مبْنى حقوق الإنسان على المواطنة، كعلاقة سياسيّة-اجتماعيّة جديدة تُولِّدها الدولةُ الوطنيّة الحديثة، أو، قل، إنها ليست سوى حقوق المواطنة نفسها، وبالتالي، كلما انعدمت علاقة المواطنة، في دولة ما، أو شابها شوْبٌ من نيْلٍ وانتقاص، أو اعتُدِيَ عليها شكلاً ما من أشكال الاعتداء، انتُهِكت حقوقُ الإنسان بالتَّبِعَة واهتُضِمت وحِيفَ بها أبلغ الحيْف. ويُسْتَفاد من ذلك أنه لا مكان لافتراض إمكان احترام حقوق الإنسان في اجتماع سياسيّ لا يقوم على مبدأ المواطنة، ولا لافتراض حالِ العدوان عليها؛ حيث تكون المواطنةُ محفوظَة الجانب؛ إذِ التلازُمُ بين حقوق الإنسان والمواطنةِ تلازُمٌ ماهويّ. وليست هذه حقيقة نظريّة فحسب، أي مبنيّة على تصوُّرٍ نظريّ اعتباريّ ومعياريّ وفلاسفةُ لمعنى الدولة الوطنيّة، على نحو ما تمثّلها فلاسفةُ العقد الاجتماعيّ وفلاسفةُ القانون المدنيّ الحديث، وإنما هي – فوق ذلك وقبل ذلك- حقيقة تاريخيّة يقوم عليها من الواقع شواهد وأدلّة؛ فكم هي عريضةٌ مساحةُ البلدان والدّول التي لم يعرف عمرانُها السياسيّ علاقات المواطنة أو، قل، لم يعرف منها غير القشور والسطوح الصوريّة

وبالتالي، كم هي مساحة الانتهاكات السافرة والمقنَّعة لتلك الحقوق فيها.

من البيِّن، أنّ معضلة حقوق الإنسان، في عالم اليوم، ليست تنحصر في تغييب مضمونها العامّ والشامل، متمثَّلاً في حقوق الشعوب والأمم، واختزالها في حقوق الأفراد حصراً، وإنما هي تشمل حقوق الأفراد أنفسهم، في قسمٍ كبيرٍ من بلدان العالم؛ حيث هي معرَّضة إمّا للهضم الكامل أو للهضم الجزئيّ.

سيكون نافلاً أيُّ قولٍ إنّ منسوب الانتهاك لمنظومة حقوق الإنسان أعلى في نموذج الدولة التقليديّة وشبيهاتها من الاستبداديّات المتعدّدة النماذج، من أيِّ نموذجٍ آخر للدولة حديثٍ، لسبب معلوم: هو أنّها تقليديّة في شرعيّتها ونموذجها، وتنعدم فيها علاقات المواطنة؛ حيث الشعب فيها مجرّد رعيّة؛ وحيث الحقوق ليست طبيعيّة ولا مدنيّة، وإنّما هي، في حال إقرارها، وهْبٌ من الحاكم. لذلك من البديهيّ أن تكون الدولة هذه، ونظام الحكم فيها تحديداً، موضوعَ نقدٍ من حركات حقوق الإنسان فيها كما في العالم؛ إذْ هي، بهذا المعنى، زبونٌ مفضَّل لجميع منتقدي انتهاكات حقوق الإنسان، يجدون فيه، وفي ارتكاباته، ضالَّتهم والشاهد على صدق قضيّتهم. على أنّ الدولة هذه ليست، وحدها، موضوع إدانةٍ وتشنيع، فقط لكونها تقليديّة تنتمي إلى ما قبل – الدولة الوطنيّة؛ بل توجد إلى جانبها دولٌ حديثة- بدرجات متفاوتة من الحداثة- ترتكب الارتكابات عينَها، أو ما يقارِبُها شَبَهاً، في حقّ حقوق الإنسان الأساسي؛ المدنيّة والسياسيّة، على الرغم من أنّها قطعت شوطاً في بناء روابط المواطنة فيها. ولقد يكون في جملة هذا النوع الحديث من الدول؛ الدول التي قامت فيها أنظمة كلاَّنيّة ( توتاليتاريّة)، من النمط النازيّ ومن النمط الشيوعيّ الستالينيّ، وأنظمة فاشيّة، من النمط الإيطاليّ ( موسوليني) والإسبانيّ (فرانكو)، وأنظمة ديكتاتوريّة عسكريّة، من النمط اليونانيّ والبرتغاليّ والأمريكيّ-اللاتينيّ.

تعرّضت الحريات وحقوق الإنسان، في هذه البلدان، لانتهاكات لا سابق لها بلغت حدود الإبادات الجماعيّة والمذابح المنظَّمة؛ كما في العهود النازيّة والستالينيّة وكمبوديا «الخْمِير الحُمْر».

ربّما كانت النازيّة، والفاشيّة، والستالينيّة، والديكتاتوريّات العسكريّة، والصهيونيّة، ونظام الميْز العنصريّ (الأبارتهايد) في جنوب إفريقيا، ناهيك بالاستبداديّات التقليديّة، أشدَّ أنواع الأنظمة السياسيّة فتكاً بحقوق الإنسان والحريّات العامّة، في العصر الحديث، وأَدْعى من غيرها إلى الإدانة والاستنكار، فضلاً عن النقد. ولكن من قال إنّ بعضَ الأنظمة الحديثة في الغرب، من تلك التي تزعُم احترام حقوق المواطنة، وتحاسِبُ غيرَها على انتهاكها، هي (أنظمة) دون الأولى عدواناً على بعض حقوق الإنسان ؟ نحن لا نقصد بهذا، هنا، سياساتها البغيضة والوحشية ضدّ حقوق الإنسان في بلدان الجنوب، التي استرخص بعضُها ( الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا…) دماءَهم وحيواتهم في حروبها الظالمة (في العراق، وأفغانستان، والصومال، وصربيا، وليبيا…)، والتي استسهل فيها بعضُها تسخير الجماعات الإرهابيّة في حروبها ضدّ خصومها؛ بل لا نقصد حتى سياساتها المناهضة لحقوق شعوب، مثل الشعب الفلسطينيّ، في التحرُّر الوطنيّ واستعادة الوطن؛ بل نقصد سياساتها تجاه حقوق مشروعة لمواطنيها، هي من صميم حقوق المواطنة، مثل الحقّ في التعبير والرأي، أو الحقّ في الانتماء السياسيّ ! في بلدان غربيّة، مثل الولايات المتحدة الأمريكيّة وألمانيا، يُمْنَع الحقّ في العمل السياسي القانونيّ لحزب شيوعيّ؛ لأنه ضدّ النظام الرأسماليّ (ويُبرَّر ذلك بدعوى تهديده للنظام الديمقراطيّ) ! وفي بلدان أخرى يُمْنَع حقّ المواطنين في انتقاد «إسرائيل» أو في التشكيك في الهولوكوست، بدعوى «معاداة الساميّة»، ويُساق المفكّرون الأحرار إلى السجون والقضاء إنّ هم تجرَّؤوا على هذا المحظور! إنها من نوع الحقوق البدائيّة المهضومة في دول توزّع صكوك الغفران والحرمان على غيرها كلّما تعلق الأمر بحقوق الإنسان!

 

الاحد : 26 غشت 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …