لا أعتقد أنه مازال بيننا اليوم أحد يشك في نجاعة حملة “المقاطعة الاقتصادية”، التي لجأ إليها المغاربة مضطرين منذ 20 أبريل 2018، لمقاومة موجة الغلاء المتزايد بجنون خلال الأعوام الأخيرة، وخاصة مع مجيء حكومتي ما بعد “الربيع العربي” بقيادة حزب “العدالة والتنمية” ذي المرجعية الإسلامية. حيث أنه انطلاقا مما تتعرض له القدرة الشرائية للمواطنين من ضربات متلاحقة وموجعة، وأمام فشل الاحتجاجات الشعبية بمختلف مناطق المغرب في الدفع بالمسؤولين إلى رفع قيود الظلم والقهر والتهميش والإقصاء، والاستجابة لمطالب المواطنين الملحة في تحقيق العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، فضلا عما يترتب عنها من مواجهات عنيفة بين المحتجين والأجهزة الأمنية واعتقالات عشوائية ومحاكمات جائرة، كان من الضروري التفكير في نمط آخر للاحتجاج، يكون أكثر فعالية.

      ذلك أنه في ظل تغاضي المسؤولين عن معاناة الشعب، وإصرار الحكومة على الاستمرار في نهج سياسة التجويع والتفقير والتطبيع مع الفساد التي اعتمدتها سابقتها، وبالنظر إلى فقدان الأحزاب السياسية بريقها وتخليها عن دور الوسيط بين المواطن والنظام السياسي، وتشرذم المنظمات النقابية وارتباطها الكبير بالأحزاب، وفي غياب جمعيات حماية المستهلك وتجميد أعمال مجلس المنافسة، انطلقت بشكل عفوي في العالم الافتراضي بمنصات التواصل الاجتماعي حملة مقاطعة ثلاث علامات تجارية، استهدفت بالأساس حليب ومنتجات الشركة الفرنسية “سنطرال دانون”، الماء المعدني “سيدي علي” ومنتجات محطات “افريقيا” لتوزيع الغاز والوقود. ولم تلبث هذه الحملة أن لقيت تجاوبا جماهيريا واسعا على أرض الواقع، باعتبارها أسلوبا حضاريا جديدا، ينم عما بلغه المغاربة من نضج فكري ووعي سياسي في الدفاع عن حقوقهم، واستعانتهم بأحدث وسائل الثورة الرقمية في التعبير والتواصل…

      ولأن “المقاطعة” ممارسة غير معتادة، كان طبيعيا أن تتضارب الآراء حول أهدافها ومن يقف خلفها، لكن الغير طبيعي هو أنها قوبلت في بداية الأمر بالاستهجان والاستخفاف من لدن المسؤولين والحكومة، وراهن الكثيرون على أن يتسرب الوهن والملل إلى قادتها مع مرور الوقت. بيد أنه سرعان ما علا الاحمرار عيون السلطات، وخوفا من استفحال الخسارة لدى الشركات الاحتكارية الثلاث وانتشار العدوى إلى شركات أخرى، أخذت الحملة تتعرض لكل أنواع التضييق والاستفزاز والترهيب بالمتابعة القضائية، واللعنات تلاحق المقاطعين، إلى حد وصفهم بأقذع النعوت “المداويخ” من طرف وزير المالية المقال مباشرة بعد خطاب العرش بمناسبة الذكرى19  لأسباب لم تتضح بعد، واستعمال عبارات مسيئة لهم ك”الخيانة الوطنية” و”القطيع”… إلا أن ذلك لم ينل من عزيمتهم شيئا في المضي قدما نحو تحقيق أهدافهم المتمثلة في: ضرب مصالح الشركات الاحتكارية التي لا تقيم وزنا لضعف القدرة الشرائية للمواطن، إلى حين تعمل على تخفيض الأسعار والرفع من جودة المنتوجات…

      واليوم بعد مرور أزيد من ثلاثة شهور على انطلاق حملة المقاطعة، وبصرف النظر عما أثارته من ضجة إعلامية منقطعة النظير في الداخل والخارج على حد سواء، وما رافقها من لغط شديد ومحاولات التهجين والتخوين والركوب عليها أحيانا، ولا عما تكبدته الشركات المستهدفة من خسائر مادية فادحة، ولا بما طرحته من تساؤلات زيارة الرئيس المدير العام لشركة “سنطرال دانون” للمغرب، ولا ما ترتب من ردود أفعال قوية عن البيان الموقع من طرف حوالي 40 أكاديميا واقتصاديا ورجال أعمال ونشطاء سياسيين وحقوقيين وإعلاميين، الذي دعوا من خلاله إلى تعليق مقاطعة مادة حليب سانطرال دون غيرها من المواد الثلاثة لمدة عشرة أسابيع ابتداء من 7 يوليوز إلى غاية 18 شتنبر 2018، تحت ذريعة التفاعل مع ما أعلنت عنه الشركة الفرنسية من اقتراحات… ولنا أن نتساءل: لماذا لم يأخذ هؤلاء “فاعلو الخير” مثل هذه المبادرات، في المناسبات التي تضررت فيها مصالح المواطنين، وهي كثيرة ومتنوعة؟

      فإن ما يهمنا هنا والآن، هو الوقوف مليا أمام ما تقوم به شركة “سنطرال دانون” من شطحات في محاولات يائسة للالتفاف على الحملة بادعاء حسن النية ومد اليد إلى زبنائها وبدء صفحة جديدة، مستغلين هذه الفرصة للهمس في آذان القيمين على إدارتها، قائلين لهم بأن المغاربة رغم آلامهم وأحزانهم يشعرون بالفخر أمام ما حققته حملتهم من نجاحات مبهرة في الكشف عن ضعف الحكومة وحجم معاناتهم وإسماع صوتهم لأصحاب القرار والعالم أجمع وتوحيد صفوفهم في مواجهة جبروت رأس المال، وأنهم غير معنيين لا بزيارة الرئيس المدير العام للشركة الفرنسية ولا ما قام به من لقاءات تواصلية وندوات صحفية، وما أطلقه من تعهدات وفي مقدمتها شفافية الأثمنة وجودة المنتوج، وأنه لا فائدة من الاستمرار في المزيد من التلكؤ، عبر تجنيد الأشخاص وتنظيم حملات إشهارية وتواصلية تحت شعارات جوفاء، مادام الحل في أيديهم وحدهم دون غيرهم، وهو التعجيل بمراجعة الأسعار بشكل يتلاءم والقدرة الشرائية للمواطنين والحرص الشديد على الرفع من جودة المنتوج.

      من نافلة القول إنه إذا ما كانت شركة “سنطرال دانون” تسعى فعلا إلى التصالح مع المستهلك  واستعادة ثقته، فما عليها إلا أن تسارع إلى جعل منتوجاتها في متناول قدرته الشرائية وذات جودة عالية، وإذاك لن يتردد في الإقبال عليها بلهفة كبيرة ودونما حاجة إلى عروض إغرائية ولا حملات إشهارية. اللهم إلا إذا كان ما تقوم به من “أنشطة” بدعوى مراجعة أسعار موادها يندرج في إطار حفظ ماء الوجه، ورفع الإحراج عن الحكومة والشركتين الأخريين للماء والوقود.

 

الثلاثاء : 07 غشت 2018.

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…