الإشكالات الفكرية, عقيدة وفقهاً في الخطاب الإسلامي السلفي:
دعونا بدية نشير إلى مسألة على غاية من الأهمية تتعلق بمن جعلوا من أنفسهم حماة الدين والمعبرين عن وجهه الصحيح, حتى وصل الأمر إلى اعتبار بعضهم أنهم وحدهم من امتلك ناصية الحقيقة في فهم الدين والتعبير عنه, ووصل ما قالوه أو أفتوا به أو فسروه أو أولوه كذلك عند مريديهم إلى درجة التقديس.
نقول : من السقيفة ظهر علينا التزوير والانتحال والتقول على لسان الرسول في أهم مسألة في الخطاب الإسلامي وهي مسألة (الخلافة), التي حصرها بعض المتصارعين على السلطة في السقيفة بأنها في قريش فقط, ليأتي فيما بعد من يضع الأحاديث في هذا الشأن خدمة للبيت الأموي والعباسي. فقد جاء في الصحيحين عند مسلم والبخاري: (لايزال هذا الأمر في قريش ما تبقى من الناس إثنان), وهذا الحديث في الحقيقة يخالف تعاليم الإسلام من جهتين. الأولى: بأن الإسلام لم يحدد طبيعة الحكم وشكله ونظامه. والثانية: لأن الله سبحانه وتعالي يقول (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13 – الحجرات) وكذلك قول الرسول 🙁 لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.). (رواه أحمد والطبراني). وهذا الخليفة عمر ابن الخطاب يؤكد ذلك في حديث له كما تذكر المصادر التاريخية بقوله : (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته.). (1). فمسألة الأخذ بكل حديث وفقاً للسند وليس للمتن, ترك إشكالات ليس لها حدود في الخطاب الإسلامي. فكيف نستطيع التصديق مثلاً بأن كل ما جاء في الصحيحين صحيح لا غبار عليه حتى يتحول في المحصلة كل ما فيهما من أحاديث إلى نصوص مقدسة؟. فلنتابع مع النووي حديثه عن الصحيحين ونضعهما في ميزان العقل والمنطق ونرى مدى توافق ما قيل عن الصحيحين وقوانين العقل . يذكر النووي في التغريب: (ذكر الشيخ ابن صلاح أن ما روياه أو أحدهما مقطوع بصحته. والعلم القطعي حاصل.).. كما زعم إمام الحرمين “الجوني” إجماع علماء المسلمين على ذلك وقال : ( لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن كل ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي (ص), لما ألزمه الطلاق.). ويذكر السيوطي أن قول ابن صلاح هذا قول أهل الحديث قاطبة, ومذهب السلف عامة وأكثر أهل الكلام من الأشعرية والشافعية كأبي اسحق وأبي حامد السفراييني والقاضي أبو الطيب وأبي اسحق الشيرازي, ومن الحنفية كالسرخس, ومن المالكية كالقاضي عبد الوهاب, ومن الحنابلة كأبي يعلي وابن الخطاب وابن الغفران.). (2). والملفت للنظر في كيفية جمع “البخاري” للحديث تجعلنا نقف كثيراً عند صحة ما جاء في صحيحه, حيث يذكر “محمد بن الأزهر السجستاني” بأنه : ( كنا في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب. فقيل لبعضهم ماله لا يكتب, فقال أحدهم: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه). (3) .وقد روى الخطيب البغدادي عن البخاري قوله: رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام, ورب حديث سمعته بالشام كتبته في مصر , فقيل له يا أبا عبد الله, بتمامه؟. فسكت.) (4). وتذكر المصادر بأن البخاري قد جمع 7275 حديثاً, بما فيها المكرر, ولو حذف المكرر لظل 4000 حديثاً, وقد اختارها من300000 حديث. (5).
أما ما هو أخطر من هذه المسألة بالنسبة لدور بعض رجال الدين وعلمائه, هو موقفهم من السلطات الظالمة والفاسدة, من حيث تبرير فسادهم وظلمهم وعدم الاحتجاج على الحاكم والاعتراض على حكمه, تحت ذريعة إبعاد البلاد عن الفتنة, بينما نجدهم وأتباعهم يسلطون سيوف التهديد والوعيد للناس الضعفاء من العامة إذا ما أخطأ أحدهم أو ارتكب ذنب لا يقره الشرع وفق فهمهم هم له.
بعد عصر التدوين الحقيقي , بعد 145 عاماً من الهجرة كما يذكر السيوطي نقلاً عن الذهبي فيما يتعلق بعصر التدوين وبدايته, حيث راحت كتب الفقه والسير والمغازي والتاريخ تدون. (6). علماً أن التدوين في معظم حالاته كان برأيي هو أقلام السلطة قبل أن يكون للحقيقة أو للدين كما أشرت قبل قليل.. فهذا بعض ما كتب عن موقف الفقهاء من الخلافة والخلفاء وتبرير حكمهم حتى لوكان فاسداً وظالماً.
يقول ابن حنبل : (السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين, البر والفاجر, ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به, ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين). (7). أما الأشاعرة فهذا الباقلاني يقول: (إن حدوث الفسق في الإمام بعد العقد له لا يوجب خلعه, وإن كان مما لو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له.). (8) . أما النسفي وهو من الماتريدية فيقر بصراحة : ( بأن الحاكم لا ينعزل بالفسق. أي بالخروج عن طاعة الله تعالى والجور, أي الظلم على عباد الله تعالى, لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الرشدين والسلف كانوا ينقادون لهم, ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم, ولا يرون الخروج عليهم.).(9). وهذا موقف آخر لرجال الدين الذين في قلوبهم زيغ يذكره السيوطي في (تاريخ الخلفاء), عن الخليفة “يزيد بن عبد الملك”, وهو الذي ملأ الدينا مغاني وشراباً ومجنوناً وخلاعة طوال أربع سنوات حكمه, بأنه عندما ولي الخلافة جاء بأربعين شيخاً فشهدوا له بأن ما على الخليفة حساب ولا عقاب. ). (10).
فعلى هذه المواقف الفقهية التي يدلي بها فقهاء السلطان, تضيع القيم الأساسية للدين الحنيف, وتتحول المسائل الفقهية من دائرة محاربة الفساد وحل قضايا الناس, إلى دائرة تبريره من خلال التلاعب بالنص المقدس ابتغاء تحقيق مصالح خاصة, أو التوجه نحو فقه الحيض والنفاس.
دعونا هنا نأخذ مثالاً عن مواقف بعض الصحابة الذين يعتبرون من الثقات لدى أهل الحديث, وهو أحد العبادلة الأربعة ” عبد الله بن عباس” ابن عم النبي. وهو الذي كلفه علىّ ولاية البصرة في العراق, وبعد فترة من ولايته بلغ عليّ أن عبد الله تطاول على بيت مال المسلمين في البصرة, فأرسل عليّ يستوضح الأمر ويطلب من عبد الله أن يقدم له حساباً عن أموال بيت المسلمين, إلا أن عبد الله رفض, وبعد عدة رسائل متبادلة يقوم عبد الله بأخذ ما تبقى في بيت مال المسلمين في البصرة وقدره كما يذكر الطبري (ستتة ملاين درهم). ثم يهرب إلى مكة ويشتري داراً وثلاث جاريات من حور العين. وعندما ألح عليه عليّ أخيراً برد المال, أرسل لعلي يقول له: (لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به.).(11).
والأمر هنا برأي على درجة عالية من الخطورة في مسألة مصداقية كل الأحاديث التي رويت عن عبد الله بن عباس, ولو صحت هذه الرواية, أو كانت حقيقية!. فالذي يعتبر المطالبة بمال المسلمين من قبل علي هي أساطير, والذي يحلل لنفسه أموال المسلمين, كيف سيكون موقفه من الدين الحنيف, وأي مصداقية هذه ترتجى منه.؟!. هذا مع تأكيدي هنا أن التاريخ هو أقلام السلطة.
أما لوعدنا إلى المتكلمين وأصحاب المنطق والرأي من رجال دين وفقهاء ومتكلمين, لوجدنا تلك التناقضات والصراعات العجيبة حول تفسير آيات القرآن وتأويله, فيما يتعلق بوحدانية الله وقدمه وخلقه ومشيئته وعدله, وفي قضائه وقدره, وفي مرتكب الكبيرة , وفي تحسين العمل وتقبيحه, وهي صراعات أودت بحياة الكثير منهم, مثلما أدت إلى خلق أحزاب ومذاهب وتيارات فكرية راحت تكفر بعضها وتحلل دماء وأموال بعضها, وكل منها تقول بأنها هي من يمثل الإسلام الصحيح, والمؤسف أن أكثر هذه الفرق والمذاهب قائمة حتى هذا التاريخ.
ماهي أبرز الفرق والمذاهب الإسلامية واختلافاتها:
التيار السلفي:
لقد اتفق السلفية جميهم (حنابلة وأشاعرة ومالكية وشافعية وما تريديّة, واليوم الوهابية وغيرهم). وأكدوا على صفات الله كما جاءت في القرآن, وكما أثبتها الله عن نفسه في القرآن والسنة, فيثبتون له كل ما ثبته لنفسه من الأسماء والصفات بتسليم مطلق دون نقاش أو إبداء رأي فيها. عدا الأشاعرة منهم الذين قسموا هذه الصفات بين صفات خبرية وصفات معنوية, وقالوا إن الصفات المعنوية هي الخلق والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام, وهي صفات ترتبط بذات الله أو هي عينه. أما الصفات الخبرية فموقفهم منها لا يختلف عن بقية القوى السلفية الأخرى. والسلفية يتجنبون التشبيه, ( ليس كمثله شيء), وفي قولهم بالصفات أرادوا الوصول إلى القول بالتوحيد, وبأن الله قادر على كل شيء وله الأمر بكل شيء, وبالتالي ليس للإنسان حرية أو إرادة على الاختيار والفعل دون أمر الله, على الرغم من أن الأشاعرة حاولوا الخروج عن هذه المسألة قليلاً, أي في مسألة القضاء والقدر بطرحهم نظرية (الكسب), والتي فحواها أن القضاء والقدر بيد الله وحده, ولكن الناس يمارسون أفعالهم بأنفسهم وفقاً للإرادة التي أجراها الله في نفوسهم.(12). ممثلة هذه الإرادة بحديث النفس لدى الإنسان وليس تقريراً لعقله أو إرادته الحرة. وهم بذلك كما يقول ابن تيمية: (حاول أبو حسن الأشعري الخروج من الجبر فوقع فيه). كما يرى التيار السلفي أن الخير والشر من عند الله (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.). (التوبة -51 – 52). كما يقولون بان علم الله أزلي أحاط بكل شيء , وكل شيء عنده في لوح محفوظ. وهم يميزون بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية, فما أراده الله للكون خلقه بكل ما فيه وهو دائماً في خلق مستمر, وما أراده شرعاً فهو أمر فيه الخير وفيه الشر, دعا عباده إليه فعلوه أم لم يفعلوه. وهم يقولون أيضاً بأن الإيمان هو قول اللسان وإخلاص القلب وعمل الجوارح, ولا قول ولا إخلاص ولا عمل إلا بنية, ولا نية ولا قول ولا إخلاص ولا عمل إلا بموافقة السنة. والسلفية عدا (الجهادية ) لا يكفرون أحداً بذنب او معصية إلا أن يزول أصل الإيمان الذي أقرته السنة. ومرتكب الذنب عندهم ومنهم الأشاعرة زنديق حتى يتوب, وهو سيعذب في جهنم بحسب ذنبه. لقد أنكرت السلفية السببية في الظاهرة, وقالوا لا وجود لها, وكل شيء يتم بمشيئة الله, وبالتالي كل قوانين الطبيعة والمجتمع تسير بإرادة الله ومشيئته, أو كما يقول أبو حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين), (بأن الأسباب في الظواهر وراءها ملائكة سخرهم الله لتأدية ما يقوم به الناس, فالشيطان يقوم بدور تأدية أعمال الشر, ويدخل الملائكة هنا كمحررين للظواهر.). (13). وبذلك ينفي الغزالي الحقيقة ويجعلها وهماً. والسلفية وفق هذا الإيمان هم يكرسون الفهم الجبري الذي قال به الجهمية بكل معطياته, وفقاً لرأي “جهم بن صفوان”(إن الإنسان ليس يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة, وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا اختيار وإنما يخلق الله الأفعال فيه على حسب ما يخلق كافة الجمادات.). (14). أما أبو حسن الأشعري فيقول في هذا الاتجاه: ( إن جميع الموجودات من أشخاص (العباد) وأفعالهم, وكذلك سائر المخلوقات وحركتها, كلها مخلوقة لله.). (15). هذا وأن الزمن عند السلفية هو آنات أو ذرات متقطعة لا وصل بينها, والمتصل عندهم هو الزمن الإلهي فقط بسبب خلق الله المستمر. وهم بذلك ينفون تاريخية الظاهرة.
لقد حارب التيار السلفي بعمومه العقل واعتبر دعاته زنادقة, كما جاء في فتوى ابن صلاح المشهورة: (من تمنطق تزندق). أو كما يقول ابن حنبل: (الحديث الضعيف عندي أهم من الرأي). و (إن أصحاب العقل زناديق). أما لأشاعرة فرغم أنهم استخدموا العقل وآمنوا به, إلا أنهم استخدموه لتثبيت النص وليس للحكم عليه. واعتبروا أن ما أصل له الشافعي وابن حنبل في تحديد مراجع أصول الدين من قرآن وحديث وإجماع وقياس , وكل ما تركه السلف الصالح من أثر حتى القرن الثالث للهجرة, هي الأساس والمنطلق لكل ما هو تالٍ, وهي وحدها من يحدد شرعية الحسن والقبيح في أعمال الناس. أي قالوا بالحسن والقبيح الشرعيين وليس العقليين. وبذلك سدوا الطريق أمام الاجتهاد وحكموا على الحلال والمباح فقط بما ورد فيه نص مقدس في القرآن أو الحديث أو أي أثر أو إجماع للسلف الصالح حتى القرن الثالث للهجرة, وكل ما جاء بعد ذلك بدعة وضلالة وكفر, إن لم يوجد له شبه أو دليل في هذه المراجع. وهذا ما أكد عليه ايضاً الشافعي الذي أصل للفقه السلفي بقوله: (المحدثات من الأمور ضربان أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهذه بدعة. ). (16). وبهذا الموقف الفقهي اعتبر الشافعي ومن سار على دربه من التيار السلفي ومدارسه ومذاهبه, عدا المذهب الحنفي إلى حد ما, أن المصالح المرسلة (حكم هوى), ولم يأخذوا بالاستحسان, وسد الذرائع, كون العقل يدخل فيها. واخيراً من القضايا التي اتفقوا عليها عدى المذهب الحنفي, هو الأخذ بالحديث وفقاً للسند أكثر من المتن, وذلك لاعتبارات عدة أهمها: إن السلفية تعاملوا مع مسألة الجرح والتعديل وفقاً لأغراض سياسية وكلامية ومذهبية, فكل من لم يقل بآرائهم هو غير ثقة, وبالتالي بموقفهم التكفيري لرأي الاخر, اعتمدوا كثيراً على الحديث حتى ولو كان ضعيفاً, أما ابن حنفية, فقد رفض الاعتماد كثيراً على الحديث عدا المتواتر منه, واعتبر المتن الذي يتفق مع النص القرآني هو مرجعه وثقته, وما تبقى أحاديث آحاد, وهي ضنية, (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ). (سورة يونس – 36).
أما في السياسة فقالوا بالشورى (وأمرهم شورى بينهم), ومع سيطرة الأموين على السلطة بالقوة وتحويلها إلى ملك عضوض واعتبارها أمراً مقدراً من عند الله كما قال معاوية في خطبته عند توليه الخلافة: (الأرض لله … وأنا خليفة الله, ما أخذت فلي وما تركت للناس فبفضل مني.). وكما قال أبو جعفر المنصور أيضاً: ( يا أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة, وعنكم ذادة, نحكمكم بحق الله الذي أولانا سلطانه الذي أعطانا, وأنا خليفة الله في أرضه, وحارس ملكه.). (17). ومع تولي الحكام البويهيين والأتراك والمماليك والعثمانيين, تحولت الشورى عند فقاء السنة ممن في قلوبهم زيغ, إلى غلبة وانتصار بحد السيف, وقبول البيعة للخلافة حتى ولوا بموافقة شخص واحد, كما يقول الماوردي بالأحكام السلطانية, وابن جماعة وغيرهما ممن كتب في السياسة, أو من برر ظلم الحاكم وفساده وعدم الاحتجاج عليه كما مر معنا في موقع سابق.
المعتزلة:
لقد آمنوا بوحدانية الله, وقالوا بأن مشيئته تقع في الكليات, أما الجزئيات فهي من شأن البشر, وذلك لتأكيدهم على حرية الإنسان وإرادته في اختيار أفعاله. (وهديناه النجدين). (سورة البد – 11). كما آمنوا بالسببية واعتبروا أن هناك قوانين موضوعية تتحكم في سير وآلية عمل الظواهر, وهي من خلق الله ويستطيع الإنسان بحرته وإرادته استخدامها. لقد أنكرو التجسيد والصفات وقالوا تأكيداً لقول الله عن ذاته: (ليس كمثله شيء). (الشورى- 11). واعتبروا الحسن والقبيح أمراًن عقليان وليسا شرعيان, وبذلك رفضوا القول بأن يقوم الله بفعل الشر, وسموا لذلك باهل العدل. نظروا إلى مرتكب الكبيرة (الذنب), في المنزلة بين المنزلتين, فهو عاصي ليس بكافر ولا مؤمن وقابل للتوبة. كما قالوا بخلق القرآن, وأنه ليس قديماً, فالمعتزلة يقولون هو كلام الله, ولكن له حروف وكلمات, وبالتالي هو مخلوق: (إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ). (يوسف -2). والجعل عندهم يعني الخلق. بينما السلفية قالوا في هذا الشأن, إن القرآن كلام الله والكلام صفة من صفات الله , وكل ما هو صفة هو قديم.
لقد آمن المعتزلة بأهم قضية في الفكر الإسلامي وهي قضية العقل ودوره في تسيير حياة المسلم والإنسان عموماً, لقد اعتبروا العقل منحة من الله للإنسان لكي يتميز به عن كل المخلوقات ويمارس خلافة الله على الأرض, وعلى هذا الموقف من العقل فهم في تعاملهم مع النص المقدس يرون الوقوف عند هذه النصوص ولا يسمحون بتأويلها لأنفسهم, وبالتالي أنكروا صفات الله وقالوا: إن معرفة صفات الله وذاته فوق العقل البشري, وليس هناك من قدرة لدى الإنسان أن يدرك بها كنه أو كيفية هذه الصفات. وقالوا وفقاً لذلك وبناءً على الآية السابعة من صورة آل عمران التي جئنا عليها وهي موضوع هذه الدراسة أصلاً: إن كل ما جاء بالقرآن من عند الله, ولا نتكلم فيما لم يجئ, ولا نبحث فيما إذا كانت صفات الله هي عين ذاته ولا غير ذاته. وهم لا ينظرون في كيفية صدور المحدثات عن القديم (الله), ولا كيف يتصل علم الله القديم والمعلومات المحدثة, ولا نحو ذلك لأنها فوق طاقة العقل البشري, هذا العقل الذي منح القدرة فقط على إدراك البرهان على وجود الله والنبوة العامة ونبوة محمد على وجه الخصوص. (18). كما قللوا من الاعتماد على الحديث أمام اعتمادهم على الرأي, منطلقين من أن الحديث مرتبط بالأشخاص, والأشخاص بشر لهم أهواؤهم ومصالحهم, وبالتالي ما يقولون به أمر ضني.
الشيعة الجعفرية ومن يلتقي معها من فرق الشيعة:
لقد التقت الشيعة الجعفرية مع المعتزلة في الكثير من القضايا العقلانية, أهمها: هم يعتبرون صفات الله عين ذاته. وأن القرآن مخلوق. وأنكروا حديث النفس الذي يقول به الأشاعرة (نظرية الكسب). كما انكروا رؤية الله بالبصر في الدنيا أو الاخرة. قالوا بالحسن والقبيح العقليين, وقدرة العبد على الاختيار (نظرية البداء).(19)., وهي نظرية تقر بالقضاء والقدر من عند الله لكنها تعتبر النص المقدس مفتوحاً في دلالاته ومخزونه على المطلق, وهو جاء لخدمة الواقع وتطوره طالما أن هذا التطور والتبدل لا يسئ لتعاليم الله ومقاصد الدين. كما قالوا بأن الله عادل ولا يصدر عنه قبيح. وأن أفعال الله معللة بالعلل والأغراض.(20). كما أنكرو الجبر في صيغته الجهمية حيث يقول علي بن ابي طالب: ( إن الله لا يقضي وجوباً, ولا يقدر حتماً. فلو كان الأمر كذلك لما كان هناك عقاب ولا ثواب ولما كان هناك وعد ولا وعيد. إن الله يأمر تخيراً وينهي تحذيراً ولا يقضي وجوباً, ولم يبعث الأنبياء والرسل عبثاً.).
هذا وللشيعة الجعفرية قضايا فقهية خاصة بمذهبهم منها العصمة لآل البيت, وأن أئمة آل البيت لهم رؤيتهم الخاصة بهم في الخطاب الديني ذاته, وبتكليفهم بأمر الإمامة كما حدده جعفر الصادق بقوله: (خلق الله العالم وانتقل النور إلى نبينا محمد (ص)…ثم انتقل النور إلى غرائزنا ولمع في ائمتنا, ونحن أنوار السماء وانوار الأرض, فينا النجاة ومنا مكنون العلم, وإلينا مصير الأمور, وبمهدينا تنقطع الحجج, فأئمة الأئمة ومنقذوا الأمة, وحجج رب العالمين فاليهنأ بالنعمة من تمسك بولايتنا, وقبض عروتنا.). (21). هذا مع الإشارة بأن هذا القول فيه مغالاة كثيرة, خاصة وأن الإمام الغائب جاء بعد جعفر الصادق بزمن ليس بالقصير, وأن علي ابن أبي طالب, نفسه قد أنكر العصمة بقوله: ( .. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست من نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي.).(22). كما قالوا بالتقية وفقاً للآية التالية (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .). النحل- (106). وقد جاءت تقيتهم هذه لكثرة ما عانى الشيعة من الاضطهاد من قبل الأمويين والعباسيين. كما أغرق الشيعة في التفسير الباطني للآيات لتأكيد صحة خلافة علي وآل بيته. واختلفوا مع السنة على أحاديث الرسول, ففي الوقت الذي رفض فيه السنة كل الأحاديث التي وردت عن آل البيت, نجد الشيعة يأخذون من الأحاديث التي قدمها السنة والتي تتفق ورؤيتهم للدين وللوصية وغير ذلك. وقال الشيعة بالغيبة (غيبة الإمام الثاني عشر), وعودته ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملأت جوراً, وعلى الرغم من أن مفهوم العودة ظل مرتبطا بالشخص الغائب, إلا أن هناك تطوراً فكرياً قد حدث على ما يبدوا لدى بعض المجددين في الإسلامي بشكل عام والفكر الشيعي بشكل خاص من علماء وفقهاء الشيعة الذين راحوا يقولن بأن العودة تعني عودة دولة العدل وقيادتها من قبل المحرومين والمضطهدين. كما قالوا بولاية الفقيه, وهذا المبدأ حدث عليه تطور كبيرً بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران, حيث ارتبطت مسألة اختيار الولي الفقيه بمسألة الشورى في حال اختياره, ممثلة هذه الشورى بمجلس من الفقهاء.
الخوارج :
قال الخوارج بالتوحيد والقضاء والقدر كله من عند الله, وقالوا بشورية الخلافة وهي حق حتى للعبد الحبشي طالما هو مسلم ومؤمن ويؤدي حقوق الله وما يأمره به الإسلام. قالوا بأن الإيمان ليس في القلب فحسب, بل هو في عمل الجوارح, ومن لا يطبق ما يؤمن به فهو كافر. كفروا المختلف معهم فكرياً وسلوكياً واحلوا قتله وقتل ذريته, فالكافر عندهم لا يلد إلا فاجراً كفاراً. كما قالوا بأن مرتكب الكبيرة كافر. كانوا متشددين في الدين إلى درجة التزمت. شكلوا العديد من الفصائل, تلتقي كلها في الكثير من تعاليمها مع فرقة الخوارج الأولى (الحرورية), من هذه الفرق من ابتعد قليلاً عنها أو اقترب قليلاً منها, وهناك من أضاف إلى تعاليمها أو تخلى عن بعضها. ومن أهم فرقهم الأزارقة ولأصافره والنجدية وغيرها.
ملاك القول:
إن كل الذي جئنا عليه من خلافات بين هذه التيارات الاسلامية ومذاهبها وفرقها, جاء بسبب تدخل السلطة في الدين أولاً, إما للحفاظ عليها أو للوصول إليها, وثانياً بسبب تسخير الكثير من رجال الدين ومشايخه لتوظيف علمهم في تفسير النص أو تأويله, أو حتى وضع الحديث خدمة لمصالح سياسية أو أنانية ضيقة, وبالتالي ظل فقط القلة القلية ممن تمسك بدينه الصحيح من رجال الدين, على مبدأ (القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار). هذا وقد قدم الكثير من رجال الدين المتمسكين بديهم حياته على مذبح الخلافة من أجل مبادئه وقول الحقيقة, (كجعد بن درهم وغيلان الدمشقي ومعبد الجهني), وهناك الكثير ممن شوه وفق مبدأ الجرح والتعديل, الذي كانت تقاس فيه أخلاق وفكر رجال الدين وفقاً لدرجة قربهم من السلطة أو الخلافة. فهذا أبن حنبل عاش محنة الرأي في زمن سيطرة المعتزلة على الخلافة زمن المأمون والمعتصم والواثق, كما لاقى, غيره من أصحاب الرأي المحنة ذاتها في عهد الانقلاب السني زمن المتوكل وبحضور ابن حنبل ذاته ورغبته, حيث ظل قائماً وفاعلاً وخادماً لسلطة المتوكل المعادي لأهل الرأي. علماً أن الحنابلة ظلوا أيضاً يدافعون عن السطات الحاكمة عبر تاريخهم كما مر معنا في موقع سابق. ونحب أن نشير هنا أيضاً إلى موقف أبي حسن الأشعري الجبري السلفي من المعتزلة وأصحاب الرأي حيث راح يكفرهم ويزندقهم ويخرجهم من دين الإسلام, وهو المعتزلي الذي ظل أربعين عاماً معتزلياً, إلا أنه قلب حبرياً وتبنى المذهب الحنبلي مع غيره الكثير من علماء ومشايخ الدين, بسبب محاكم التفتيش التي وضعت للقدرية بعد انقلاب المتوكل السلفي. يكتب أبو حسن الأشعري في (الإبانة في أصول الديانة) رأيه في المعتزلة ومواقفهم الفكري التي لا تتفق مع الفكر السلفي الحنبلي بعمومه والأشعري منه على وجه الخصوص بأنهم – أي المعتزلة- : ( إن كثيراً من المعتزلة وأهل القدرية مالت قلوبهم وأهواؤهم ومن مضى من أسلافهم, فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل به من سلطان, ولا أوضح به برهاناً, ولا تلقوه من الرسول ولا عن السلف المتقدمين, فخالفوا رواية الصحابة عن النبي في:
1- رؤيتهم الله بالأبصار.
2- أنكروا شفاعة رسول الله.
3- وجحدوا عذاب القبر.
4- وأنكروا أن الكفار في قبوربهم يعذبون. وقد أجمع في ذلك الصحابة والتابعون.
5- وقالوا بخلق القرآن نظيراً لقول إخوانهم المشركين.
6- وقالوا بأن العباد يخلقون الشر نظيراً لقول المجوس الذين يثبتون خالقين, أحدهما يخلق الخير, والآخر يخلق الشر.
7- وزعموا أن الله عز وجل يشاء ما لا يكون, ويكون ما لا يشاء, وذلك خلافاً لما أجمع عليه المسلمون ورداً لقوله تعالى: ( وما يشاؤون إلا أن يشاء الله والله فعال لما يريد.). (23).
فلنتصور معاً كيف يفكر التيار السلفي بشكل عام, وأبو حسن الأشعري ومن يتبعه اليوم من المسلمين الذين يتبنون الفكر الأشعري السلفي بشكل خاص, وهم الذين يشكلون النسبة الأكبر في الساحتين العربية والاسلامية, بهذه الطريقة الأسطورية اللاعقلانية في الخوض بقضايا يجب على المعتزلة الإقرار بها لأن السلف الصالح اعترف بها, مثل عذاب القبر ومشاهدة الله وشفاعة الرسول وغير ذلك من مسائل لا يعلم بها إلا الله وحده.
أما الخلافات الفقهية فهي لا تخرج في الحقيقة عن تاريخ وأسباب الخلافات الدائرة لدى علماء الكلام, إذ ظهر العديد من هذه المذاهب مثل: (مذهب حسن البصري, وأبو حنيفة, والشافعي , وأحمد بن حنبل, والأوزاعي, وسفيان الثوري, والليث بن سعد, ومالك, وسفيان بن عيينة, واسحق بن راهَوَيّه, وأبي الثور, وداود الطاهري, وابن جرير الطبري).(24). وقد ارتبط هذا العلم (الفقه) بعلم الكلام, وكان للسلطة دور كبير في توجهه, فقد عانى بعض الفقهاء من عنت السلطة ومحاولتها توظيفه لمصلحتها, فهذا ابن حنفيه يقتل مسموماً في عهد الخليفة المنصور العباسي كونه رفض استلام القضاء في عهده, وكذا الحال مع أنس بن مالك, الذي وضع حديثاً او قال بحديث لم يرض الخليفة المنصور, فكانت النتيجة أن عراه المنصور من كل ثيابه وصلبه في الساحة وجلده أمام العامة جزاءً لفعلته. ولكن هناك فقهاء راحوا يوظفون الدين ونصه المقدس تفسيراً وتأويلاً من أجل تبرير مفاسد السلطة, كما مر معنا في موقف سابق .
ونظراً لهذه الخلافات الفقهية, تجري بين الأهالي حروب أهلية دموية ممن يتبع هذا المذهب أو ذاك. فهذا الطبري يذكر في تاريخه عن حوادث عام 554 للهجرة, عن صراع دامي جرى في مدينة استراباذ, بين الشيعة العلوي, والشافعية عندما ولي على المدينة والياً شافعياً هو ” محمد الهروي”, وكان قاضيها شافعياً أيضاً, فثار العلوية ومن معهم ضد الشافعية ومن معهم, وقد اتنصر العلوية على الشافعية وسال دم كثير.
لنشرة المحرر : د. عدنان عويد : كاتب وباحث من –ديرالزور- سورية
الخميس 23 غشت 2018.