“إذا كان للأسف صحيحا أن السياسية ليست شيئا آخر سوى ألم ضروري للمحافظة على الإنسانية، فإن هذه قد بدأت فعلا في الاختفاء من العالم”[1]
لقد لمع العديد من الفلاسفة في مجال الفكر السياسي ويمكن أن نذكر من الحقبة الإغريقية أفلاطون في محاورتي الجمهورية والسياسي وأرسطو في كتاب السياسة ورسالة الأخلاق إلى نيقوماخوس والفترة الحديثة نيكولا ماكيفيلي في كتاب الأمير وسبينوزا في رسالة السياسة والمقالة السياسية التيولوجية وتوماس هوبز في اللويثيان وجون جاك روسو في العقد الاجتماعي والمفكر ألان في كلام حول السلطات وكذلك عمونيال كانط في مشروع السلم الدائم وهيجل في كتابي مبادئ فلسفة الحق والعقل في التاريخ.
تفيد السياسة على الصعيدين الايتيمولوجي والاصطلاحي المدينة والمواطنة والسيادة ولكنها تشير على صعيد الممارسة التاريخية إلى أربع معان:
– فن حكم الدولة من خلال الجهد المبذول من أجل التأثير على الحكومة بشكل تتمكن فيه من تنظيم الحياة المشتركة وتوجيهها بكيفية ملائمة نحو المصلحة العامة.
– جملة الأفعال التي تستهدف الاستيلاء على السلطة وانتزاعها والمحافظة عليها. هنا يتم إلغاء أو تخفيف كل غائية خارجية أو متعالية عن الفعل السياسي وفي المقابل يقع التركيز على الحذر والحيلة وكسب القوة.
– مجموعة القوانين التي ترتبط بالإرادة العامة وتتعلق بتنظيم الحياة الجماعية أو بممارسة السلطة وتحرص على تجنب العنف والفوضى وتحقيق السلم الاجتماعي ضمن أرضية مدنية مبنية على التعاقد.
– السياسي هو بشكل محدد الموضوع الأبرز الذي تشتغل عليه الفلسفة السياسية وما يمنح الظاهرة السياسية خصوصيتها وتميزها عن بقية الظواهر البشرية أما العلوم السياسية فهي تدرس بشكل موضوعي ودقيق كل ما يصل السياسة بالظواهر الاقتصادية والإدارية والدينية.
أما الدولة فهي وضعية سياسية يتواجد فيها المواطنون وفق شكل متقدم من التنظيم ومنزلة يتم فيها الإمساك القانوني بالمجتمع وتجعله في حالة وقوف دائم وتجسن التصرف في حقوق الأفراد والمجموعات التي يتكون منها من جهة العام ومن جهة الخاص بالجمع على الصعيد المؤسساتي بين الاجتماعي والجمهوري والمدني وباستقلالية السلطة السياسية عن النظام الديني والنظام الأسري وتعامله بوصفه نظام عمومي تشرف على إدارة جسم من الموظفين.
لقد تحول وضع الدولة في المجتمعات الحديثة حسب ماكس فيبر لتقوم بتجميع كل السلطات والمؤسسات من أجل التحكم في قوة الإرغام وتشرعن العنف الفيزيائي وتستعمله كوسيلة للهيمنة وتوظفه في اتجاه السيطرة على المجتمع وستعمله بوصفه وسائل مادية للتصرف.
من جهة ثانية تمثل الحكومة بهياكلها الإدارية ومكوناتها الوزارية تنظيم الدولة للمجتمع.
لقد كانت السلطة السياسية عند التعاقديين هي نتيجة ميثاق أو عقد تتوحد من خلاله الإرادات الفردية وتتعالى لكي تسمح للإرادة العامة، وليس لإرادة الجميع، بالانبثاق وإمساك مهمة الإشراف على تنظيم العلاقات بين الأفراد وتسيير الشأن العمومي في الجانب التمديني.
لقد حرص سبينوزا على التمييز الإجرائي بين اللاهوت والسياسة وبين التنظيم الاكليروسي والتنظيم القانوني وبين الدولة والمجتمع وبين حكم القوة وحكم القانون وأيده جون لوك في تأكيد الطابع المدني للحكومة وتخليصها من الإرث التيولوجي والقول بالتسامح والتعايش.
بيد أن هيجل رأى أن الدولة هي الشكل أكثر اكتمالا من تحقق الروح في التاريخ وتموضعها في عالم الحق وذلك بالتوسط بين الجزئيات وتجاوزها نحو بلوغ الكلي والتعبير عن المطلق.
أما ماركس في الايديولوجيا الألمانية وفي نقد الحق السياسي الهيجلي فهو يتعامل مع الدولة كجهاز طبقي للهيمنة وإنتاج مفهومي تستعمله الايديولوجيا الكلية لإخفاء علاقات الهيمنة.
بعد ذلك تشتغل الدولة المعاصرة على إبرام تعاقد اجتماعي على أساس العنف والإكراه.
غير أن غاية السياسة تتميز بصورة لافتة عن النشاط السياسي في حد ذاته وتجد عبارتها الواضحة في المقولات القانونية والأخلاقية والفلسفية وتسعى إلى صيانة الحرية والمساواة والحق والعدالة والكرامة. بهذا المعنى تسعى السياسة إلى تحقيق الحرية وإرادة العيش المشترك ضمن التعددية والاختلاف والتنوع. فكيف ارتبط ميلاد الفلسفة السياسية بفك الارتباط مع الحق الإلهي وتفعيل الحق الطبيعي والحق الوضعي؟
بصفة عامة الحق هو إتباع المنهج والسير على طريق مستقيم، ومن ناحية ثانية يمثل الحق سلطة أخلاقية تفرض عل المرء الالتزام بأمر معين يتفق مع قاعدة محددة أو مبدأ مشروع، والحق الوضعي هو مجموع المعايير التي توجه الحياة الاجتماعية التي تجد تعبيرا عنها في القوانين والنصوص والمواثيق التي تعمل السلطة التنفيذية للدولة على تطبيقه والالتزام به.
كما يمكن التمييز بين الحق الطبيعي والحق المدني وبين الحق الجزائي والحق العام، فإذا كان الحق الجزائي يندرج في وظيفة الردع والعقاب للمخالفين للقوانين والمعتدين على غيرهم فإن الحق العام هو مجموع القواعد القانونية التي تتعلق بأسس والعلاقات التي تتبع الدولة والتنظيمات والشركات التي تكونها وتجمع مصالحها العمومية وتختلف عن الحق الخاص. لكن هل تهتم الدولة بالارتقاء بالناس إلى مستوى المواطنة أم تدافع على قيمة السيادة؟
المواطن هو الكائن البشري الذي تمتع بحقوقه المدنية ضمن الفضاء السياسي للدولة بعد خروجه من وضع العبودية وبالتالي هو القاطن بالمدينة من حيث هي وحدة اجتماعية تندرج ضمن نسق يضمن القانون التوازن الضروري لاستمراره وتمنحه المساواة المعيار الكافي.
مثلما تضم المواطنة مجموعة من الحقوق والحريات تنصص على مجموعة من الواجبات والالتزامات والفروض تجاه الدولة وفي علاقة بالمجموعة البشرية التي ينتمي إليها المواطن.
توجد علاقة وثيقة بين المواطنة والمجتمع المدني وبين الدولة والسيادة، وبالتالي يطلب من المواطن المشاركة الفعالة في الحياة السياسية وممارسة سلطة الرقابة والمحاسبة والدافع على القيم الكونية من جهة ويفترض أن تستمد الدولة قوتها من نجاعة المجتمع المدني وقوته.
في حين أن السيادة هي خاصية العلو والسمو والنفوذ والاستقلالية التي تتمتع بها الدولة من جهة وتفيد من جهة أخرى المصدر الذي يمنح الشرعية للسلطة والمرجع التشريعي الأعلى.
كما تنقسم السيادة إلى بعدين: الأول خارجي وتعني الاستقلال والندية في علاقة بمجال الدول الخارجية، والثاني اخلي ويتعلق ببسط الهيمنة والنفوذ على الإقليم والسكان برا وبحرا وجوا.
فإلى أي حد دولة المواطنة تطالب بالمساواة أمام القانون وبالعدالة الاجتماعية في الحقوق؟
المساواة هي المبدأ الذي يجب تطبيقه على الجميع بالقانون من أجل حمايتهم وتنميتهم دون تمييز حسب الطبقة والعرق واللون والدين وقد أقره الدستور وجعله ضمانة تقدم الحياة العامة ولقد ذكره عمونيال كانط بأنه حق كل الناس في معاملتهم كغاية في ذواتهم ومنحهم التقدير. لقد أشاد دي توكفيل بتحول المساواة إلى حركة للمطالبة بالتساوي في الشروط في الثورات.
أما العدالة فهي المبدأ الذي تكون به سلطة الدولة القضائية متفقة من الناحية الأخلاقية مع الحق الوضعي ومنسجمة مع مشروعية الحق الطبيعي أو مع مقتضى الإنصاف وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه والتزام السلطة القضائية باحترام كرامة الأشخاص وممتلكاتهم.
بيد العدالة ليست فقط مجموع المؤسسات الحكومية التي تحرص على تطبيق القوانين واحترام الحق الوضعي وانما هي منذ القدم فضيلة رئيسية وأساسية أو منبع كل الفضائل التي تؤمن التوازن بين المواطنين ولقد ربطها أفلاطون بالتناغم والاعتدال بين القوى في النفس وبين الأفراد في الدولة بينما اعتبرها أرسطو عدالة مدنية تستهدف تحقيق الخير العام.
لقد فرق أرسطو بين العدالة الجزائية التي تنظم التبادل وفق مبدأ المساواة العددية بين أشخاص متساوين في القيمة والعدالة التوزيعية التي تعتمد مبدأ المساواة الهندسية بين أشخاص غير متساوين في الدرجة وتسمح ببعض الفوارق في القيمة حسب الاستحقاق.
لقد أصبحت العدالة مع الرواقية فضيلة كونية تحرص على تأمين الخير للإنسانية والتوازن في الكون ولكن الفكر الحديث جعلها المبدأ الذي يؤسس المساواة ويستمد منه الاحترام وتتمثل مهمتها في تأكيد الحق لكل كائن آدمي واحترام الكرامة البشرية لكل شخص في خصوصيته.
إذا كان جان رولز في الحقبة المعاصرة قد نادي في كتابه نظرية العدالة الذي ألفه سنة 1971 بالعدالة في الفضيلة والثروة والرتبة والحرية وربط بين العدالة والمساواة في الحقوق والحريات للجميع وطالب بالتقسيم المنصف للعائدات والثروات وفق مبدأ الاختلاف بحيث يتمكن الأفراد والمجموعات الأقل حظا من حصة معينة فإن يورغن هابرماس في كتابه الأخلاق والتواصل اعتبر العدالة قاعدة أخلاقية قانونية تؤسس الجماعة المثالية للتواصل التي لا تقبل أي تحكيم قبلي للنزاعات بين أفرادها سوى الحجاج العقلاني والتفاوض وتفترض وصول المتحاورين لتوافق وتفاهم وإبرام تسويات يتم بمقتضاها اقتسام المصالح والمواقع.
لقد أصبحت العدالة التوزيعية في الديمقراطيات المعاصرة تعني العدالة الاجتماعية وتقدم نفسها بوصفها وسيلة منصفة وأداة علاجية لإصلاح أشكال التفاوت بين الجهات والجماعات وفق المنظور الاجتماعي والاقتصادي، وبذلك صارت تعيد طرق التوزيع بصورة أكثر إنصاف أكثر منها عدالة توزيعية بالطرق القديمة التي تكرس التمييز والازدراء والإقصاء بالقبول بأشكال من اللاّمساواة العادلة من أجل تقليص أشكال من اللاّمساواة غير العادلة.
فهل تشتغل الدولة ضرورة على صيانة الكرامة أم تتمثل غايتها الجوهرية في تحقيق الحرية؟
الكرامة هي طابع يتصف به الوضع البشري ويمنحه القيمة والدرجة النوعية بالمقارنة مع طبيعته المعنوية والروحية وعلاقته الرمزية بالنوع البشري واستحقاقه مثل غيره الحياة. أما الدائرة الأخلاقية فتعطي الكرامة الصفة الماهوية للشخص الإنساني وتمنحه قيمة مطلقة لا يناسبه أي ثمن مادي تكرس العبودية وترهن الكائن البشري في نظام الوسائل وتعامله كغاية.
في نفس الإطار تعد الحرية شرط الكائن الحر على نقيض العبد الذي تم حرمانه من حقه في ممارسة الفعل الإرادي والاختيار الواعي، ولقد تم التمييز بين الحرية الميتافيزيقية والحرية الدينية وبين الحرية المتعالية والحرية الوجودية وبين الحرية الأخلاقية والحرية السياسية وبين حرية الاختيار وحرية التفكير وبين حرية الحكم وحرية الاستمتاع والتنقل والترفيه.
تفيد الحرية الميتافيزيقية قدرة الكائن على أن يجد سبب فعله في طبيعته الخاصة أو في الطبيعة الكونية، بينما تشير الحرية الدينية الى الالتزام الطوعي بالمقدس والتدين التلقائي، في حين أن الحرية المتعالية هي قدرة الكائن البشري على ابتداء سلسة من الأسباب في النظام المحدود للظواهر الطبيعية ون الخضوع لأي تحديد خارجي، بعد ذك تعني الحرية أسبقية الوجود على الماهية وتمتع الإنسان بالحرية من حيث الوضعية الأصلية للخلق والفعل.
إذا كانت الحرية النفسية تعطي الإنسان الشعور بكونه علة حرة في مستوى تحديد أولوياته وبأنه قادر على أن يكون ذاته ويصنع مصيره بنفسه ويتحكم في أقواله وأفعاله وأفكاره فإن حرية التفكير هي القدرة التي يكتسبها المرء من استعمال عقله بطريقة منهجية ونقدية في مستوى اتخاذ القرار والحكم والتصميم والتنفيذ والرغبة في المتابعة وإرادة الفعل بشكل ما.
إذا كانت الحرية الأخلاقية هي السيطرة على الانفعالات والتحكم في الأهواء وتخطي كل العراقيل واجتياز الضغوط والخروج من وضع العبودية نحو الانعتاق وتحمل مسؤولية الفعل فإن الحرية السياسية هي تمتع الإنسان من الناحية القانونية بنعمة الحياة ضمن مجتمع مدني ومشاركته كمواطن في الأنشطة العمومية ومبادلته بين نسق الحقوق والواجبات مع غيره.
لكن ما الذي يميز الدولة عن الأمة وعن الإمبراطورية؟ وما السبيل إلى الدولة العالمية للحق؟
***
المرجع:
1– حنة أرندت، ما السياسة؟، ترجمة د زهير الخويلدي، أ سلمى بالحاج مبروك، منشورات ضفاف، الاختلاف، الجزائر- بيروت، طبعة 2014، ص 28
الثلاثاء 04 شتنبر 2018.