بعد ثلاثين سنة من صدور مقالته الشهيرة حول «نهاية التاريخ»، ها هو المفكر السياسي الأميركي «فرنسيس فوكوياما» يراجع أطروحته حول حتمية انتشار وتمدد النظام الليبرالي في العالم ، مبيناً في كتابه الجديد «الهوية: مطلب الاعتراف وسياسات الاستياء»، خلفيات ومسارات الأزمة العميقة التي تعيشها راهناً المجتمعات الليبرالية.
عند نهاية الحرب الباردة بدا أن العالم يشهد المرحلة الثالثة الكبرى من انتشار المنظومة الليبرالية بعد سقوط الأنظمة الشيوعية والاشتراكية وانتقال أغلب دول أفريقيا وأميركا اللاتينية إلى المسلك الديمقراطي التعددي واقتصاد السوق.
وهكذا نشأ انطباع واسع بأن الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية متلازمتان، مقترنتان في صدورهما عن نفس المبدأ الذي هو الحرية بمعناها الفردي الذاتي، في مقابل تحكم السلط السياسية والاجتماعية المهيمنة على إرادات الأفراد وخياراتهم الشخصية.
بيد أن ما كشفت عنه التحولات السياسية الأخيرة في أوروبا والولايات المتحدة هو أن النظام الليبرالي نفسه يعرف منذ سنوات أزمة داخلية عميقة بدأت بالأزمة المالية قبل عشر سنوات وكانت هزة عنيفة كادت تقوض العولمة الرأسمالية ثم امتدت إلى الجانب السياسي ببروز الأنظمة الشعبوية اليمينية واليسارية التي سيطرت على العديد من البلدان الديمقراطية الغربية العريقة.
وإذا كانت العلاقة بين الأزمتين الاقتصادية والسياسية واضحة باعتبار أن الأحزاب والأحكام الشعبوية استفادت من اختلالات العولمة الاقتصادية وما أفضت إليه من شروخ نوعية في البنيات الاجتماعية، فإن الإشكال الراهن الذي استأثر بالفكر الفلسفي والاجتماعي في أيامنا يتعلق بعودة سؤال الهوية إلى صلب النظرية السياسية في علاقته بالمثال الليبرالي.
ذلك ما يتناوله «فوكوياما» في كتابه الجديد الذي ينطلق فيه من ملاحظة جوهرية مفادها أن مقاربة الاعتراف التي تؤسسها النظرية الليبرالية التقليدية للهويات الفردية والجماعية ضمن منظورها للمواطنة المتساوية المحمية بالقانون المدني والمجسدة في الديمقراطية الانتخابية التعددية لم تعد كافية لضمان تمثيل المجتمعات الراهنة في هويتها الخصوصية وأنماط التمثيل السياسي التي تعبر عنها.
ما نريد أن نبينه هو أن النظرية الليبرالية التقليدية تنطلق من مبدأين أساسيين هما: المساواة الأصلية بين الأفراد في الحقوق والإمكانات العملية، وتأكيد استقلالية الفرد ورشده وبالتالي قدرته على صياغة هويته المفتوحة الحرة في مقابل الهويات الموروثة والمواقع الاجتماعية الجامدة.
لتأكيد وتجسيد هذين المبدئين، بلور الفكر الليبرالي منظومتين أساسيتين: منظومة قانونية للحقوق والمعايير الإجرائية تتناسب مع قيم الفردية والتعددية هي جوهر نظرية العدالة الحديثة، ومنظومة سياسية قائمة على نموذج الدولة القومية الإدماجية التي تستبدل الولاءات العضوية الخصوصية برابطة المواطنة الكونية ضمن حدود سيادية إجماعية بما يؤسس منظور الشرعية السياسية للمجتمعات الحديثة.
المأزق الكبير الذي واكب نشأة وتطور الفكر الليبرالي هو التعارض الدائم بين مبدأ الفردية الذاتية المستقلة التي هي الخلفية المعيارية للمنظومتين القانونية والسياسية، والطابع الجماعي الترابطي للهويات العينية كما تعبر عن نفسها في الحقل الأهلي المدني والحقل السياسي للدولة في ادعائها تمثيل الأمة ككيان أحادي مندمج بروح وطنية مشتركة.
في الماضي أُدير هذا التعارض وفق الصراع الأيديولوجي بين العقيدتين الليبرالية والاشتراكية، وتركز الصراع الاجتماعي على أساس نظام قسمة العمل وما يترتب عنه من صراع طبقي، في حين هُزمت الأطروحة القومية المتطرفة (النازية والفاشية) التي ترجمت النموذج السياسي للدولة الحديثة في أشكال سلطوية استبدادية.
المشكل الراهن هو أن القوة الاقتصادية الدافعة تاريخياً لليبرالية السياسية، أصبحت في انفصام مع الحركية الليبرالية السياسية. ويظهر هذا الاختلال في بعدين أساسيين: انحسار البنية الطبقية المتولدة عن المنظومة الرأسمالية الكلاسيكية التي كانت الإطار الاجتماعي للحقل السياسي (ثنائية اليمين واليسار). وانهيار شكل المجموعة السياسية المركزية الذي هو الدولية القومية السيادية التي شكلت الحاضن التاريخي للقيم الليبرالية وإطار العمل السياسي المنظم.
إن هذه التحولات هي ما يفسر اليوم أزمة المنظومة الليبرالية التي تبدو جلية في صعود الأحزاب الشعبوية التي تطرح تحدياً غير مسبوق للديمقراطيات العريقة في مستوى قدرتها التأليفية الإدماجية، أي الأهلية العملية للتعبير عن التنوع الاجتماعي ضمن قوالب كلية جماعية مشتركة.
إن مصدر هذا الإشكال هو كون مفهوم المجموعة السياسية المتضامنة ليس بديهياً في المجتمعات الليبرالية المؤسسة على محض التوافق الإرادي أو التعاقد الاجتماعي الحر، وعندما تنهار الوسائط الإدماجية التقليدية التي بلورتها المنظومة الليبرالية من طبقات وأحزاب ودوائر مواطنة، ينفتح مجدداً مشكل التعايش السلمي الذي اعتبرت المجتمعات الديمقراطية الحديثة أنها حسمته نهائياً.