حالة الدول (الاشتراكيّة والوطنيّة) التي يناصبها العداء، سكت عن مثل ذلك في حالة الأنظمة التي وظّفها في حربه الكونيّة ضدّ الشيوعيّة.