مدخل:

لا يمكن لأي دارس للواقع العربي بشكل عام, أن ينكر دور ومكانة الوعي الديني كمكون فكري/ عقيدي وثقافي وتأثيره على سير حركة المجتمع بكل مكوناته الدينية والطائفية من جهة, وعلى طبيعة حياة هذه المكونات الاجتماعية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً من جهة ثانية. وانطلاقاً من هذا التأثير البالغ الأهمية يأتي موقف الأحزاب التقدمية بشكل عام, وموقف حزب البعث في سورية بشكل خاص من الدين, فمنذ تأسيس هذا الحزب عمل على مراعاة الشعور الديني لدى المواطنين, ومحاولة استيعاب المتدينين بشكل عقلاني في صفوف الحزب, مع تأكيده ضمناً على ضرورة تحييد الدين وعدم الزج به في المشروع السياسي, على اعتبار أن الدين في نهاية المطاف يعتبر بنظر أصحاب المشروع الإسلام السياسي عقيدة مقدسة ثابته في رؤيته ومقاصده من الحياة, وأن السياسة مصالح, والمصالح غالباً ليست ثابته وليست مقدسة أيضاً في أحيان كثيرة. ومن هذا الموقف البراغماتي من الدين, جاءت مسألة طرح العلمانية (فصل الدين عن السياسة), لتأكيد مقولة (الدين لله والوطن للجميع), واعتبار المواطنة هي الأساس, كصيغة سياسية تسعى إلى تحقيق التوازن في المجتمع, مراعياً – أي حزب البعث – البنية الاجتماعية السورية المتعددة الطوائف والمذاهب والديانات. بيد أن طبيعة التناقضات والصراعات الكثيرة التي ظهرت داخل الحزب, بسبب وضع المنطلقات النظرية للحزب على الرف في أوقات كثيرة بعد استلام الحزب السلطة, ثم غياب الوضوح الفكري والطبقي في البنيتين التنظيمية والفكرية للحزب بعد أن جرت عملية التنسيب المفتوح للمواطنين دون النظر إلى البنية الطبقية والفكرية للمنتسب, الأمر الذي أعطى للصراعات الدائرة داخل الحزب تأثيرها السلبي على حياة الحزب التنظيمية والفكرية وعلى حياة المجتمع بشكل عام, على اعتبار الحزب قائداً للدولة والمجتمع, هذا التأثير, حال في الحقيقة بين الحزب وقدرته على تحقيق التوازن والاستقرار في البنيتين الاجتماعية والفكرية داخل الحزب من جهة, وعلى قدرته في تحقيق فكرة المواطنة كونه مؤسسة سياسية تقود الدولة والمجتمع من جهة اخرى.

نعم لم يستطع الحزب طوال تاريخ نضاله أن يحقق المواطنة بمفهومها العقلاني, وظلت سياسته اتجاه المكونات الاجتماعية للمجتمع السوري تقوم على خلق حالة من التسويات الرضائية على مستوى القبيلة والعشيرة والطائفة والأيديولوجيا عند تشكيله للقيادات السياسية الحزبية والحكومية في المركز وفي المحافظات. مثلما فشل في الوصول إلى اتخاذ مواقف جريئة تجاه البنية الفكرية السائدة لا من حيث تطبيق العلمانية التي نادى بها منذ تأسيسه, ولا بالنسبة لاحتواء الخطاب الديني وتأثيره على الحياة السياسية والاجتماعية في الحزب والدولة. الأمر الذي جعله يتراجع كثيراً من الناحية الفكرية, وكثيراً ما وضع المنطلقات النظرية للحزب التي أقرها في المؤتمر القومي السادس (1966) بما تحمل من بنية فكرية تتبنى العلمية والثورية على الرف كما قلنا أعلاه, ويستغرق في ممارسة التكتيك البراغماتي على حساب مبدئية الاستراتيجية.

إن حالة الخلل الفكري والتنظيمي لحزب البعث وشهوة السلطة التي أصابت القوى السياسية المتحكمة بحياة الحزب, بعد أن تحول الحزب إلى قائد للدولة والمجتمع, وبالتالي تحوله إلى حزب شمولي/ كلياني, جعلت قياداته عبر الكثير من محطات مسيرتها النضالية ترتمي كثيراً في أحضان الدين ورجال الدين ويأتي في مقدمة هذه القيادات مؤسس الحزب نفسه “مشيل عفلق” الذي تخلى عن مسيحيته وأعلن إسلامه. أما التوجه نحو الدين والعمل شيئاً فشيئاً على إقصاء الفكر العقلاني والتنويري عن الساحتين الحزبية والاجتماعية, فقد جاء بعد أحداث الثمانينيات من القرن الماضي, وظهور الدور المؤثر للإخوان المسلمين والثورة الإسلامية الإيرانية في مجرى الحياة داخل المجتمع العربي بشكل عام والمجتمع السوري بشكل خاص. فأمام المد الإسلامي هذا راحت السلطة تفسح في المجال واسعاً امام رجال الدين في المؤسسة الدينية الرسمية كي يمارسوا دورهم من باب عقلنة الوعي الديني عند المواطنين بغية إقناعهم بطبيعة النظام السياسي القائم أولاً, ثم مواجهة الفكر الإخواني وتياره الذي كان وراء أحداث ثمانينيات القرن الماضي ثانياً, وبدلاً من أن تتكئ القيادة السياسية على الكوادر الحزبية المثقفة والمشبعة بقيم الحزب العقلانية والتنويرية, والقادرة فعلاً على استيعاب الوعي الديني وإمكانية التأثير على مجراه العام في حياة المواطنين دون المساس بالحرية الدينية والعقيدة, وفقاً لما كان يرمي إليه الحزب عند قيامه, رحنا نجد القيادة السياسية التي استمرت أكثر من عقدين من الزمن بعد انعقاد المؤتمر القطري السابع للحزب في نهاية سبعينيات القرن الماضي دون تغيير, تعمل على إقصاء ذوي الكفاءات العقلانية التنويرية داخل الحزب والتركيز على قيادات هشه ثقافياً وذات أرضية فكرية دينية, ساهمت هي ورجال الدين معاً على محاربة الفكر التقدمي وحوامله الاجتماعية داخل الحزب وخارجه. مثلما راحت المؤسسة الدينية الرسمية بتيارها (المدخلي) تعمل على تجذير الفكر الديني السلفي بصيغته الأشعرية والوهابية, والصوفية الطرقية بعد أن سمح لها بنشر الفكر الديني السلفي, عبر إعطاء الدروس الدينية في آلاف المساجد من قبل آلاف الداعيات والدعاة, مع الدعم اللامحدود من قبل المؤسسة الدينية لتحقيق أهدافها, حتى فقد الحزب في نهاية المطاف قدرته على ضبط توازنه التنظيمي والفكري من جهة, والتوازن الفكري والاجتماعي للدولة والمجتمع معاً من جهة ثانية. وكان من أبرز نتائج هذا التوجه الفكري الغيبي والامتثالي المنافي للروح العقلانية التنويرية, هو ما نراه اليوم من فوضى فكرية وأخلاقية واجتماعية وسياسية ليس لها مثيل في العالم كله. وهذا هو الشعب السوري برمته يدفع اليوم الثمن غالياً بما أصابه من هذه الفوضى التي دمرت الحجر والبشر معاً, ويأتي في مقدمة هذه الفوضى انتشار الفساد الذي استشرى ليدخل كل مسامات الحياة داخل المجتمع والدولة .

انطلاقاً من هذا المدخل نقول: إن من يتابع الفكر السلفي في حركته الفكرية والعملية في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر, يجده يشتغل في اتجاهات ثلاثة, وكل اتجاه منها يعمل لمصلحة الاتجاه الآخر, بل هو عماد له من أجل اكتمال رسالة هذا الفكر وتطبيقه في الواقع. وهذه الاتجاهات الثلاثة هي: الاتجاه الدعوي, والاتجاه المدخلي, والاتجاه الجهادي. ونظراً لوضوح كل من التيارين الدعوي والجهادي في نشاطهما, فإن اللبس وعدم الوضوح والتناقض يظهر جلياً في نشاط التيار المدخلي, أو ما يسمى بالتيار (الديني الرسمي) على اعتباره قريباً من السلطات الحاكمة ويعمل لمصلحتها أو خدمتها في تأدية مهام تتعلق بعمل الدولة ذاتها كونها الراعية للفرد والمجتمع والمسؤولة عن استقرار قيمه المادية والروحية, وعدم السماح باستغلال القيم الروحية, وفي مقدمتها الدين, حفاظاً على استقرار المجتمع وعدم الدفع به إلى متاهات قد ينتج عنها حروب أهلية تتخذ من الدين وسيلة لتحقيقها. وهذا الدور الايجابي للدولة تجاه الدين تظهر حياديته, وبالتالي إيجابياته لدى الأنظمة العقلانية التي يهمها فعلاً بناء الدولة والمجتمع بناءً عقلانياً يقوم على أهم مسألتين في بناء هذه الدولة العقلانية التنويرية, هما الديمقراطية والعلمانية.

على العموم دعونا نقف عند تحليل دور ونشاط هذا التيار أو الاتجاه المدخلي للفكر السلفي في الخطاب الإسلامي ودوره في زيادة مأزق الدول العربية والإسلامية بشكل عام وسورية التي لم ترتق بعد إلى دولة التعددية وتداول السلطة بشكل خاص, أو الوصول بتعبير آخر إلى دولة الديمقراطية والعلمانية والمواطنة, هذا التيار الذي من أهم ثوابته القبول بالنظام السياسي والاجتماعي للدولة التي يمارس نشاطه فيها, بغض النظر عن طبيعة هذا النظام وشكل الحكم فيه, وعن طبيعة المجتمع ومكوناته الدينية والعرقية. بيد أنه- أي التيار المدخلي- راح مقابل هذا القبول, يعمل على اختراق هذا النظام والعمل على إعادة هيكلته والتأثير فيه من خلال المؤسسات الرسمية للدولة نفسها وفقاً للمنظومة الفكرية والقيمية الدينية السلفية الذي يؤمن بها دعاة التيار السلفي عموماً, وبالتالي العمل على تكريسها باتجاهاتها الثلاثة. وذلك انطلاقاً من رؤيتهم لمفهوم الدولة الإسلامية المراد تطبيقها وفقاً للشريعة الإسلامية ونصوص (الحاكمية), كما بينها أحد أهم التيارات السياسية السلفية الجهادية وهو تيار ” الاخوان المسلمون”, على لسان سيد قطب في كتابه: (العدالة الاجتماعية في الإسلام) حيث يقول: ( فما يعتز به الإسلام أن لا يكون بينه وبين هذه النظم مشابه, وما يضيره ألا يكون. فالإسلام يقدم للبشرية من النظام المتكامل لا تجد مثله في أي نظام عرفته الأرض, من قبل الإسلام ومن بعده سواء. والإسلام لا يحاول ولم يحاول أن يقلد نظاماً من النظم, أو أن يعقد بينه وبينها صلة أو مشابهة, بل اختار طريقه منفرداً فذاً, وقدم للإنسانية علاجاً كاملاً لمشكلاتها جميعاً.).(1).

إذن إن التيار الديني المدخلي السلفي, – وغالباً الأشعري والوهابي – نجده في الوقت الذي يظهر فيه للسلطات الحاكمة موافقته على تقديم الخطاب الديني بما يتفق ومهام الدولة العلمانية, و ما تريده سلطاتها الحاكمة من الخطاب الديني وفقاً لمصالح مشروعها, فهو يعمل في الوقت نفسه وبشكل ممنهج على جعل هذه النظم السياسية والبنية المجتمعية التي ينشط داخلها, أن تتماشى مع المعايير القيمية المشتقة من الخطاب الإسلامي, أي مع نصوصه المقدسة من (قرآن وحديث وأثر فكري أو عملي أجمع عليه الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين حتى القرن الثالث للهجرة.). أو بتعبير آخر هم يمارسون نشاطهم الديني بناءً على الثقة التي منحتها لهم الدولة أو السلطات الحاكمة بما يتاح لهم من وسائل فكرية ومادية (مؤسسات) تضعها تحت تصرفهم الدولة, من أجل شرعنة النظام وقيمه الذي يمارسون نشاطهم فيه. ثم إعادة هيكلة هذه النظم والقيم وفقاً لخطابهم السلفي ذاته كما بينا في موقع سابق. وما جرى في الدول العربية تحت مسمى الربيع العربي يبين لنا هذا الدور المزدوج في أهدافه الذي تركه هذا التيار في ظهور تلك الأعداد الهائلة من الشباب المسلم المتأثر بالفكر السلفي التكفيري الذي كان يتلقى ثقافته الظلامية الامتثالية الوثوقية التكفيرية المشبعة بالعصبويّة الطائفية والفرقة الناجية, في جوامع الدولة وعبر وسائل إعلامها التي تشرف عليها المؤسسات الدينية الرسمية.

وقبل أن أسلط الضوء على التيار المدخلي في سورية دعونا ننظر في هذا المثال الحي والواضح كل الوضح للتيار المدخلي ودوره في الدفاع عن سياسية الحكومات المصرية ووقوفه إلى جانبها في السراء والضراء, بينما هو يقوم بمحاربة الفكر العقلاني التنويري وتصفية رجالاته, أو اقصائهم خارج الوطن كما جرى لفرج فوده وحامد أبي زيد على سبيل المثال لا الحصر.

عندما كان عبد الناصر في السلطة وهو من ظل يحارب الكيان الصهيوني حتى آخر لحظة من عمره, نجد شيخ الأزهر آنذاك “محمد شلتوت” وهو الممثل الرسمي للتيار المدخلي في مصر زمن عبد الناصر يقف ضد الكيان الصهيوني والدولة الاسرائيلية كونها دولة معتدية ومحتلة للأراضي العربية ومشردة للشعب الفلسطيني. أما في عهد السادات الذي عقد اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني, فنجد شيخ الأزهر آنذاك “عبد الحليم محمود” يقف مع كامب ديفد ويبين شرعيتها وضرورة السير في ركابها. هذا في الوقت الذي ظل مشايخ الأزهر يعملون على تلقين الفكر السلفي في جامعة الأزهر لطلابهم, الأمر الذي جعل من جامعة الأزهر قلعة للفكر السلفي الإخواني المعادي لمفهوم العروبة والدولة العربية.

بعد عرضنا هذا المثال عن طبيعة التوجه السياسي للتيار المدخلي في مصر, سنتناول دور هذا التيار المدخلي في سورية من خلال التعرض لما كان يقوم به بعض قادة هذا التيار المدخلي, إن كان على مستوى شرعنة النظام والدفاع عنه أو عدم نقده أو الخروج عليه تحت فتوى عدم الخروج على السلطان خوفاً من الفتنة كما قرر دعاة الفكر السلفي التقليدي, أمثال ابن حنبل وأبو حسن الأشعري وأبو حامد الغزالي وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم من دعاة هذا التيار عبر تاريخ الدولة الإسلامية حتى اليوم. ثم العمل على إعادة هيكلة قيم وذهنية المواطنين وفقاً لما يريده أصحاب هذا التيار أو هذا الخطاب الديني السلفي الذي جيش كل هذه الفصائل المسلحة ضد النظام.

إن ما سنقوم بعرضه هنا من رؤى وآراء صادرة عن منابر المؤسسة الدينية الرسمية في سورية, يؤكد لنا بأن سورية راحت عبر نشاط تيارها المدخلي السلفي لأكثر من أربعة عقود تتحول شيئا فشيئاً إلى قلعة للفكر السلفي, الذي يروج له عبر(23)ألف جامع, و(143)مدرسة شرعية, و(60) الف داعي وداعية, والعديد من المعاهد الدراسية العليا الدينية, ومئات معاهد تحفيظ القرآن والفقه السني, بعقلية تعمل على تفسير وتأويل النص المقدس والترويج له بعيداً عن إعطاء أي دور للعقل والإرادة الإنسانية في الحكم على هذا النص , أو النظر فيه بما يتوافق ومستجدات الحياة التي تفرض على رجال الدين ومشايخه وعلمائه في هذا التيار أن يفتحوا باب الاجتهاد كي ينسجم هذا النص مع تطور الحياة ومع طبيعة المكون الديني نفسه للمجتمع السوري. الأمر الذي جعل الرئيس بشار الأسد يخاطبهم بعد فوات الأوان بضرورة إدخال الفلسفة إلى الخطاب الديني, أي إدخال العقل كحاكم على النص من أجل فتح باب الاجتهاد بعد أن أغلقوه كل تلك السنوات الطويلة, وأن من نتائج هذا الإغلاق ما تمر به سورية اليوم من مآسي بإسم الدين والفرقة الناجية التي سمحت لعدو الداخل والخارج أن يشتغل عليها لتدمير سورية بأجندة طائفية.

لنتابع بعض النشاطات الفكرية التي مارسها بعض قادة هذا التيار المدخلي في سورية على صفحات المنابر الثقافية الدينية التي وفرتها الدولة لهم من أجل تحقيق المحبة والاستقرار بين مكونات المجتمع السوري المتعدد الطوائف والمذاهب والديانات , ويأتي في مقدمة رجال هذا التيار المدخلي الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي زعيم هذا التيار والمثل العلى لشباب الرحمن ممثلين بـ (القبيسيات) وذوي (الكلابيات القصيرة).
تعتبر مجلة” نهج الإسلام” من أهم المنابر الثقافية الدينية التابعة لوزارة الأوقاف التي صدرت في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بعد حوادث ثمانينيات. فلوا تتبعنا بعض ما نشر في هذه المجلة من رؤى وأفكار هدامة منذ السنوات الأولى لصدورها, سيؤكد لنا ما قلناه بحق هذا التيار في نشر الفكر السلفي التكفيري الظلامي الوثوقي وموقفه المعادي ليس للعقل وحرية الإرادة فحسب, وإنما عداءه لنظام الدولة نفسها ومكونها الاجتماعي والسياسي وكل الفكر التقدمي الذي لا يمكن لسورية في تعدد طوائفها ومذاهبها أن تعيش مستقرة بدونه. لأن لا حياة في سورية دون علمانية وديمقراطية تحترم الآخر وحقه في المشاركة بقيادة شؤون وطنه. أو بتعبير آخر, لا حياة في سورية إلا بتحقيق دولة المواطنة والديمقراطية والعلمانية, وعندما نؤكد على العلمانية هنا, كونها لا تعني الإلحاد ومحاربة الدين, وإنما هي في أبسط صورها بالنسبة لمسألة الدين هي فصله عن السياسة, وتعميق المحبة والتسامح بين أبناء الديانات, وعدم الرجوع إلى الطائفة والمذهب والعشيرة والقبيلة كمرجعيات تقليدية لحل قضايا الفرد والمجتمع, بل العودة إلى الدولة ومؤسساتها التي تعتبر المواطنة هي القاسم المشترك بين مكونات المجتمع, وهي وحدها القادرة على رفع وعي الفرد في ممارسة حقوقه وواجباته المشروعة تجاه الدولة والمجتمع التي كفلها له الدستور وليس الفرقة الناجية. فجوهر العلمانية هو الدين لله والوطن للجميع.
في العدد الثالث والعشرين / آذار/ 1986 من مجلة (نهج الإسلام) الرسمية الصادرة عن وزارة الأوقاف السورية, ص48 وما بعد, نجد رسالة موجهة من الشيخ “محمد سعيد رمضان البوطي ” وبموافقة وزير الأوقاف “محمد الخطيب” إلى الشيخ “عبد العزيز الباز” الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية, يشكر فيها الباز على تكليفه لجنة من هيئة البحوث السعودية للاطلاع على كتابه (الإسلام ملاذ كل المجتمعات الإنسانية), وتبيان الملاحظات التي لا تتفق ووجه الإسلام الصحيح الذي يدافع عنه الباز وتياره وهو التيار السلفي في صيغته الوهابية. فمن يطلع على مضمون الرسالة والملاحظات التي بينتها اللجنة المكلفة من الباز لدراسة كتاب الشيخ البوطي, ثم رد البوطي على هذه الملاحظات, يدرك المطلع ذاك التناغم بين فكر الشيخ البوطي والفكر الوهابي, عدا قضية واحدة اختلفوا فيها وهي قضية الكرامات, أي إدخال البوطي البعد الصوفي في الفكر السلفي, هذا مع تأكيدنا أيضاً على أن هذا الفكر الصوفي أيضاً لا ينسجم والتوجه العقلاني والعلماني للنظام السوري, كونه فكر امتثالي غيبي يحارب العقل والحياة برمتها. وإن من أسباب مقتل البوطي هو موقفه هذا من الفكر الصوفي, ومحاولته إدخاله إلى صلب الفكر السلفي التكفيري. وهذا ما قاله من قام باغتياله عندما نشر التحقيق مع من قتله على الفضائية السورية.

والشيخ البوطي ذاته نجده في مكان آخر أكثر خطورة من خلال عدائه للعلمانية في كتابه (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر), وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول عن العلمانية, وهو هنا يتبنى رأي دار الافتاء الوهابية في السعودية ذاتها حول العلمانية: ( أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد, الأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها, فحجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته, هو تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه – ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانية ضمناً, ويتقربون إلى الإسلام قولاً – قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين – بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.). وهو في هذه الموقف الفكري يواجه النظام السوري ذاته الذي يقول بالعلمانية ويعتبرها أحد المكونات الأساسية للنظام. بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء, ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام وعن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث للأسف أسبوعيا على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان, (لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام, وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.). هذا في الوقت الذي يُعتبر فيه حزب البعث الذي احتضنه حزبا عروبياً, وهو المنادي بالآمة العربية الواحدة ذات لرسالة الخالدة. مع ضرورة الإشارة هنا, بأن هذا الموقف الذي يتخذه البوطي من القومية العربية ليس جديداً, بل هو قديم يعود إلى ستينيات القرن الماضي, ففي مقال له بعنوان )حقائق عن نشأة القومية), صادر بكراس مستقل عن لجنة مسجد جامعة دمشق- قسم النشر (41), 1963 .يكتب البوطي عن القومية ودعلتها وارتباطاتهم بالماسونية والصهيونية والاستعمار, سأقتبس منها بعض أفكاره وأترك للقارئ أو المهتم العودة إلى هذا المقال ليتبين موقف البوطي ومن يقف معه ويتبنى فكره في كرههم للعروبة والقومية العربية.!.

يقول البوطي: (وإننا لو رجعنا واستقرأنا تاريخ دعاة القومية في بلادنا فإننا لن نجد صعوبة في كشف تآمرهم على بلادهم وقومهم, وبروز حقيقتهم سافرة وهي أنهم عملاء للاستعمار بكل ما في هذه الكلمة من معنى….( ويتابع في النص ذاته) قوله: إن مقدمة نشأة القومية في عالمنا الإسلامي تبدا مع بدء التجمع الصهيوني وسعيه استلاب فلسطين…ويقول في مكان آخر: .. إن كلا القوميتين (ويقصد العربية والطورانية), اتجهتا في الهجوم على عدو واحد ليس له أي شأن في الأمر, ألا هو الخلافة الإسلامية المتمثلة في السلطان عبد الحميد.).(2).

لنتابع موقفاً فكرياً آخر في مجلة “نهج الإسلام نفسها, وفي العدد /23/ السابق في الصفحة /52/, يكتبا الشيخ “فتحي الدريني”, في مقال له عن : (البعد السياسي لمعجزة الإسراء والمعراج) قائلاً: (إن هذا الحدث العظيم كان فتنة للناس بصريح النص القرآني وابتلاءً لصدق من آمن لقوله تعالى: ” وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس”, وهكذا يتبدى لنا البعد السياسي في تصفية القوم سياسياً, وتمييز مؤمنهم من كافرهم, أو ضعيف الإيمان منهم إذا ثبت أن بعض المؤمنين قد ارتد إثر بلوغه نبأ الإسراء والمعراج. وهذه التصفية السياسية الكاملة ضرورية جدا ليعلم المتخاذل من المبطل من المؤمن الصادق الذي يعتمد عليه في بناء الدولة ودفع الأخطار عنها, وتحمل الجهاد في سبيل تدعيم أركانها …) وهكذا نرى أن التيار المدخلي في سورية يربط الإيمان بالجهاد ربطاً محكماً, بحيث لا يتحقق إيمان صادق عميق راسخ دون أن تكون هناك عقيدة الجهاد جزءاً دينياً يستلزم هذا البعد السياسي بداهة في مثل قوله تعالى: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ويقتلون وعداً عليه حقاً.). هذه الفريضة كانت أولى مشاهدة معراج الرسول. وبناءً على هذه الترويج الفكري لمسألة الجهاد المدخلي في سورية يتبين لنا مسألتان كنا قد أشرنا إليهما في موقع سابق. الأولى: إن التيارات الثلاثة للسلفية وهي الدعوي والجهادي والمدخلي كلها تعمل لخدمة الخطاب السلفي التكفيري والفرقة الناجية, والثانية, هي أن قسماً كبيراً من السوريين الذين حملوا السلاح في هذه الأزمة هم نتاج هذه التوجهات الفكرية التي كانت تحقن في عقولهم يومياً عبر المنابر الثقافية التي وظفتها الدولة لهم.

أما في العدد/ 24/ من مجلة “نهج الإسلام”, لعام 1986, وفي الصفحة /67/ يكتب الشيخ “عبدالرحمن عيسى” مقالاً بعنوان: (الفكر الإسلامي نهج إلهي إنساني جامع), يقول فيه: (وبعد فإن منطلق الفكر الإسلامي في فحوى آيات الله في القرآن المجيد, المفسرة لحقائق الوجود, وليس في تنطعات المفكرين في الغرب وخططهم الثقافية المبتورة والمجذومة, التي لم تفتح باسم الله ولم يوقع عليها رسول الله, فهي مردودة على ذويها لا لكونها باطلة أو غير صحيحة, بل لوجود الاستغناء عنها بكتاب الله المهين.. فإن إخفاق النظم الوضعية مؤشر على تقدم الإسلام ليؤدي دوره المرتقب والموعود وليشل فاعلية أهل الجحود, وليعطي البشرية دفقة حب وتصفية وعطاء بعد ليل كالح.). فكل ما جاء في هذا القول هو دعوة واضحة وصريحة من قبل رجال وعلماء هذا التيار المدخلي لرفض الفكر الوضعي, واعتباره فكراً كافراً يجب أن يقصى من الوجود.

ماذا تبقى لنا أن نقول أمام معطيات هذا الفكر السلفي الذي راح يفرض نفسه في السر والعلن, ليمنحنا تحت ما سمي بالربيع العربي, مئات الفصائل المسلحة باسم الإسلام, كان من أبرز ملامح نشاطها الذي بشر به الخطاب الإسلامي الأشعري والوهابي السلفي, القتل والتدمير وتكفير الآخر وتعميق الطائفية وإرجاع سورية مئات السنين إلى الوراء, والذي يتحمل النتيجة في الحقيقة هم من فسحوا المجال واسعا لهذا الفكر السلفي التكفيري الوهابي أن ينتشر بين صفوف شبابنا, بهدف خدمة مصالح أنانية ضيقة, كان دعاتها يعتقدون بأنهم باللعب على ورقة الدين يستطيعون تسيير الدولة والمجتمع وفقاً لمصالحهم.

 

د.عدنان عويّد كاتب وباحث من سورية.

1- -سيد قطب- العدالة الاجتماعية في الإسلام- سوريا- مطبعة عيسى البابي وشركاه- ط6- 1964- ص94.
2- يراجع المصدر لهذه الرسالة : كتاب القومية والوحدة – القسم الأول- الجزء الثاني- المقالات – تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب- دمشق – وزارة الثقافة – 1994- ص 694 و697 و 700.
3- يراجع المصدر لهذه الرسالة : كتاب القومية والوحدة – القسم الأول- الجزء الثاني- المقالات – تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب- دمشق – وزارة الثقافة – 1994ص 694 و697 و 700.

 

الجمعة : 03 غشت 2018.

‫شاهد أيضًا‬

عمر بن جلون: القضية الفلسطينية ومواقف أُطُرنا * ترجمة : سعيد بوخليط

فقط مع الحالة الفلسطينية،شَغَلَ الالتباس الإيديولوجي أهمية أولية،وترتَّبت عن ذلك نتائج في …