في المفهوم:

أمامنا في هذا الموضوع عنوان يحمل مفهومين على درجة من الأهمية هما: الثقافة والنخبة:

وإذا كان المقصود بـ (الثقافة) هنا, كل ما قام الإنسان (الفرد والمجتمع) بإنتاجه مادياً وروحياً عبر علاقاته التاريخية مع الطبيعة والمجتمع الإنساني ذاته, يضاف إلى ذلك ما حاز عليه هذا الإنسان أو اكتسبه من مهارات وخبرات وقدرات عضلية وعقلية ومواقف داخلية نشطة تعبر عن تكوينه النفسي وميوله الأخلاقية, وحتى حالة نسب فعالية غرائزه أثناء نشاطه المادي والروحي.

فإن المقصود بمفهوم ( النخبة) في هذا المقال, هو ليس مثقفي السلطة, وتجار الكلمة, ومهاتري وأدعياء الثقافة, وإنما النخبة الممثلة بالأنتلجنسيا المختصة بأنساق محددة من المعرفة الايجابية. أي المهتمون بشؤون المعرفة العلمية من أطباء ومحامين ورجال قانون ومهندسين وكل من يقع نشاطه  المعرفي في مضمار البحث المتخصص والمتعلق في تنمية الدولة والمجتمع. ويأتي في مقدمة هذه النخب الإيجابية أيضاً, من يشتغل على قضايا الأدب والفن والفكر بأنساقها السياسية والسوسيولوجية, والأبستمولوجية, وغير ذلك من قضايا الثقافة الإبداعية التي تختص في تنمية الوعي الفردي والمجتمعي وتغييرهما, ومحاربة الظلم والاستبداد والتخلف والفساد بكل أشكاله, وعلى رأس كل هؤلاء يأتي المثقف (الطليعي) أو ما يسمى بالمثقف العضوي على حد تعبير غرامشي.

على العموم إن الثقافة في سياقها العام, تظل مرتبطةً في ظهورها أو إنتاجها عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين بحاجات الإنسان المادية والروحية من جهة, وبطبيعة نشاط هذا الإنسان العملي من جهة ثانية, وبالشرط التاريخي الذي يحدد طبيعة وسمات وخصائص وأهداف هذا النشاط وحوامله الاجتماعية من جهة ثالثة.

الثقافة حالة تاريخية:

إن الثقافة تبدأ تاريخياً مع استخدام أول وسيلة عمل من قبل الإنسان بوعي حر وإرادة حرة, وهي (الحجر أو العصا), فمع هذا الاستخدام راح لإنسان في كل مرة يستخدم فيها وسائل إنتاجه, يعمل عبر هذا الاستخدام على تطويرها, وإعادة تشكيل حياته ذاتها وتطويرها بإرادته أيضاً, أي يعيد خلق نفسه ذاتها من جديد. أي الخلق الذي يتمثل في تطوير وعيه ومهاراته وأسلوب حياته من طعام ولباس ومسكن وعلاقات اجتماعية وروحية وغير ذلك بشكل مستمر.

وإذا كانت الثقافة في بدايتهاعند المجتمعات البدائية تعني الزراعة والحرفة, فهي في المجتمعات أو المراحل التاريخية اللاحقة التي ازداد فيها النشاط الإنساني في المجالين المادي والفكري / الروحي, أصبحت أكثر شمولية واتساعاً في حياة الإنسان, حيث  أخذت تتطور في دلالاتها لتعبر بالضرورة كما بينا في تعريفها عن الحياة الفكرية والسلوكية للفرد والمجتمع, مع كل المهارات والمواقف الداخلة النشطة التي تجذرت في بنيته النفسية والأخلاقية.

الثقافة هوية:

إن الثقافة وفق هذه التحولات العميقة في شكلها ومضمونها ودلالاتها, أخذت تشكل هوية الفرد, كفرد يشعر بذاته ومكانته الاجتماعية ودوره في المجتمع من جهة, مثلما أصبحت تشكل هوية المجتمع بمجموع أفراده, لتخلق منهم مكونات اجتماعية متعددة الانتماءات أو الهويات, عرقية كانت, أو دينية أو طائفية أو مذهبية أو قبلية أو حزبية. هذا وتأتي في أعلى مستويات هذه التشكل الثقافي  هوية الأمة من جهة ثانية. وهذا التمايز في الهوية بين الجماعات يؤدي في أعلى درجات تطور الثقافة وتداخلها في حياة المجتمعات وحضاراتها إلى اعتبارها شرطاً ضرورياً لاستقلال هذه المجتمعات وحضاراتها عند بعض المكونات العرقية او الدينية, كما هي الحال عند الكيان الصهيوني على سبيل المثال لا الحصر, الذي يدعي بأن العامل الثقافي (الدين اليهودي) كافياً وحده لخلق تمايزه واستقلاله.

بناءً على ذلك, نستطيع القول في عصرنا الحالي, عصر التخصص في مجالي العمل العضلي والفكري, بان الثقافة  أخذت تُختزل عند الكثيرين على أنها النشاط ذهني الذي يمارس في الأدب والفن والفلسفة وعلم الأخلاق وغير ذلك من أنواع النسق الفكري والأبستمولوجيي.

آلية ضبط النشاط الثقافي التنويري:

على العموم, يظل العقل النقدي, وضبط مصالح الجماهير وعدالتها بكل المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية, هما الحكم في ضبط آلية عمل الثقافة الملتزمة, أو ما يسمى الثقافة التنويرية العقلانية, وأن كل خروج للنشاط الثقافي عن حكم العقل النقدي وتحقيق التوازن بين  مصالح المجتمع, سيؤدي حتماً إلى وقوع الحامل الاجتماعي لهذه الثقافة في مسارات المصالح الأنانية الضيقة, فردية كانت أو طبقية أو فئوية. فالعقل النقدي وتوازن المصالح وحدهما إذن من يشكل الضابط للعمل الثقافي التنويري العقلاني الملتزم بالحقيقة, والقادر على قبض الواقع وتحليل مكوناته وتبيان ما هي المعوقات التي تحول دون تحقيق تقدم المجتمع ورقيه, وبالتالي تحديد الوسائل والأساليب التي يمكن لهذه الثقافة في شقيها المادي والفكري أن تتكئ عليها من أجل تحقيق هذا التقدم والرقي.

الثقافة التنويرية فعل جماهيري أيضاً:

إن الثقافة في نسقها الفكري, وفي أعلى درجات مهامها أو وظائفها بعد اكتمال بنيتها وتبلور حواملها الاجتماعية, أي بعد  وصولها إلى مرحلة النظرية الثورية, هي من يعيد طرح التساؤلات الكبرى, والكشف عن الكثير من المسائل الملحة المتعلقة بحياة الإنسان المعيشية والروحية بكل مستوياتهما. ومع ذلك لا يمكننا أن نعتبر الثقافة وفق هذا التحديد فعلاً نخبوياً فحسب, بالرغم من ارتباطها بالنخب منذ أن أخذ التقسيم الاجتماعي الكبير للعمل يظهر على ساحة الوجود الاجتماعي ما بين العمل العضلي والعمل الفكري كما بينا قبل قليل, بل هي في نهاية المطاف وفي مفهومها الشامل الذي جئنا عليه في عرضنا لمفهوم الثقافة, فعل شعبي أو جماهيري يمارسها الفرد والمجتمع في حياتهما اليومية المباشرة, ويعملا على اختزالها وتكثيفها غالباً في حكم وأمثال شعبية ومقولات فقهية وفلسفية, تفرض نفسها على  سلوك الفرد والمجتمع في حياتهما بشكل فاعل.

علاقة النخب الثقافية بالدولة او السلطات الحاكمة:

إن نخبوية الثقافة في توجهاتها (السلبية) المعادية للجماهير ومصالحها التي راحت تتجلى – أي السلبيات – في حياة المجتمعات تاريخياً, ساهم في ظهورها وتبلورها إلى حد كبير, التقسيم الاجتماعي الكبير للعمل بين العمل العضلي والعمل الفكري أولاً, حيث أن تلك المهارات الفكرية الفردية الإبداعية, التي تجلت بداية في النسق الفكري  الديني بشكل عام, والدور السلبي الذي مارسته هذه النخب الدينية في السيطرة على حياة الفرد والمجتمع المادية والفكرية. وثانياً, في تشكل أو ظهور الدولة والسلطة التي راحت منذ بداية تشكلها, توظف الدين لمصلحة الحاكم بغية إخضاع رعيته لسلطته. وثالثاً, دور المهارات الفردية الخاصة التي ساهمت كثيراً في خلق كل ما هو جديد ومؤثر وابداعي في حياة الفرد والمجتمع, وأعطت للفرد المبدع مكانته الاجتماعية المتميزة كمنتج في مجالات الأدب والفن والنثر وكل مجالات النشاط العلمي والتكنولوجي.

لقد كان للدين خصوصيته في المجال الثقافي الذهني التخصصي النخبوي منذ بداية ظهوره, حيث كان للدين الأهمية البالغة في ظهور النخب الدينية, مثلما كان له الدور البارز ولم يزل في خلق المكانة العالية والتميزة لمن يشتغل عليه. بل نستطيع القول إن النشاط الديني تحول عبر نخبه إلى وسيلة استطاعت القوى الحاكمة تاريخياً الاتكاء عليها وتسخيرها لتحقيق مصالحها التي يأتي في مقدمتها منح هذه القوى الحاكمة سلطات سياسية وحقوقية بعد أن شرعنتها ليس لها حدود. لقد أعطت بعض هذه النخب السلطات الحاكمة حالة من التقديس وصلت في مراحل معينة من التاريخ إلى حالة الألوهية, كما هو الحال عند الفراعنة والسومريين والبابليين.

أما القوى الحاكمة أو السلطة, فلها دورها الكبير في تشكيل ثقافة النخبة والعمل على تنميتها أو الحد منها, وكذلك تحديد أهدافها وطريقة عملها, وعلى هذا الأساس يمكننا القول: منذ أن بدأت الدولة تظهر على الوجود, ظهرت معها نخبها المثقفة, التي التحمت مع القوى الحاكمة, وأصبحت إما خادمة لها في تحقيق مصالح الدولة والمجتمع إيجابياً, أو عاملة على شرعنة وتبرير قهر الفرد والمجتمع وظلمهما عبر الدولة, مستخدمة كما اشرنا نصوص الدين المقدسة بعد تفسيرها وتأويلها وتزوير الحقائق وفقاً لمصلحة الحاكم, أو قدسنة أيديولوجيات الأحزاب الحاكمة وفرضها بقوة الحديد والنار على الفرد والمجتمع من خلال سلطات الدولة, وبالتالي في كلا الاتجاهين الديني والوضعي, تتم عملية  تجويد صورة السلطة وتبرير أفعالها. وعند هذا المستوى من الترابط بين هذه النخب الفاسدة (الدينية والمدنية) مع السلطات الاستبدادية بشكل خاص, يغيب العقل النقدي, مثلما يغيب كذلك تحقيق التوازن الفكري والقيمي في الدولة والمجتمع معاً, وبالتالي تتحول الثقافة إلى وسيلة بيد السلطة لتهجين المجتمع ونمذجته وإخضاع حياته الفكرية والسلوكية لرغبات السلطة ومصالح حواملها الاجتماعيين, بدلاً من تنمية الفرد والمجتمع سلوكياً وفكريا من خلال تربية المواطنة وتجذريها.

سمات وخصائص ثقافة التجهيل والتهجين:

إن من أبرز سمات ثقافة التهجين والتجهيل للجماهير هو زرع روح الامتثال والرضى لكل ما هو قائم, والتسليم والرضوخ لكل ما هو غيبي وغير عقلاني, إضافة لتغييب مسألة الانتماء الحقيقي للوطن وتبديله بانتماءات ثانوية, تتمثل بالانتماء للعقيدة أو للحزب أو للطائفة أو القبيلة أو للبطل الديني أو السياسي أو الاجتماعي كشيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والطريقة الصوفية. وهذا ما يجعل حياة الفرد والمجتمع في كل مفرداتهما, عبر سيرورتهما وصيرورتهما منمذجة بشكل مسبق, ومحددة بقوالب جامدة وكأنها قدر لا مناص للخلاص منه. وعلى هذا الأساس لا تعود الثقافة نشاطاً عقلانياً يتفاعل مع السياسةعلى اعتبارها فعلاً جماهيرياً تلعب الثقافة فيه دور الموجه لسياسة الدولة بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع ككل, بل تصبح فعلاً نخبوياً انتهازياً تغرد فيه النخب المثقفة من تجار الكلمة بكل اتجاهاتها دينية أو وضعية عبر وسائل الإعلام ودور الثقافة والعبادة, لمصلحتها ومصلحة السلطة الحاكمة فقط. أو بتعبير آخر, يلتقي في مثل هذه الحالة ما هو سياسي مستبد ومتفرد بالسلطة, مع ما هو ثقافي نخبوي انتهازي على مساحة ضيقة لا يُمارس النشاط السياسي والثقافي فيها إلا فئة صغيرة من المجتمع هي وحدها من يقرر طبيعة النشاط الثقافي ودوره وأهدافه, انطلاقاً من الموقف السياسي الذي تتمتع به هذه الفئة الضيقة ومصالحها ومصالح أسيادها كما أشرنا أعلاه.

إن مصالح المجتمع وطموحاته وتعبيراته الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية, تقررها إذن القوى الحاكمة المنفردة بالسلطة, يساعدها نخب دينية أو علمانية تعمل على تزوير الحقائق وتعميتها إما بإسم المقدس بالنسبة لرجال الدين, أو بإسم العلمانية.  وهذا ما يقصي الفعل الثقافي الايجابي في المحصلة بعد التحامه بالسياسي المستبد والأناني عن كونه فعلاً عقلانياً نقدياً وموقفاً إنسانياً, وطموحاً يهدف إلى تطوير الفرد والدولة والمجتمع ودفعهم نحو تحقيق علاقات اجتماعية واقتصادية واجتماعية وثقافية أفضل أو اكثر رقياً وتقدماً.

ملاك القول:

من هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى عقلنة الثقافة وشعبنتها. أي تحويل الثقافة إلى فعل أو نشاط جماهيري إيجابي, بعد إسقاطها أو تجريدها من لبوس عالم السياسية وسلطاتها المقدسة وانتهازية نخبها المثقفة. كما تأتي الدعوة إلى جعل الثقافة  فعلاً ثورياً يجعل من التاريخ والتراث نفسيهما ثقافة عقلانية نقدية, أي ثقافة (مواطنة) بدلاً من كونهما ثقافة عشيرة وقبيلة ودين ومذهب وطائفة وحزب وملك وأمير وبطل. وبذلك لا يعود التاريخ ومكوناته التراثية كموقف ثقافي منطلقاً لصراعات مادية أو فكرية بين مكونات الشعب, أو بين الشعب والسلطة الحاكمة, بل جعلهما (التاريخ والتراث) قوة حيوية يبرز فيهما كل ما هو عقلاني يدعوا إلى التقدم وتحقيق إنسانية الإنسان.

إن الثقافة في هذا السياق العقلاني النقدي والتنويري تتحول إلى ثورة حقيقية تعمل على تحويل إنتاج المعرفة من المنطق الصوري التجريدي والبراغماتي والفقهي السلفي الجمودي التكفيري ممثلاً بفرقته الناجية, أو الصوفي الإيهامي وطبله ومزماره  الرافض للتجديد, أو بعقلية النخب الثقافية الوضعية الانتهازية التبريرية, إضافة إلى كل ما تبشر به السلطات الاستبداية من ثقافة الامتثال والتجهيل وتسطيح العقل والوعظ والذاتية والارتجال والثرثرة الثورية, إلى ثقافة المنطق البرهاني الاستكشافي القائم على التجربة والمنطق والتحليل والاختبار والشك والجدل, وكل ما يعطي الفرد والجماهير دورهما في ممارسة حقهما الطبيعي في الحياة. وبذلك تكون الثقافة قادرة على تحطيم سلطة الحاكم المستبد ونخبه الثقافية, مثلما تكون قادرة عبر حواملها الثوريين العقلانيين على نزع قدسية الأشخاص والتراث وأفكار سلطة السلف الجمودية الجبرية وكل من لم يزل يعيش على إعادة إنتاجها خدمة لمصالحه الأنانية الضيقة مهما كانت طبيعتها.

 

د. عدنان عويد كاتب وباحت من –ديرالزور- سورية
الاربعاء : 05 شتنبر 2018.

 

 

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …