ظلت دوما في نظرته إدانة ما سادرة. عزيز الوديع، الذي غادر دنيا الأحياء، صباح أمس الاثنين 3 شتنبر 2018، بعد محنة مرض طويلة، وعمليات جراحية متلاحقة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، كانت أصعبها عملية جراحية مفتوحة على القلب، مختلف تماما ضمن كل عائلة الوديع الأسفي، لأن محنته خاصة ومختلفة. عزيز الذي اعتقل وهو بالكاد فتى في 16 من عمره، نموذج لمعنى محنة حقوق الإنسان التي كانت ببلد اسمه المغرب في سنوات السبعينيات من القرن 20 (هنا التاريخ يحكي ويتحدث وسيظل).
نقطة الاختلاف الأخرى للراحل، هي انتصاره للكتابة كوسيلة، ليس للاحتجاج، بل كأداة حاسمة لمحاولة الفهم، ومحاولة التصالح مع الذات ومع الواقع. لهذا السبب كانت الكتابة عنده نوعا من «الطقوسية» التي تغسل الدواخل من كل ما علق بها من آلام طريق. لم تكن تهمه حتى فكرة «الشهادة» قدر اهتمامه بأن تكون الكتابة رقصة في درب الحياة، وفي نصه «ملح وإبزار» الكثير من ذلك، مثلما أن كتابه الآخر «سرقنا ضحكا»، قد قدم لنا ما يكفي من الدليل، على أن الكثير من التجارب والأمور لا تستحق تجهما وحزنا، أو كثير خطابات وتحليل، قدر استحقاقها السخرية، فهو في مكان ما، عمل فقط في تلك الكتابات على «تجميل المأساة»، بذات المعنى الذي قاله مرة ماكسيم غوركي، صاحب رواية «الأم». وأكيد أن الكثيرين، اليوم، سيعيدون قراءة كتابه ذاك برؤية مختلفة. لأنه صار أثرا عن تجربة إنسانية، لابن للحياة، في بلد اسمه المغرب، في لحظة للزمن ضمن صيرورة للتاريخ.
من التفاصيل الأخرى الخاصة بحياة ذلك «الطفل الحزين»، تجربة علاقته بوالده المناضل والشاعر محمد الوديع الأسفي، الذي كان يأتمنه على تجربة صحفية رائدة وخاصة في تاريخ الصحافة المغربية، هي جريدة «فلسطين»، التي كان للشهيد عمر بنجلون المسؤولية الكبرى فيها، بعد تأسيس فرع الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني بالدار البيضاء، كانت تلك التجربة سياسيا، بالنسبة لعمر بنجلون والوديع الأسفي، واجهة أخرى للفعل السياسي، عبر باب قضية قومية مثل القضية الفلسطينية، في نهاية الستينيات، بعد أن أغلقت موجة القمع كل منافذ العمل الحزبي والإعلامي بالمغرب حينها. فقد كان الفتى عزيز الوديع، في ذلك الوقت، ضمن السر المهني والسياسي للتجربة، لأنه كان موضوع ثقة والده، وهذا لوحده عنوان خاص ضمن سيرة حياته، لا يعرف الكثير عنه.
ماذا لو (حتى والتاريخ لا يكتب ب «لو»)، لو أن الفتى ذاك فتح عينيه في سماء أخرى، تقبل الاختلاف والرأي الآخر؟ ربما أصبح مواطنا آخر، غير «الطفل الحزين» الذي صاره، الطفل الذي ظلت نظرته، ونحن نلتقي يوميا بالجريدة (اشتغل لسنوات بيومية «ليبراسيون» المغربية، في الطابق الرابع لمؤسسة الاتحاد)، تدين مغربيتي في مكان ما. بل حتى شغبه الجميل وقفشاته كانت عنوانا لذلك، فقد كان عزيز الوديع صاحب نكتة، لكنها من السخرية الجارحة، تلك التي تكون قمة الحزن.
عزيز تجربة حياة مختلفة.. تلقى قدره بشرف نادر.. وفي مكان ما كنت دائما أتساءل مع نفسي: كيف كنت سأكون لو عشت تجربة هذا «الطفل الحزين»؟ وظل لي شك كبير أنني كنت سأكون في مستوى صبره السادر.
عليك الرحمة أيها «الطفل الحزين»، لأنك كم تستحقها عاليا، ومعذرة عن ما فعلناه بك، عن ما فعله زمننا بك.
الثلاثاء : 04 شتنبر 2018.