المتتبع للتطورات المغربية منذ الاستقلال، وما آلت إليه الأوضاع على المستويات السياسية (الإدارية) والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن لا يكون منشغلا باستمرار بسؤال “الحمولة الوطنية لخطابات وممارسات الفاعلين ترابيا ومركزيا؟”. الكل يعلم أن للدولة المغربية ميزانية متواضعة مقسمة على المؤسسات التي يقودها أمراء بالصرف، ميزانية تترجم إلى مشاريع سنوية أو متعددة السنوات، منها المتعلقة بالتسيير، ومنها المتعلقة بالتجهيز. بالطبع، الآمر بالصرف، المحاط بإداريين، هو رئيس الإدارة الذي يتحمل المسؤولية كاملة في حصيلة برامجه التنموية من مرحلة البلورة (Conception) إلى مرحلتي التنفيذ (Exécution ou mise en œuvre) والتقييم (Évaluation) وكذا في ملامسة النتائج المنتظرة (المردودية والوقع) عبر مراحل قد تكون على المستوى القريب أو المتوسط أو البعيد.
بالطبع إصدار الأحكام مؤسساتيا (المراقبة البعدية) وشعبيا (انتخابيا) على منطق التدبير، ومدى تشبعه بالروح الوطنية (المحاسبة)، لا يمكن أن يكون موضوعيا إلا في حالة التوفر على مرجع وطني واضح، يحدد أهدافا وقواعد مألوفة ومستوعبة على نطاق واسع في المجتمع. فلا يستساغ، في إطار الحصيلة الوطنية لصرف الميزانيات لأكثر من ستة عقود، أن تسقط بلادنا اليوم في وضعية اضطرارية تدفع المشرع إلى التحري بالدقة المبالغ فيها في إصداره للقوانين المنظمة لعملية صرف الميزانيات وآليات تنفيذها، خاصة قانون الصفقات والطلبيات، كأن يميل كل الميل إلى اعتماد الصرامة في المراقبة القبلية من خلال فرض نماذج من دفاتر التحملات تكون دقيقة جدا حسب طبيعة المشاريع العمومية، كأن تتضمن التوصيف الدقيق وشروط ضمانات معقولة لديمومتها. الروح الوطنية للفاعل في هذا المجال هي الرقابة الوحيدة التي يجب أن تدفعه للتفكير بالعمق المطلوب لضمان جودة المشروع وديمومته منذ بلورته، إلى تقييمه، وتوقع أهدافه بكامل الدقة والموضوعية، ووصولا إلى ملامسة وقعه على حياة المواطنين بعد تسلمه النهائي. إن منطق الفاعل المباشر، المعبر عنه في تفاعله مع بنود الميزانية التي توضع سنويا بين يديه (المال العام)، ما هو في واقع الأمر إلا ترجمة حرفية لمنطق رئيس الإدارة.
وباستحضار ما سبق، لا ننكر أن بلادنا عرفت تشييد مشاريع هامة ذات جودة عالية (مثلا مشاريع المدن الشمالية من طنجة إلى الفنيدق مرورا بتطوان ومارتيل والمضيق)، وأخرى متوسطة وضعيفة. وأمام هذا التباين في الجودة والوقع التنموي، والهوة ما بين حجم المال العام المستثمر وتراكمات المبادرات التنموية منذ الاستقلال، لا يمكن للمحلل أو المتتبع أن لا يحتار بشكل دائم في بحثه عن خلاصات واستنتاجات تمكنه من تحقيق نوع من الفرز داخل جمهور الفاعلين على أساس مستوى الحمولة الوطنية التي يجسدونها في كل ممارساتهم ومبادراتهم التنموية وخطاباتهم السياسية.
إن حصيلة تقييم مستوى الجودة في التفكير وبلورة وتنفيذ وتقييم الأوراش التنموية المنجزة هي في واقع الأمر المعيار الوحيد الذي يمكن من خلاله تجسيد مستوى تشبع الفاعلين بالوطنية وحب الوطن، أي حب التراب والشعب. إن الحكم على الانتقال المؤسساتي الوطني ببلادنا بالنجاح يجب أن يتيح نوع من الوضوح في منطق التدبير العمومي. إن تمويل الحملات الانتخابية من استحقاقات إلى أخرى، وبالتالي وجود مقومات للوصول إلى نسب مقبولة للمشاركة للسياسة، أصبح مضمونا إلى حد ما، سواء بالنسبة للأحزاب من خلال دعم الدولة، أو على أساس ربط إنتاج النخب السياسية من خلال الاستثمار في النخب الاقتصادية على حساب النخب الثقافية والفكرية. في نفس الآن، بقدر ما حان الوقت لتصنيف المقاولات على أساس القدرة على إنجاز المشاريع بأحجامها المختلفة وضمان الجودة في الإنجاز، بقدر ما أصبح مطلوبا الاجتهاد في الآليات لربط العمل السياسي بالعمل الفكري.
إن مفهوم الانتقال المؤسساتي، المروج له إعلاميا، لا يمكن إضفاء المصداقية على خبر تحقيقه إلا في الحالة التي سيلامس المواطن من خلالها تغليب كفة حب التراب الوطني ومصلحة المجتمعات المحلية عند النخب المدبرة على مصلحتها الذاتية.