إذا كانت الجذور التاريخية لأزمة الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية تتعلق بالجانب الداخلي فإن المعوقات السياسية تتعلق بالجانب الخارجي بالرغم من أن ما يحدث في الخارج هو تحقق عيني لما يحدث في الداخل.
الجامعات الوطنية رؤساؤها معينون من وزير التعليم العالي المعين من السلطة التنفيذية. والعمداء معينون من رؤساء الجامعات. فقيادات الجامعة في بعض الدول تمثل الدولة لدى الجامعة، ولا تمثل الجامعة لدى الدولة. ورؤساء الجامعات هم وزراء المستقبل. الجامعات في الوطن العربي، بما في ذلك الجامعات الخاصة التي نشأت أخيراً بدافع الاستثمار وبتوجيه رأس المال أكثر منها لخدمة التعليم الوطني، مثل الجيش والشرطة والوزارات والمصالح الحكومية والأحزاب الحاكمة بل والنقابات والهيئات العامة. فالدولة لها اختياراتها. وتفرضها على مؤسساتها بما فيها الجامعات. بل لقد وصل الأمر إلى إدخال مقررات “قومية”. إذا كان اختيار الدولة اشتراكيا أدخلت الاشتراكية كمقرر عام على كل الكليات والأقسام، ولو كانت اختياراتها إسلامية أدخل القرآن والحديث ضمن مقررات كليات الطب والعلوم والهندسة. وهي اختيارات غير خاضعة للنقاش وإلا كان السائل حولها خائناً أو ملحداً. ساد الخوف الجامعة، الأساتذة قبل الطلاب. وظهر الخطاب المزدوج، العلني الرسمي الذي لا يخرج من القلب، والخطاب السري في الجلسات الخاصة.
ويمكن القضاء على هذا المعوق عن طريق الاستقلال الأكاديمي للجامعات. فهي منبر للفكر الحر، والنقد، وإعمال العقل، وعرض كل الآراء، والتحقق من كل الافتراضات من الدولة أو من خصومها، وضمان حرية التعبير يمارسها الأستاذ في قاعة الدرس، والطالب في النقاش، ويحققها الأساتذة في ورش العمل والموائد المستديرة. ويتمتع بها الطلاب في مجلات الحائط، وفي الأسر الطلابية، وفي الندوات بين الطلاب والأساتذة، وفي عرض القضايا العامة، لا فرق بين هموم العالم وهموم الوطن، ولا فصل بين العلم والسياسة. فشعار “لا سياسة في الجامعة ولا جامعة في السياسة” أو شعار “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة” أو شعار “لا جامعة في الدين، ولا دين في الجامعة” شعارات زائفة. فالجامعة بنت الوطن. وقد نشأت الجامعة المصرية عام 1925 بعد ثورة 1919، وباكتتاب أهلي، وبتبرع الأراضي من الأمراء والأميرات. ونشأت جامعة عين شمس في 1954 بعد ثورة 1952. كما أن الدين هو القوة المحركة للشعوب، والدين موضوع للبحث العلمي في نشأته وتطوره، عقائد أو شرائع أو مؤسسات في الجامعات في أقسام تاريخ الأديان، وفلسفة الدين، وتاريخ المذاهب، بدلاً من أن يظل “تابوه” مصدرا للمحرمات وللمقدسات وللممنوعات، مصدر إرهاب وخوف.
إن الاستقلال الأكاديمي للجامعات حتى وإن أتت ميزانيتها من الحكومات، هو شرط حرية البحث العلمي، والبحث عن الحقيقة ذاتها دون تبرير حقائق مسبقة. ليست مهمة الجامعات التبرير بل النقد. وقد بدأت العصور الحديثة في الغرب بنقد القدماء في عصر النهضة في القرن السادس عشر. فالتحرر من القديم شرط اكتشاف الجديد. ومن ضمن قواعد المنهج الديكارتي “ألا أقبل شيئاً على أنه حق إن لم يبد لي بالدليل أنه كذلك”. وفي منطقنا القديم “ما لا دليل عليه يجب نفيه”. وفي الوقت الذي تسيطر فيه رؤى متطرفة على الجامعات تنهار الجامعات كما حدث في عصر “الماكارثية” في الولايات المتحدة الأميركية. وفي الوقت الذي تتمتع فيه الجامعات بالحريات الفكرية تزدهر الجامعات وتساهم في الاكتشافات العلمية. فجامعة أكسفورد هي التي حلت الشفرة الألمانية في الحرب العالمية الثانية. والجامعات الألمانية هي التي قادت حركة التنوير الألماني ممثلة في أساتذتها كانط وهيجل وفيورباخ وفشته وشيلرماخر. ومنها خرجت كل المدارس الفكرية والأدبية، المثالية والرومانسية، وهي التي قادت حركة الوحدة الألمانية، ووحدت معالم الشخصية الألمانية.