ليست الثقافة نبت الحاضر، بل تراكم تاريخي عبر العصور، يتحول إلى موروث ثقافي، ويصبح المصدر الأول للثقافة المعاصرة التي تعطي الناس تصوراتهم للعالم ، ومعاييرهم للسلوك. وفي المجتمعات النامية يلعب الموروث الثقافي دور الأيديولوجية السياسية في المجتمعات المتقدمة. المعوقات الثقافية هي الجذور التاريخية لأزمة الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية ولأزمة الحريات السياسية في الوطن العربي دون ما حاجة إلى الإحالة إلى «بنية العقل العربي». فلا يوجد عقل عربي ثابت، له جوهر أبدي. إذ تنشأ الثقافة في مجتمع، والمجتمع ابن التاريخ.
منذ أكثر من ألف عام قُضي على الرأي والرأي الآخر. وضاعت التعددية الفكرية التي سادت في القرون الأربعة الأولى والتي بلغت ذروتها في القرن الرابع الهجري، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، عصر المتنبي والبيروني والتوحيدي وابن سينا. فقد قام أبوحامد الغزالي بحملة ضخمة من أجل بعث الأمة. فالصليبيون على الأبواب، والخلافة العباسية ضعيفة في بغداد. فقرر تقوية الدولة سياسيا. وأسس له نظام الملك «المدرسة النظامية». وظن الغزالي أن أحد أسباب ضعف الدولة هو التشتت والتفرق والتحزب. وقد وصل ذلك كله إلى «تكافؤ الأدلة». كل شيء ممكن، وكل فكرة وجيهة، وكل مذهب محتمل، وكل فرقة لها جانب من الصواب، وكل رأي له ما يثبته. فضاعت الحقيقة الواحدة التي يجتمع حولها المجتمع، ويعتنقها كل الناس. مع أنه كان من دعاة النظر والشك. فمن لم ينظر لم يشك. ومن لم يشك لم يصل إلى اليقين.
ظن أن سبب ذلك هو التعددية الفكرية والمذهبية التي سادت القرون الأربعة الأولى. فقرر القضاء عليها من أجل توحيد الأمة، فكرا ومذهبا وعقيدة وسياسة. فنقد كل الفرق الكلامية خاصة المعتزلة لاعتمادهم على العقل، والباطنية لاعتمادهم على التأويل. ودافع عن الأشعرية كفرقة ناجية في مقابل الفرق الضالة. وأضاف هذا الحديث الذي يشكك في صحته ابن حزم والعز عبد السلام، حديث الفرقة الناجية إلى آخر «الاقتصاد في الاعتقاد» تحت عنوان «فيما يجب تكفيره من الفرق». وهو معادٍ لروح الإسلام الذي يقوم على الاجتهاد، وتعدد الصواب، وحق الاختلاف بل وتحويله إلى علم. ولما كانت الفرق الإسلامية تمثل أحزاب المعارضة السياسية في مقابل الأشعرية التي تمثل الدولة السنية قام الغزالي بنقدها باسم العقيدة في الظاهر، ولهدف سياسي في الباطن.
هاجم الغزالي المعارضة العلنية، المعتزلة، الفكر بالفكر، والرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان. فالعقل لا يُحسّن ولا يُقبّح. ولا توجد رعاية لصلاح أو أصلح. ولا توجد واجبات عقلية، ولا إرادة حرة، ولا أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وهاجم المعارضة السرية، الباطنية، وهم الشيعة، ومناهجهم في التأويل. وكانت المعارضة العلنية المسلحة، الخوارج، قد قضى عليها من قبل أو استقرت في أطراف الخلافة، في جنوب شرق شبه الجزيرة العربية. فانتهت التعددية في فهم العقيدة لصالح فرقة واحدة هي الأشعرية. فكل الفرق ضالة، والأشعرية وحدها هي الناجية. وكل المعارضة السياسية منحرفة، وعقيدة الدولة هي الوحيدة الصحيحة.
وما فعله حجة الإسلام في العقيدة قام به في الشريعة أيضاً فاستبعد باقي المذاهب الفقهية. لا تقوم حرية رأي سواء في الجامعات أو في الأوطان إلا بعد القضاء على أحادية الرأي، واحتكار الفكر الذي يمنع الناس من حق الاختلاف، وهو حق شرعي، وحق الاعتراض وهو حق وطني. ويبدأ ذلك بنزع القدسية عن الماضي. «هم رجال ونحن رجال. نتعلم منهم ولا نقتدي بهم». فالمقدس يرهب، والماضي يقمع. لذلك لم يعد يجتهد أحد. إلا في القليل النادر وفي المسائل الجزئية الهامشية وليس في مصالح الأمة الكبرى وما تعم به البلوى.
الطريق إلى الحريات الأكاديمية خاصة والحريات السياسية عامة هو إحياء التعددية الفكرية التي سادت في القرون الأربعة الأولى دون استبعاد الرأي أو إقصاء لتيار. فالكل راد والكل مردود عليه. ولا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة. فالحق متعدد. ولا توجد وجهة نظر واحدة في أي شيء. الحياة منظور ورؤية. وتتعدد المناظر والرؤى بتعدد الناظرين والرائين. على هذا النحو يتحرك التاريخ من جديد ويتم إنهاء عصرنا الوسيط، العصر العثماني، عصر الشروح والملخصات. وكما وضع ابن خلدون سؤال لماذا الانهيار؟ نضع نحن سؤال شروط النهضة.