توالت الأزمات في العالم العربي وتشعبت، وأصبح كل شيء في أزمة: السياسة والاقتصاد والمجتمع والفكر والثقافة.. ومن ذلك «أزمة الكتاب العربي» ، وهي أزمة تمتد من الحرفة إلى المعرفة. كما أن هناك أزمة في النشر العربي، باستثناء الفن والأدب اللذين يزدهران.

هناك أربعة أجيال من الفنانين، بعد الرواد الأوائل في السينما والمسرح والفنون التشكيلية والأدب بكل أشكاله وفنونه. ومازال الشعر يمثل الوجدان العربي، أصالته وإبداعه.

وأزمة الكتاب العربي ليست أزمة حرفة بل أزمة رسالة، ليست أزمة كتاب بل أزمة كتّاب، ليست أزمة صناعة بل أزمة وعي حضاري. فالمنطوق يعبر عن غير المنطوق. والمعلن عنه يكشف غير المعلن عنه. والمفكَّر فيه يدل على اللامفكَّر فيه.

وتعتبر مدينة بيروت عاصمة الثقافة العربية، وليست فقط عاصمة النشر والتوزيع. إنها العقل العربي في صيرورته التاريخية. لذلك تم غزوها من الكيان الصهيوني عام 1982 وحصارها. ومازال التآمر عليها، وعلى كل لبنان، ومخاطر الحرب الأهلية لم تتبدد بعد في لبنان، بغية تفتيته إلى دويلات طائفية وعرقية، أسوةً بالعراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا.. في عصر الإمبراطورية الأميركية وإسرائيل الكبرى وما يطلق عليه «الشرق الأوسط الجديد»، وتوحيد العالم كله كقرية صغيرة باسم العولمة!

والعولمة ليست اتجاهاً واحداً، بل تمثل اتجاهاً مزدوجاً، توحيد المركز وتفتيت الأطراف. ولبنان هو الأصغر حجماً في الوطن العربي الذي يدخل ضمن الأطراف، لكنه (أي لبنان) يظل الأكثر استعصاءً بين الشعوب العربية. وبيروت ليست مجرد مدينة بل هي صورة ثقافة. وليس لبنان جمهورية بل هو خيال، وليس الشام فقط مجموعة إقليمية بل هو نبض أمة.

الكتاب كحرفة ليس في أزمة، بل هو كاشف عن أزمة أعمق. الكتاب كصناعة، أوراقاً وطباعة وتجليداً، بل نشراً وتوزيعاً وسلعة للبيع.. ليس في أزمة بالرغم من قلة المطبوع والموزع والمقروء مقارنة بالشعوب الأخرى. فن الطباعة يمكن تطويره باستمرار، ونقل تقنياته من موطن إلى آخر. رؤوس الأموال موجودة، والمؤسسات الثقافية عامرة، والأحزان والأفراح موفورة، والكتّاب موهوبون.. وبيروت من هذا الجانب لا تدانيها عاصمة عربية أخرى. وقد صمد الكتاب أمام أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة ووسائل الاتصال الحديثة وشبكات المعلومات.. ومازال الكتاب خير جليس وأفضل أنيس.

وعلى الرغم من ضياع حقوق المؤلفين، ووجود رقابة ضاغطة على الكتاب، وأزمة معارض الكتب، والبيروقراطية وسوء التنظيم في كثير منها، وضعف التسويق بين الأقطار العربية أو بين الوطن العربي وخارجه.. إلا أن هذه بعض مظاهر للأزمة وليست أسبابها. فهناك دور نشر عربي ومراكز أبحاث استطاعت تسويق الكتاب العربي داخل الوطن العربي. وهناك بعض دور النشر والتوزيع العربية قادرة على إيصال الكتاب العربي خارج حدود الوطن العربي. والكتب الدينية، القديمة أو الحديثة، واسعة الانتشار، وقد تخصصت فيها بعض دور النشر، وأخرجت أمهات كتب التراث في طباعات فاخرة وبأسعار معقولة، وذلك بمساعدة الهيئات والمؤسسات الدينية القائمة.

والكتب والمذكرات السياسية مثلاً لها سوق رائجة، خاصة بين الشباب المتطلع لمعرفة ما يدور وراء الكواليس السياسية وأسرارها الخفية. كما أن الكتب الفنية، لاسيما حول الحياة الخاصة للنجوم، تحظى هي أيضاً بانتشار واسع. وما تزال «التابوهات» الثلاثة، الدين والسياسة والجنس، تجد صدى لدى القراء مهما اختلفت درجة الوعي الثقافي لديهم.

القضية إذن قضية مضمون وليست قضية شكل. المضمون الذي يعبر عن وجدان الناس، حتى ولو كان الشكل معاباً في التأليف أو الإخراج، ليس في أزمة. إنما الأزمة في العمق، ‬فيما‭ ‬وراء‭ ‬الإثارة‭ ‬السطحية‭ ‬الساذجة‭ ‬لمسائل‭ ‬الواقع‭ ‬والمصير.‭ ‬الأزمة‭ ‬فيما‭ ‬يُكتب‭ ‬وليس‭ ‬فيما‭ ‬يُطبع.. إنها أزمة كُتّاب وليست أزمة كتاب.

 

الاثنين : 23  يوليوز 2018.

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…