الكل يعلم، بالرغم من التطوير والتحيين المتكرر لدليل المساطر الخاصة بالشواهد الإدارية، أن الطرق المتبعة لتمكين المواطنين من عدد منها ينزلق في كثير من الحالات ليتحول إلى وضعيات معقدة يترتب عنها معاناة وتذمر واستياء لدى المواطنين المعنيين بها (شهادة الخطوبة، شهادة الولادة، شهادة المطابقة، شهادة إثبات الزواج غير الموثق للأحياء والأموات، شهادة إثبات النسب،…..).
كما هو معروف ومعمول به، قرار منح عدد كبير من الشواهد الإدارية للمواطنين في إطار المنظومة الإدارية المغربية ومساطرها الجارية، يتأسس على الإقرار الموثق لأعوان السلطة، مدعوم في أغلب الأحيان بشهادة شاهدين أو أكثر، بحيث تكون الديباجة الاعتيادية لهاته الشواهد كالتالي “على أساس البحث الذي أجراه عون السلطة………، واستنادا على شهادة الشاهدين السيدين ……).
إن رجل السلطة، الذي يخضع للحركة الانتقالية كل أربع سنوات تجده دائما حذرا (وهذا من حقه) في التوقيع على الشواهد الإدارية المختلفة خاصة تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية للمواطنين وممتلكاتهم وأنسابهم، بحيث يبقى دائما مرهونا، نظرا لتكرار عدد من وقائع التزوير والتدليس، وما يترتب عنها من معاناة المتابعات القضائية والإعلامية، برأي عون السلطة (المقدمين والشيوخ) والشهود.
فإذا أضفنا صعوبة الوثوق الأوتوماتيكي في مواضيع طلبات الشواهد الإدارية المعبر عنها من طرف أصحاب المصلحة نظرا لغياب نص قانوني يحدد مسؤوليتهم فيها، وما يسببه ذلك من خوف وعرقلة لتنفيذ الخدمات المقدمة لهم بالسرعة المطلوبة، إلى تنازع الاختصاصات أو الأدوار في مجال تنفيذ مراحل المساطر الإدارية المتعلقة بالشواهد الإدارية ما بين السلطات الإدارية المحلية، تبقى الحاجة إلى عقلنة هذا المجال ذات أولوية مستعجلة. لقد بات من الضروري التفكير الجدي والمسؤول والشفاف في مسطرة تسليم هاته الشواهد، بالشكل الذي يجعل المغربي يحس بأتم السعادة والاطمئنان وهو يتجه إلى مكاتب الإدارة المغربية لقضاء حوائجه ومصالحه، ومجبرا، في نفس الوقت في إطار القانون، على التحلي بالصدق في تصاريحه وطلباته.
ففي إطار ما راكمته الإدارة المغربية من تجربة غنية في مجال الهيكلة وإعادة الهيكلة وعقلنة المساطر الإدارية وتبسيطها طامحة بذلك إلى التقدم في إبداع آليات محاربة الفساد والرفع من ثقة المغاربة في إدارتهم، أرى أن الوضعية الحالية، المتقدمة نسبيا على مستوى الممارسة، تفرض اليوم وضع الثقة في تصاريح المواطنين وتحميلهم المسؤولية جنائيا في حالة ضبط حالات التصاريح الكاذبة.
ولكي لا يتم اتهام فحوى هذا المقال بالمتقدم عن الواقع من طرف جهة ما، وطموحا مني في دعم مسار الإصلاح الإداري الحالي ومراكز القرار المسؤولة على بلورته وإعداده وتنفيذه، أقترح في هذا المجال طريقتين لا ثالث لهما، أصف الأولى مجازا ب”المتقدمة” والثانية ب”الإصلاحية” (من حيث الرؤية الشخصية).
الطريقة المتقدمة:
أقترح من خلالها اعتماد تصريح المواطن المصادق على صحة توقيعه كوثيقة أساسية من أجل تمكينه من الشهادة المطلوبة، والوثوق به ما لم يتم إثبات العكس من طرف السلطة المحلية أو أحد “المعترضين” عن ذلك (مع التحديد القانوني لآجال تسليم الشهادة). وهنا يمكن إسناد مهام المصادقة قانونا على هذه التصاريح إلى مهنة جديدة منتمية للقطاع الخاص يمارس صاحبها مهامه من خلال مؤسسة يمكن تسميها مثلا “مكتب المصادقة على التصاريح”، ويكون خاضعا لمراقبة السلطة الإدارية الإقليمية (المرخص له لممارسة هذه المهنة يجب أن يكون على الأقل مجازا)، أو إضافة هذا المهام إلى اختصاص العدول (السعر لا يجب أن يتجاوز 50 درهما للتصريح) أو الاقتصار على الأقل على خلق مكتب محلي عمومي يكلف بهذه المسؤولية المحورية في مجال الخدمات المقدمة للمواطنين (السعر هو واجب التنبر). ويمكن للجهة المختصة المعتمدة أن توثق التصريح الشفوي للمواطن كتابيا وبالصورة والصوت خاصة في حالة جهله للقراءة والكتابة. ويبقى من حق السلطة المحلية، في إطار الحفاظ على مشروعية الوثيقة الإدارية الرسمية، القيام بالأبحاث البعدية من أجل التيقن من صدقية التصاريح المدلى بها من عدمها. ففي حالة ضبط حالات التصاريح الكاذبة، سواء من طرف السلطة المحلية المختصة أو بواسطة شكاية يقدمها أحد المتضررين أو المعترضين إلى السلطة المحلية أو الإقليمية، يكون مصير المصرح المتابعة الجنائية، وتكون العقوبة مواتية لحجم الضرر الذي لحق بالنظام العام أو بأصحاب المصلحة (المشتكين).
الطريقة الإصلاحية:
أقصد بصفة “الإصلاحية” تحسين الطريقة الحالية المتبعة مؤقتا في انتظار المرور إلى الطريقة الأولى، وذلك من خلال تقنين مساطر إعدادها وتسليم الشواهد المرتبطة بها، وضمان توحيدها، وتسريع تطبيقها. كل شهادة إدارية يجب أن تكون موضوع طلب معلل، متضمن للتصاريح الداعمة له، والمثبتة بصحة توقيع صاحب المصلحة. يقدم هذا الطلب، بعد تحديد تاريخ توقيعه، إلى مكتب عمومي محلي مختص يحمل تسمية موحدة على مستوى كل الإدارات المحلية المختصة، ويتسلم صاحبه بمقتضاه إقرارا رسميا بالتوصل. على القانون في هذه الحالة أن يحدد الأجل الأقصى لتسليم هاته الشواهد مع إجبارية إشعار أصحابها بقرارات مكتوبة في حالة الرفض. إنها الوسيلة التي ستمكن من تقوية العلاقة ما بين السلطتين القضائية والتنفيذية. فالقرارات الإدارية المبررة للرفض، والممنوحة لأصحاب المصلحة، هي الآلية الوحيدة التي ستضمن لهم الحق في الوصول إلى النقطة النهائية في مسار إنجاز وتقديم كل خدمة عمومية على حدة. إنها القرارات التي ستضمن لهم الحق في الطعن في مضمونها لدى المحاكم الإدارية بالمملكة. فرئيس المكتب المختص، الذي يمارس مهامه تحت إشراف رئيس الإدارة، هو المخاطب الوحيد بالنسبة للمواطن، وهو المسؤول الأول على تنفيذ المسطرة القانونية من بدايتها إلى نهايتها.
خاتمة:
إن تحميل المواطن رسميا المسؤولية على تصريحاته من أجل تقديم طلباته للحصول على الشواهد الإدارية الخاصة به سيقدم خدمة جليلة لمسار الإصلاح الإداري ببلادنا خاصة للجانب المتعلق بتجويد الخدمات العمومية. في نفس الوقت، سيضمن هذا الإجراء للدولة إتمام بناء الجسر الرابط ما بين السلطتين الإدارية والقضائية.
لقد لمسنا في عدة ملفات تفوقا ببلادنا للقضاء (الانتقال القضائي) على الإدارة (الانتقال الإداري) في إطار مسار الانتقال السياسي التوافقي (نظرا لأهمية هذا الموضوع، سأخصص له مقالا خاصا). ومن أجل ضمان القوة اللازمة للعلاقة ما بين ما هو قضائي وإداري، تحتاج بلادنا إلى قوانين ومساطر مفصلة تفصيلا دقيقا وواضحا بالشكل الذي يتيح للمسطرة الإدارية الاستفادة من مضمون الأحكام القضائية. وهذا الأمر لن يتحقق بالسرعة المطلوبة ببلادنا إلا في حالة تيسير عملية الطعن في القرارات الإدارية. فاحترام القضاء، كمبدأ دستوري، أصبح من المكتسبات السياسية والحقوقية ببلادنا. والحالة هاته، يبقى من غير المستساغ تعبير الإدارة من حين لآخر عن مقاومتها للأحكام القضائية المتقدمة في حمولتها الحقوقية والثقافية تحت ذريعة “صعوبة التنفيذ” أو من خلال إغلاق باب التواصل بدون سند قانوني أمام أصحاب المصلحة.