(1)
لم يسبق أن كان تقرير المجلس الأعلى للحسابات تحت الأضواء الكاشفة كما هو عليه الأمر الآن.
لماذا؟ يتساءل الصحافيون وكتاب الأعمدة وأصحاب الرأي وقطاع واسع من الرأي العام .. ولعل الجواب يكمن في السياق العام الذي يرافق تقريرا لإحدى مؤسسات الحكامة في البلاد، بكل تفرعات هذا السياق.
أولا، ارتبط اسم المجلس، ورئيسه، بقرارات سياسية هامة، ولعل أهمها قرارات الإعفاء التي طالت الموجة الأولى من المسؤولين، باعتماد تقارير المجلس كقاعدة لربط المسؤولية بالمحاسبة، هذا المبدأ الدستوري، الذي أصبح له مدلول ملموس، وجسم يحمله، من جهة القرار،… لاسيما وأنه خلق زلزالا غير مسبوق، ربما فاقت طبيعته ودرجته … ما قبله من قرارات الإعفاء لأنه مسنود بمبدأ دستوري..
ثانيا، لم يكن التقرير فقط، أداة في الزلزال السياسي، والذي مس زعماء أحزاب ووزراء، بل إنه كان إعلانا رسميا عن فشل منظومة الحكامة نفسها في قطاعات تتوزع المسؤولية فيها بين المسؤولية الحزبية ومسؤولية الدولة التقنوقراطية.. وما لا يمكن القفز فوقه هو هذا الفشل المرقم، الفشل الذي نعنونه تاره بالاختلالات وتارة بالتعثر وأحيانا كثيرة بالتبذير اللامبرر للمال العام..
وهنا لا يمكن أن يسلم أي كيان من كيانات الدولة، بمعناها الواسع، من ضرورة إعادة النظر في سيرته التدبيرية.
ثالثا، يتزامن الاهتمام البالغ – وقد يكون مبالغا فيه في بعض الجوانب- مع لحظة وطنية كبرى تتميز بالنقد الذاتي، والنقد الشامل الذي يخضع الكيان الوطني نفسه له. وبمعنى هناك دعوة صريحة إلى إعادة النظر في النموذج التنموي، وإعادة النظر في مواثيق الاستثمار وإعادة النظر في المنظومة التربوية، وفي معنى الالتزام المواطن، للأفراد والجماعات،.. ويمكن أن يكون هذا التزامن سقفا إدراكيا للصورة التي تريد الدولة أن تعطيها لنفسها، بما يجعلها راضية عن نفسها….
رابعا، تهب على العالم ريح تلخص النقد الديموقراطي، بل الوجود الديموقراطي نفسه في النزاهة ومراقبة المال العام، ففي فرنسا كما في الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها أصبحت الأزمة الأخلاقية للديموقراطيات الكبرى مرتبطة بالأزمات المالية، ومواجهتها بنجاعة الدفاع عن التدبير السليم والحكامة المالية….
خامسا،السمو الدستوري الذي يتمتع به المجلس في المراقبة المالية، قد يجعل منه قوة حقيقية مؤسساتية، ويعطي للتقارير معنى معينا يكتسب قوة سياسية لا تغيب عن النظر.
فهذه الأسباب ولا شك غير حصرية، تطرح ما بعد التقارير نفسها، وهو ما يطرح مناقشة الفعل المؤسسي لمجلس السي جطو من زاوية توازن السلط، والقدرة المؤسساتية، القضائية، ولا شك، في إحالة الملفات على القضاء، وتجويد القانون المنظم له لكي يستجيب للكثير من التطلعات، وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني من المقالة…
(2)
من المخاوف التي يثيرها اللجوء إلى المجلس الأعلى أن تتحول مهمته القضائية المالية إلى فعل سياسي ويتحول هو إلى فاعل سياسي.
ولتعريف المجلس لا بد من الإشارة إلى طابعيه المالي والإداري، فهو بهكذا تعريف قضاء مالي ذو طبيعة إدارية أو ذات علاقة بالحكامة، …ومهمته، قبل تحديدها من طرف الدستور، تعود إلى المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في القرن الثامن عشر (1789)، عن الثورة الفرنسية، باسم حق المواطن والمجتمع، إذ تنص على أن للهيئة الاجتماعية الحق في محاسبة كل موظف عام…
والدستور عبر الفصل147 والفصل الذي يليه أضاف مهام أخرى هي:…
– المجلس الأعلى للحسابات هو الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة، ويضمن الدستور استقلاله.
– يمارس المجلس الأعلى للحسابات مهمة تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية.
– يتولى المجلس الأعلى للحسابات ممارسة المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية، ويتحقق من سلامة العمليات، المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبته بمقتضى القانون، ويقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، ويتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.
– تُناط بالمجلس الأعلى للحسابات مهمة مراقبة وتتبع التصريح بالممتلكات، وتدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية.
– يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العامة، ويجيب عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة.
– يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للهيئات القضائية.
– يقدم المجلس الأعلى للحسابات مساعدته للحكومة، في الميادين التي تدخل في نطاق اختصاصاته بمقتضى القانون.
– ينشر المجلس الأعلى للحسابات جميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية.
– يرفع المجلس الأعلى للحسابات للملك تقريرا سنويا، يتضمن بيانا عن جميع أعماله، ويوجهه أيضا إلى رئيس الحكومة، وإلى رئيسي مجلسي البرلمان، وينشر بالجريدة الرسمية للمملكة.
يُقدم الرئيس الأول للمجلس عرضا عن أعمال المجلس الأعلى للحسابات أمام البرلمان، ويكون متبوعا بمناقشة.
كل هذه المهام تحعله في صلب الدائرة ال تدبيرية بالمعنى الواسع والنبيل
وأحد أدوات التخليق السياسي الموسساتية.
ولعل المنطق، من جهة أخرى يفرض أن نطرح التساولات التالية:
(*) المجلس هو مؤسسة مسؤولة عن تقييم السياسات المالية العمومية، ألا يمكن أن يخضع هو نفسه للتقييم؟
وهل يمكن أن يحدد كم من التوصيات يتم احترامها في القطاعات التي غربلها وحدد عناصرها؟
ما هو الخلل الذي يعيشه في جسده؟ من قبيل غياب الوكيل العام للمجلس، الذي يعد قانونا العبر الموسساتي نحو القضاء والمتاعبة في حالة كانت هناك ضرورة للجزاءات. وغيابه فتح، في السابق الباب للتأويل المبرر، بسبب الانقتائية، عندما تمت الإحالة عن طريق وزارة العدل، والآن قد يكون في الإحالة عيب في الشكل وفي القناة القضائية..
هل يمكن للمجلس أن يتحول إلى أداة لليأس؟
نعم لليأس..!بتعميم هذا الإنهيار الشامل، أم على العكس من ذلك يقوي الثقة في مؤسسات البلاد باعتبار خضوعها للمتابعة والمكاشفة والتدقيق؟..
نحن مع الرأي الذي ي قول بأنه أحد أدوات تقوية الثقة..
كما أن هذه الثقة يمكن أن تتقوى من حيث نقل النقاش الرقمي الجاف إلى فضاءات الديموقراطية:
الإعلام،
البرلمان،
الحكومة
والمجتمع المدني……
هناك.. حيث تقوم الديموقراطية الفعلية بأدوارها الرقابية والزجرية والسياسية.
وكلها مؤسسات ذكرنا أعلاه بأن المجلس يساعدها في إطار اختصاصاته.
وختاما، فالمجلس بهكذا تعريف يكون مفيدا للغاية ضمن توازن السلط، لا بالتغول عليها ولا بإضعافها، حتى وإن كان السياق الحالي يضعف هذة السلط ، التنفيذية والقضاذية ، ذات المسوولية السياسية ،بدونه!
كما قد يضعفها غياب الشفافية وكثرة الضبابية في المالية العمومية…