بين التطرّف والإرهاب علاقات اتّصالٍ وانفصال؛ بحيث لا يتجوَّز، دائماً، الحديث عنهما بحسبانهما حالاً واحدة. ما كلُّ تطرُّفٍ بمؤدٍّ، حكماً، إلى الإرهاب؛ إذْ ما أكثر قوى التطرّف وجماعاته في التاريخ الإنسانيّ، التي بلغت في غلُوّ أفكارها الرافضة مبلغاً من دون أن يؤديها الغلوُّ ذاك إلى التعبير عنه ، مادّياً، في أفعال إرهابيّة، حتى أنّ بعضها دعا – في حمأة غلوِّه ورافضيّته – إلى الامتناع عن الخروج أو حمْل السلاح. في المقابل، لا إرهاب يمكن من دون أن يسبقه تطرُّفٌ في الرأي ويؤسِّسه؛ إذِ الإرهاب وحده ما ينْقُل التطرّف من حيِّز الأفكار إلى حيّز الأفعال؛ ليترتب على الانتقال ذاك من المنكَرات ما يترتّب. وهو إذْ ينقُله من حالٍ إلى حال، فلأنّ التطرّفَ وقودُ الإرهاب والماءُ الذي يسبح فيه هذا الإرهاب. وعلى ذلك لا تقع علاقة الاتصال بين الحاليْن إلاّ متى جنح التطرّف للفعل – خارجاً من نطاق النظر- فاستوى إرهاباً، أو بعبارةٍ أرسطيّة مشهورة: تقع علاقةُ الاتصال بينهما متى ما انتقل التطرُّف من إرهابٍ بالقوّة إلى إرهاب بالفعل، علماً أن الصيرورة إلى ذلك ليست في حكم القانون ضرورةً.

نزعُم أنّ التمييز بين الحدَّيْن ( التطرّف، الإرهاب) ضروريٌّ؛ ليس فقط لتفادي الخلط وما يولِّدهُ هذا من إبهامٍ والتباس وإنما، أيضاً، لفهم منظومات الأسباب التي تقود إليهما، وهي (الأسباب) ليست واحدة، دائماً، أو متطابقة.

وأيّاً يكن الرأي في فرضيتنا هذه (حول علاقتيْ الانفصال والاتصال بين الحدّيْن)، فالذي لا مِرْيةَ فيه أنّ الظاهرتيْن معاً ظاهرتان مركَّبتان، أي متولّدتان من منظومة أسبابٍ وعوامل مختلفة متضافرة بحيث يتعصّى، إنْ لم يمتنع، ردُّها إلى واحدٍ منها واعتمادُه مبدأً للتفسير والتحليل؛ على نحو ما يُلحَظ في أكثر مقاربات الدارسين للظاهرتيْن.

إنْ تناولنا ظاهرة التطرّف، التي نشهد على تفاقُمها واستفحال أوضاعها في بلادنا العربيّة المعاصرة، ألفينا أنّ الباعث عليها عِدّةٌ من الأسباب: اجتماعيّة- اقتصاديّة، سياسيّة، ثقافيّة، نفسيّة متفاوتة الآثار من مجالٍ اجتماعيّ وسياسيّ لآخر. نحصي هنا، في إسراعٍ، بعضاً من أهمّ تلك الأسباب الدافعة نحو التطرّف:

– التهميش والإقصاء الاجتماعيّان؛ وهذا يتولّد من سياسات خاطئة يطبعها الإنماء غيرُ المتوازن بين المناطق؛ وهيمنة الاقتصاد الطفيليّ غير الإنتاجيّ الذي لا يستوعب القوى المنتجة ويوفّر فرص العمل؛ وسوء توزيع الثروة الذي يوسّع الفجوة بين الطبقات الاجتماعيّة ويولّد ثنائيّات حادّة من قبيل الغِنى الفاحش، في بيئات ضيّقة، والفقر المدقِع في أوسع البيئات… إلخ. وإلى ذلك فإن أوضاع البؤس والحرمان تلك تشكّل بيئةً مثاليّةً لنشر أفكار التطرّف واستثمار النخب المتطرّفة حِنق الجمهور الرازح تحت وطأة ضغوطها لاستمالته إليها، وتجنيده في مؤسساتها الدعويّة وغير الدعويّة.

– أزمة المجال السياسيّ؛ وهي أزمة تنشأ إمّا من غياب مثل هذا المجال السياسيّ ومنْعِه من التكوُّن، في بعضٍ كثير من البلاد العربيّة، أو من شكلانيّته وعدم وظيفيّته، في بلدانٍ أخرى تكون فيها البرلمانات والمؤسّسات للزينة فقط، والدساتير حبْراً على ورق، بحيث تُداس كلّ يوم، والقضاء تحت نفوذ السلطة التنفيذيّة، والأحزاب والنقابات كيانات مشلولة أو مشدودة إلى مراكز القرار. وإذْ تُفصح أزمةُ المجال السياسيّ عن نفسها، في الحاليْن، في انعدام حياةٍ سياسيّة ونقابيّة ومدنيّة، وفي تمثيلٍ سياسيٍّ مزوَّر أو غير صحيح، أو في تمثيل فئويّ لذوي المصالح والعصائب الأهليّة التقليديّة، وفي قمعٍ للرأي المخالف واستبدادٍ بالسلطة، واحتكارٍ للثروة، ومصادَرةٍ كاملةٍ للسيّاسة، يستولد ذلك نزوعاً متزايداً من المجتمع إمّا نحو البحث عن ملاذاتٍ اجتماعيّةٍ بديلٍ من العمل السياسيّ القانونيّ (الممنوع أو المفرَّغ من محتواه)، أو نحو العنف الأهليّ ردّاً على العنف الرسميّ السلطويّ. وغالباً ما تكون الملاذات تلك ملاذاتٍ دينيّةً أو عصبويّة.

– أزمة النظام التعليميّ والثقافيّ؛ وأظْهر أسباب هذه الأزمة تقليديّةُ النظام ذاك، وانغلاقُه الشديد على مجرى تحوُّلات المعرفة في العالم، وتشرنُقُهُ في عالمٍ من المعارِف مكرور وجامِد وخالٍ من كلّ أسباب التطوّر والحياة. ولعلّ أعلى مظاهر البؤس في النظام التعليميّ والثقافيّ هو ما يتمثل في التكوين الدينيّ؛ حيث التربيّةُ تقوم على منهاجٍ يقينيّ، يعطّل التفكير الحرّ والحسّ النقديّ، ويكرِّس ثقافة التبجيل والتقديس لآراء القدماء، ويربّي على قيم التعصّب للرأي، ونبذ الآخر وكراهيّته، وتقسيم العالَم والجماعة الداخليّة إلى مؤمنٍ وكافرٍ ومبتدع، مثلما يغرس الإيمان بالعنف بما هو سبيل لإحقاق ما يعتقد كلٌّ منّا أنّه حقّ.ولم يكن صدفةً أنّ قسماً عظيماً من المنتمين إلى الجماعات المتطرفة هُم من خرّيجي الجامعات والمعاهد العليا العلْمية (الطبيعيّة والرياضيّة والتقنيّة)، مما يقوم به الدليل على أنّ «التكوين العلميّ» ذاك سطحيٌّ وغيرُ فعَّال لاقترانه وامتزاجه بنقيضه. هكذا تحوّلت المدرسة والنظام التعليميّ في البلاد العربيّة إلى واحدٍ من أخصب مصانع التطرّف وأخطرها أثراً!

 

الثلاثاء 04 شتنبر 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …