(راحة الحكماء في وجود الحق ، وراحة السفهاء في وجود الباطل ): سقراط
قال تعالى : ( لايكلف الله نفسا إلا وسعها ) :” سورة البقرة” .. عملا بروح الآية الكريمة لا يجوز كما لايسمح بأن تكلف السياسات العمومية والسلطات الناس أكثر من طاقتهم ، ولا أن يكلف أي إنسان أي كائن حي من جنسه ومن الحيوانات الأخرى ما لايطيقونه ولايقدرون عليه …
وجاء في الحديث : (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)..
ولهذا فكما اعتمد الدين الرخص التي قد تكون دائمة باستمرار العلة ، وجعلها في حكم الواجب في الحالات المنصوص عليها المتعلقة بالأركان التالية صوم رمضان وأداء الزكاة وحج البيت وذلك في حال المرض بالنسبة للصائم ، او المعسر والفقير لإخراج الزكاة ،وعدم الإستطاعة لفقر أو خوف أو مرض لأداء ركن الحج ، والحال أنها أركان فكيف بنا وهي سنن مثل أضحية العيد حيث جاء في صحيح مسلم (إذا دخلتِ العَشْرُ وأراد أحدكم أن يُضحِّيَ فلا يَمَسَّ من شعرِه وبشرِه شيئًا)،وهذه الصيغة لاتوجب ولا تلزم بل تترك الخيار بين الفعل والترك ، وهذا هو الراجح عند المالكية والشافعية والحنابلة رغم أنها عندهم تعتبر سنة مؤكدة ..
ومصداقا لقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) “سورة البقرة” .. فإن من أوجب الواجبات على الدولة أن تنهج التيسير في كل ما يتسبب في الإثقال على كاهل الشعب وما يرهقه ماديا ونفسيا وبدنيا وخاصة الفقراء والكادحين والمساكين ومن في حكمهم ، تعلق الأمر بعيشهم وتعليمهم وعلاجهم وسكنهم وضروراتهم الحياتية المختلفة صغرت أو كبرت ..
فالرسالة الإسلامية المحمدية يجملها قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء، وكل من خالف هذا المبدأ تحت أي مبرر أو غطاء فهو لم يراع روح الشريعة ..
إن التضحية هي بدل الإنسان الجهد والعمل ، و تكون بالمال والإستقرار والحرية وحتى بالنفس والوقت وبأحب الأشياء ، ومنها ما يكون بالفطرة كغريزة الدفاع عن النفس وحب البقاء ، وتتخذ مقامات أرقى وأجمل وأشرف كلما ارتقى الوعي والنضج المعرفي مع وضوح في الأهداف والغايات ، وجودة وصدقية في السبل والأداء دون إيـداء وإضرار بالغير ، أو إعتداء وإنتهاك للحقوق والخصوصيات والمكتسبات …
فعندما نتحدث وندرك أهمية التضحية من أجل خير البشرية نجد أنفسنا أمام مسلسل ممتد منذ بداية حمل المرأة للجنين في بطنها ،إلى كل مراحل الحياة العملية للأفراد والجماعات والمؤسسات، إلى عطاء المفكرين والعلماء والمصلحين والأنبياء والرسل ، إلى حين وفاة الأشخاص أو تفكك و انهيار حضارات ودول ،، إن التضحية بمفهومها السلبي والإيجابي في اطار الصراع والتدافع تؤدي إلى ميلاد عهد ومرحلة جديدة قد تكون أحسن من سابقاتها أو تصبح أسوأ ، فلا شيئ يتحقق ويبنى ويتقدم بدون تضحيات ومثابرة مؤطرة من أهل الخبرة والعلم والأكفاء بالدولة وبمشاركة الشعب وإشراكه في كل المراحل تخطيطا وإعدادا وإنجازا ، إنها لاتتحقق بالجهل والتخلف وضعف الدول و أنظمة ومؤسسات الحكم ، و لاتعني ضرورة إعتماد التآمر والقتل والحروب والسلب والنهب المتعدد الأوجه لمتلكات الناس وثروات بلدانهم وتصفية الحسابات بأسوأ الطرق ، وتقديم الضحايا والخسارات على أنها الثمن المقدس بفعل التضحيات لتحقيق أهداف معينة مادية أومعنوية تتسبب في كوارث تجهز على الأحياء وتنتهك حرمات الأموات، وتهلك الزرع والعمران وتعمق الظلم والتخلف والجهل والتبعية ..
إن مفهوم التضحية النبيلة هو جزء من منظومة وعي وإدراك الفرد والمجتمع لحقوقهم وواجباتهم مع تنظيم توافقاتهم ودمقرطة قراراتهم ، وتفانيهم حد العبادة في أعمالهم ، والعشق لأدوارهم الحكيمة والمعطاءة ، إنها حقيقة : التضحية من أجل خدمة المصالح العامة للشعب وحمايتها ، و التضحية بالجهل ليحل محله العلم ، والتضحية بسياسات وأساليب التفقير لتعوض بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية ، إنها التضحية بالظلم والمحسوبية والزبونية والأنانية لإقرار العدالة والشفافية والنزاهة والصدقية في كل شيئ …
إن التضحية لا علاقة لها بكل ما يمس بحقوق الناس وواجباتهم وشروط عيشهم وكرامتهم ، إنها على النقيض من الإعتداء والظلم ، و أنه لاوسطية بين الحق والباطل والظلم ..
فسيدنا ابراهيم الذي كاد يضحي بابنه حيث قال تعالى في ذلك : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) : سورة الصافات .. أي أنه لما تكرر حلمه / الرؤيا استشار ابنه وأراد معرفة رأيه في رؤية ذبحه ولم يبادر إلى تنفيذ ما رأى بالقوة ، فكان جواب ابنه نفذ ما أمرت به من الرب ، فكان الفداء ، والمعروف تاريخيا في تلك الحقبة وقبلها وحتى إلى زمن غير بعيد قيام بعض المجموعات السكانية والقبائل بالتقرب إلى آلهتها بتقديم قرابين بشرية بما في ذلك ذبح الأبناء بشكل موسمي وكلما اقتضت عقيدتهم وضرورتهم المتوهمة ذلك ، ويمكن لنا أن نستنتج من تعويض التضحية بالإبن بكبش رسالة للقطع والقطيعة مع فعل إجرامي همجي يرفضه الرب ، ويمنع ويحرم التقرب به له، سواء من طرف إبراهيم الخليل ، أو أي مدع عبر العصور إلى عصرنا هذا الذي إنبرى فيه من يكبر بإسم الله و”يضحي” بذبح المسلم وغير المسلم ..موهما نفسه ويريد إيهام الناس بأن ذلك مما يتقرب به إلى الله ؟؟
إننا نرى في أنظمة الحكم الظالمة والديكتاتورية عبر التاريخ أن الحاكم ومن يمتلك أية سلطة يقدم على التضحية بالناس إما خلف مبرر التقرب إلى الآلهة وإرضائها ، أو حماية الحكم و الحاكم ممن يرى أو يظن أنهم ضده أو يخالفونه في الدين وحتى المذهب والرأي ، ولنا في مأساة كربلاء وقتل أبناء علي (ض) الحسين والحسن مثالا بشعا لقيام دولة وإرضاء لمؤسسيها ب”التضحية ” بأقرب وأحب الناس إلى سيدنا محمد ،الذين قال فيهما الرسول الكريم ” من أحبهما فقد أحبني , ومن أبغضهما فقد أبغضني”..
إن لكل فرد رسالته في حياته ، فمنهم من يعي ذلك ومنهم من لايعلم ولا يعرف ، ومنهم من يعيش فقط لحاجاته وضروراته البيولوجية والمكتسبة وحتى بالتقليد الأعمى الذي لايمتلك أي توجه وتصور ولا حلم مبشر ، وبطبيعة الحال هذا النوع لا يحمل ولا يترك رسالة خير ولا يورث للخلف إلا الأمية في كل شيئ ..
ومن الناس من يحمل رسالة لكنه لايستوعب أبعادها وأهدافها حيث تثقل كاهله ، لايفيد بها نفسه ولا غيره ، ومنهم من يحملها ولايستطيع تنزيلها في الواقع لنفاق أو عجز أو جبن وخوف ،أو عدم قدرة على العطاء والتضحية المحمودة ..
ومنهم النخب المتنورة والمتميزة كالرسل ، والذين عندهم علم ، والمصلحون والمجددون الذين يجدون صعوبة في إفهام الذين لايعلمون والذين يجحدون ، حيث يواجهون بنخب مدجنة ومهيأة لتضليل الناس ، وترهيب وقمع المتنورين والمصلحين ، وهدر الزمن ، وتعطيل العقل ، وتدجين العامة وشحنهم والرمي بهم إلى التهلكة للتضحية بأنفسهم و بأرواح الناس لإقامة وإدامة الإستبداد والظلم والتخلف الذي لايتردد دعاته وقادته في “التضحية” بالشعب كله وبالعلم المفيد من أجل إرضاء غرورهم ورغبات أمراء فتاوى الدماء والإرهاب الذين يخالفون أوامر الله ورسوله الذي قال في الحديث القدسي : (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا…) وهذه في الناس كافة ، وقال : “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا” وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، “بِحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ”.
إن العيدين الرئيسيين في الإسلام عيد الفطر وعيد الأضحى وارتباطهم بركني صيام رمضان وحج البيت مشبعان بروح التضحية في دلالات وأعمال الصوم والحج ، وليسا فرحا شكليا يرتبط بأداء الركنين ، إن المغزى والحكمة يجب أن تتجسد فيما تم تحقيقه من مراجعات وإصلاحات وأعمال تعود علينا بالنفع الكبير كأمة متضامنة ومتآزرة في حياتنا هاته، وتكون بذلك علامة فوز بالحياة الأخرى ،،،
إن الأعياد ليست مجالا للتنافس المفسد والتبذير المفلس، وليست لترسيم الفقر والسعاية والتبجح بالإحسان المفترى عليه و” التضحية ” المكذوب عليها بفتات الطعام والمال وحث الناس على الإقتراض والتضييق على العيال لأشهر عدة لشراء كبش ، إن العيد الحقيقي هو أن ننجز ما يجسد أننا بالفعل ” خير أمة اخرجت للناس ” بالعدل والتضامن والتعاون والعيش الكريم ، و بأن يكون « الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » وأننا ” مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى” أخرجهما البخاري …
إننا إن أردنا أن نمتلك الريادة والصدارة في كل المجالات فيجب القطع مع الظلم و أسبابه ونتائجه ، وآنذاك يكون لتضحيات الشعب بكل طبقاته معنى ومغزى ..أما أن يكون البسطاء واصحاب الدخل المنعدم إلى المتوسط ..، هم من “يضحي” و يدفعون ثمن السياسات المنحازة طبقيا والترقيعية والتفقيرية ، فالأمر غير مقبول ومتعارض مع الثقافة الحقوقية ، وليس من الحكمة تجاهل آثاره المدمرة بالإستمرار على نفس النهج ..
جاء في الحديث : « اللَّهُمَّ مَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِىَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ». – رواه مسلم
تارودانت : الثلاثاء 28 غشت 2018.